طايع الديب - أوركسترا قطاع الطرق: محفوظ وبيتهوفن وطعنات السكين

ذات صباح من عام 1994، قرأت الخبر المفزع عن محاولة اغتيال نجيب محفوظ بأيدي أحد الشبان على خلفية فتوى بتكفيره، وهزني الحدث، إذ كيف لشاب أن يقتل شيخاً عمره 83 عاماً! وكيف طاوعه قلبه وكيف آمن عقله وكيف أمسكت يده بالسكين؟ بل والأدهى من ذلك كيف صدرت فتوى اغتياله من جاهل بالدين وبالفن وبالأدب، بل وبالحياة نفسها؟!
بهذا الحادث المثير والغريب، عن محاولة اغتيال الأديب الراحل نجيب محفوظ (1911 - 2006)، يبدأ الدكتور خالد محمد عبدالغني، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة (عين شمس) في مصر، كتابه الصادر مؤخراً (يونيو/ حزيران 2021) عن مؤسسة هنداوي بالقاهرة، بعنوان (ثلاثية التاريخ والواقع والرمز: قراءة في أعمال نجيب محفوظ).
ويقول المؤلف عن هذا الحادث إن محفوظ كان شخصاً ذا طبيعة مسالمة، محبة للحياة والخير والناس، ومتعاطفاً مع الطبقة المتوسطة، ولم يغير عاداته من حيث المشي منفرداً في الشوارع والجلوس في المقاهي، رغم ما حققه من شهرة واسعة وسمعة عالمية، ورغم عمره المتقدم، فهو أثناء الحادث كان قد تجاوز 80 عاماً، في ظل وهن الصحة واعتلال الحواس. وكانت المفاجأة من حيث سرعة تنفيذ العملية، حتى إن محفوظ ظن أن الشاب قادم ليحييه فهم برد تحيته، ولكن الجاني فاجأه وطعنه بالسكين.
والغريب أحد المتهمين في محاولة الاغتيال، كما قال الروائي المستشار أشرف العشماوي، في حديث تليفزيوني أُذيع مارس 2021، كان يتعثر في نطق اسم نجيب محفوظ، لدرجة أنه كان ينطق اسمه مقلوباً فكان يقول محفوظ نجيب!
عوالم سحرية
الكتاب، محاولة ذات طابع أكاديمي لكنه ممتع وسلس لقراءة بعض أعمال محفوظ، الهدف منها هو إضاءة النص وإبراز الجوانب التي تتعلق بالتحليل النفسي والأسطورة، حيث التعريف أولاً بالمفاهيم النفسية التي تدور حولها القراءة، وبعد ذلك تقديم التطبيق التحليلي للنص استناداً إلى تلك المفاهيم حتى لا تكون القراءة مجرد شرح وتفسير للنص بمجموعة من المفردات المغرقة في الغرابة.
ويرى (عبدالغني) أن عالم نجيب محفوظ من العوالم الروائية السحرية التي خلدت نفسها بنفسها، من خلال النسق الفني المتفرد الذي انتهجه محفوظ في إبداعه الروائي، والتطور المتلاحق في بنية وصيغة الفن الروائي في عالمه، معتبراً أن (العنونة) عنده هي جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية الداخلية للنص، فهو يختار عناوين رواياته بعناية شديدة، ويطلقها على نصوصه برهافة وشفافية تكاد تصل حد الاحتدام.
هذا الاهتمام الكبير الذي أولاه محفوظ لعناوين رواياته، وفق المؤلف، منحها في المقام الأول هذا الحضور وهذه المكانة في ساحة الرواية العربية، بل والعالمية أيضاً، فهو -أي محفوظ- يعتبر العنوان علامة وإشارة مهمة لهذا العالم الذي شيده وأحاطه بسياج من الرؤى، وجماليات التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، حتى صار لكل أعماله الروائية وشخوصه حضورها الخاص وتوهجها النصي في ساحة التلقي والنقد، كشخصية (سي السيد) التي أصبحت إشارة لسطوة الرجل في المجتمع العربي، والعوامة، والزقاق، والحارة، وغيرها من العلامات المميزة التي خرجت الرواية العربية بفضلها من المحلية إلى آفاق العالمية.
وتبحث فصول الكتاب شخصية نجيب محفوظ نفسه، وبطله المشهور عاشور الناجي في ملحمة (الحرافيش)، من وجهة التحليل النفسي، فضلاً عن محاولة فهم البناء النفسي لشخصية سعيد مهران في رواية (اللص والكلاب) التي صورت قصة محمود أمين سليمان، سفاح الإسكندرية الذي غضب جمال عبدالناصر لمقتله على أيدي رجال الشرطة، ولقبه الناس وقتها بـ(السفاح المثقف).
ويذكر المؤلف أن (محفوظ) كتب في مطلع حياته عدداً من المقالات الفلسفية والنفسية والنقدية، خلال الفترة من بداية الثلاثينات من القرن العشرين، إلى منتصفها، وصل عددها إلى 47 دراسة، وكانت المقالات الفلسفية والسيكولوجية منها حول (احتضار معتقدات، وتوالد معتقدات، والمرأة، والوظائف العامة، والمجتمع الراقي، وتطور الفلسفة إلى ما قبل سقراط، والفلسفة عند الفلاسفة، وماذا تعني الفلسفة، وفلسفة الحب، والبراجماتيزم (الفلسفة النفعية)، وفكرة النقد في فلسفة كانط).
ويعزو الكاتب ذلك إلى تأثر محفوظ بعمله في شبابه سكرتيراً لوزير الأوقاف مصطفى عبدالرازق، الذي كان أستاذاً لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، وقت أن (نجيب) طالباً في قسم الفلسفة بكلية الآداب. فهو بهذا لم يكن غريباً على علم النفس والاجتماع والتحليل النفسي.
ويشير (عبدالغني) إلى أن حياة نجيب محفوظ الفكرية في شبابه الغض مرتبطة أيضاً بتأثير اثنين من كبار المفكرين، هما سلامة موسى، ومصطفى عبدالرازق. حيث امتزاج الثقافة العربية والإسلامية، والتنوير الإنساني، واحترام قيم العلم ومنجزاته. ولعل هذا ما يفسر لنا نص الخطاب الذي كتبه محفوظ لجائزة (نوبل) الذي قال فيه: (أنا ابن حضارتين، الحضارة الفرعونية والعربية الإسلامية).
وظهرت آثار تلك الاهتمامات الفكرية المبكرة في أعمال محفوظ الروائية فيما بعد، فمقالاته عن الحب والمرأة والجنس والوظائف العامة المنشورة عام 1930م بمجلة (الجديدة)، والتي ناقش فيها التغيرات الاجتماعية والأسرية الناتجة عن تعليم المرأة وتوليها للوظائف العامة، وتغير نظرتها للبيت والزواج نتيجة تعليمها وعملها ومركزها المالي الآخذ في الظهور، واستقلالها المالي والكدر العائلي الذي قد ينتج عن ذلك، واحتمالية الطلاق، وبطالة الرجال نتيجة لزيادة فرص عمل المرأة ومنافستها القوية للرجل، نجده قد تناولها في رواية (الحب فوق هضبة الهرم)، وبعض موضوعات رواية (يوم قتل الزعيم).
أوركسترا (قطاع الطرق)
يربط المؤلف، في أحد فصول الكتاب، بين اعتماد محفوظ على الأسطورة وبين دراسته الفلسفية، التي صاغته صياغةً عقليةً ونفسيةً من طراز خاص، وشكلت رؤيته للعالم بكل عمقها وشمولها، وبكل توجهاتها في البحث عن الجوهر الذي لا تحجبه الأعراض ولا الهوامش، فقدم إسقاطاً لا شعورياً لذاته ومصيره في شخصية عاشور الناجي، فهو نفسه -نجيب محفوظ- لم يُدرك ذلك الاستبصار، حيث إنه يقول: أنا موجود بقوة في معظم رواياتي، في (قشتمر)، أنا الذي أتكلم وأروي، وهناك أجزاء من هذه السيرة الذاتية في (المرايا والثلاثية وصباح الورد). كما اعترف محفوظ ذات مرة بشكل محدد قائلاً: (أنا كمال عبدالجواد الشاب المثالي الحالم في الثلاثية)!
ويستخدم الكاتب أساليب التحليل النفسي لدراسة آخر ما كتب محفوظ، وهو (أحلام فترة النقاهة) الذي يعده (بلا أدنى شك عمله المعجز)، وآخر أشكال السرد في الأجناس الأدبية بعد المقامة والرواية والقصة، ومن ثم كانت العناية بتقديم التحليل النفسي لهذه الأحلام التي كشفت عن البناء النفسي لنجيب محفوظ، وهناك بُعْد آخر من أبعاد إبداعه الخارق، وتحليل أبعاد الاستبصار بالمستقبل، وبخاصة بعض المشكلات المجتمعية التي تنبأ بها خلال تلك الأحلام، كون ذلك التنبؤ هو آية المبدع الحق، إذ الإبداع في أعمق جوانبه هو قوة إلهامية، بقدر ما هو قدرة على التنظيم والدقة ومواصلة المضي قدماً في الكتابة، مهما كانت الظروف غير مواتية.
ويحكي المؤلف كيف أن حلماً متكرراً كان يحير محفوظ في أخريات حياته، فقد جاءه في المنام مراراً خلال بضعة أيام، لكنه كان ما زال يفكر كيف سيحوله إلى نص أدبي ينتظم مع بقية أحلام فترة النقاهة، ثم رواه لوصيفه الكاتب الصحافي محمد سلماوي.
قال محفوظ: (إني حلمت بأنني كنت سائراً في أحد الشوارع، وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذى أيضاً بالمطاوي والسكاكين التي يحملونها، ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم الدكتور حسين فوزي، الذي أصبح يظهر الآن بشكل متكرر في أحلامي، وما إن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون، والذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم، ألحقني بهم)!
أضاف محفوظ: (دُهشت لذلك لكني أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدَوا البِذل (السموكنج) السوداء مثل عازفي الأوركسترا السيمفوني، وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته، وهنا قال لي الدكتور حسين فوزي: حاسمعك دلوقتِ سيمفونية بيتهوفن الخامسة! وبالفعل عزفت لي أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن!).
وخلاصة التحليل النفسي لهذا الحلم النقي، بحسب المؤلف، أنه دلالة على مرور (محفوظ) بأعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة، وإحساسه العميق بالإيمان بالقدر، وكأن اختياره لرموز الحلم، اللصوص والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن، الذي أُصيب بالصمم وصارع ضربات القدر، لهو تعبير صادق جداً عن بنائه النفسي المتسامح مع المخطئين، والمؤمن بدور الفن في (علاج المجرمين).
المصدر: مجلة الدوحة
الناشر: وزارة الثقافة والفنون والتراث
المؤلف الرئيسي: الديب، طايع (مؤلف)
المجلد/العدد: ع165
محكمة: لا
الدولة: قطر
التاريخ الميلادي: 2021
الشكر للاديب والصحفي الكبير ا. طايع الديب ، وبرجاء من الشاعر السوري الكبير عيسى الشيخ حسن توفير ولو نسخة من هذا العدد ولسعادته كل الشكر والتحية عيسى الشيخ حسن طايع الديب




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى