عبد علي حسن - حسّاسية المغايرة في الشعر العراقي المعاصر

لا يختلف اثنان على سعة المشهد الشعري العراقي المعاصر ، الذي بدأ بالاتساع بعد التحول في البنية الاجتماسياسية العراقية في نيسان / 2003 . وقد تبدى ذلك الاتساع باصدار المئات من المجاميع الشعرية والمهرجانات والملتقيات فضلا عن الانشطة المركزية للاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين والنوادي الشعرية الملحقة به ..وفروع الاتحاد في المحافظات وتأسيس المنتدى الادبي للشباب الذي بدأ باستقطاب القدرات الشعرية الشبابية واقامة الجلسات الشعرية لهم . ولعل مرد ذلك الاتساع هو ازاحة مركزية الانتاج الشعري الذي كان يحفل بما ينتج من شعر وظواهر ادبية في العاصمة وتهميش القدرات التي تعج بها المحافظات .وكذلك الفضاء الديمقراطي وحرية التعبير التي كفلها الدستور وسعي منظمات المجتمع المدني الى المساهمة في اقامة الانشطة الادبية واقامة المهرجانات الشعرية ..كل ذلك ادى الى ظهور عديد دور النشر في مختلف المحافظات ، ازاء هذا النشاط المتسع يحق لنا ان نتسائل هل ان مايقدم من شعر -كما- يتناسب والمعطى المعرفي والجمالي للشعر؟
والجواب سيكون وبحذر .كلا . مع وجود استثناء لبعض الاسماء التي اجتهدت في تخليق تجربتها الشعرية خلال العقود المنصرمة والتي ظلت محافظة على نمطية مشروعها الشعري لاحقا دون تغيير يذكر .
لقد اشرت في اكثر من مناسبة وبعضها نشر في الصحف الى وجود حقيقة معرفية تفسر ظهور الانماط الكتابية الجديدة وكذلك تفسير ظهور جيل شعري جديد . ومفاد هذه الحقيقة المعرفية هو ان العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون هي علاقة وحدة مؤقتة .اذ نشهد في مرحلة ما ظهور شكل ابداعي جديد استوجبه تحول في المضامين الاجتماعية التي لم تعد الاشكال القديمة من استيعابها فيحصل تناقض وصراع بين هذه المضامين والاشكال القديمة ينجم عنه ظهور اشكال جديدة تدخل في وحدة مع المضامين مؤقته .اذ حالما تتحول الى تناقض جديد بأغتناء الواقع بتحولات جديدة تستدعي اشكالا جديدة ..ويمكن ملاحظة هذه المعادلة في متابعة تطور الاشكال الادبية خلال القرون المنصرمة ..وعلى صعيد الشعر العراقي يمكن ملاحظة ذلك من خلال الربط بين التحول الاجتماعي وظهور الشكل الشعري المناسب لمعطيات ذلك التحول ابتداءا من خمسينات القرن الماضي ولحد العقد الاخير منه ..ولامجال للتفصيل هنا حول ذلك
اما بعد التحول الكبير والخطير في البنية الاجتماسياسية العراقية في مفتتح الألفية الثالثة ، فأن ظواهراً اجتماعية جديدة استتبعت ذلك التحول كان من معطياتها المزعزعة لكيان المجتمع العراقي هو الاحتراب الداخلي المتمثل بالاحتراب الطائفي الداخلي منذ 2004 ولحد الان فضلا عما شكله النشاط المحموم لما يسمى ب(داعش) بعد عام 2010
الذي جر المجتمع الى ويلات وانتهاكات على صعيد الوجود البشري والمجتمعي و ، ..فكيف تعامل الشعر العراقي مع هذه المعطيات الجديدة ؟ وماهي زوايا نظره الى فداحة مايجري على ارض الواقع من خراب بكل معانيه ودلالاته ؟ والاجابة عن هذه الاسئلة وسواها من الاسئلة تضع الشعر العراقي في منطقة عدم قدرته في استيعاب مايحصل على ارض الواقع بشكل جوهري يكشف العلاقة التي تربط الفرد العراقي بالواقع ..فاكتفت العديد من تجارب الشعراء بمقاربة الواقع مقاربة سطحية ظنا منها بأمكانية جذب المتلقي عاطفيا الى مشاريعها الشعرية متجاهلة ان ماتقدمه هو خطاب اشهاري مكشوف يعيشه المتلقي يوميا دون مخاطبة وعي المتلقي ومجادلته عبر اجتراح اليات جديدة تبتعد عن الواقع قدر اقترابها منه ..لان الشعر في النهاية ان هو الا فن وليس وثيقة تأريخية وهذه مهمة التأريخي والموثق الا انه لايمنع من تعزيز الصلة بالواقع والاخذ منه بحرفية الوقائع التي ينبغي اعادة انتاجها بشكل يضمن فهم جوهر مايجري اي استبطان الظواهر وتقديم نص الواقع الاخر --الشعري-- لاغناء تجربة المتلقي على الصعيدين الفكري والجمالي ..ولعل بعض المشاريع الشعرية الجديدة وابرزها مشروع (ميليشيا الثقافة) ينحو باتجاه تحقيق المعادلة الابستمولوجية التي اشرنا اليها والمتعلقة باجتراح شكل شعري جديد يستوعب المعطى الواقعي متجاوزا الانماط الكتابية القديمة الجامدة على صعيد التجربة الشخصية والجمعية التي تكرسها المهرجانات الشعرية التي لم تتمكن لحد الان من تقديم ظواهر شعرية جديدة تعيد الحياة لجسد الشعر العراقي ..وهنا مفترق الطرق في الشعر العراقي المعاصر ، وإزاء ذلك فقد ظهرت في المشهد العراقي الجديد مشاريعا شعرية جديدة جمعية او شخصية شبابية قد استوعبت العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون التي اشرنا اليها سلفا اذ
ان مراقبة مجريات الواقع العراقي المريرة والمعطيات التي افرزها واقع الاحتراب في
الداخل فضلا عن الاثار السلبية التي تركها التدخل الاوربي وتحديدا الاحتلال الامريكي في انتهاك حقوق ووجود الانسان العراقي قد استوجب اصطفافات اجتماعية وسياسية ودينية اسهمت في ضخ مضامين جديدة تستدعي زحزحة الساكن والتقليدي في وسائل واشكال التعبير الشعري السائدة والتي شكلت خطابا تحديثيا استجاب كثيرا لمعطيات الحربين الخارجيتين اللتين خاضهما النظام البائد في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي اذ ظهرت مشاريع شعرية شخصية رفدت المشهد الشعري العراقي بالعديد من التجارب الشعرية المهمة والتي اشار اليها النقد العراقي بالتقييم الايجابي والمؤثر وشكل المنجز الشعري الثمانيني والتسعيني من العلامات الفارقة في مسيرة الشعر العراقي
اذ شهد هذا المنجز تطورا في قصيدة النثر والنص المتداخل الاجناس وظهور اشكال شعرية اتخذت من التجريب اسلوبا اثرى المشهد الشعري الّا ان هذا المنجز الذي كان خطابا موجها مضادا للانتهاكات التي تعرض لها الفرد العراقي جراء الحربين وفق مضامين مسكوتا عنها ...
ولعل هذا الامر واحدا من دوافع المشاريع الشعرية الجديدة التي ولدت نتيجة التحول البنيوي للمجتمع العراقي منذ نيسان 2003ومنها مشروع (ميليشيا الثقافة) الذي كانت محافظة بابل حاضنته .فقد اتفق الشعراء الشباب يتقدمهم الشاعر التسعيني مازن المعموري على تقديم خطاب شعري صادم من خلال الافصاح والابانة والكشف عن مجريات الواقع العراقي المتسم بالغرائبية و
المنتهك لوجود الشخصية العراقية وحقها في الحياة .وبذا فأن خطاب شعراء ميليشيا الثقافة كان مضادا لموجهات المسكوت عنه التي تضمنها منجز الثمانينات والتسعينات الذي كان بسبب من قسوة المؤسسة السياسية والثقافية في تصفية خصومها ..
على ان الخطاب الافصاحي لمشروع ميليشيا الثقافة لم يكن خطابا توثيقيا او يتجه لأرخنة مجريات الواقع وتفاصيله المعروفة للمتلقي كاسماء امكنة او تواريخ احداث ..ومحاولة استبطان الظواهر التي تفرزها حالات الاحتراب الداخلي او ما تقوم به الجماعات المسلحة كتنظيم مايسمى داعش وماتقوم به من اعمال معادية للوجود الانساني ..وتقديم جماليات القبح الذي يحفل به الواقع العراقي المعاصر بصيغ واشكال شعرية جديدة تستوعب المعطيات الجديدة ومستجيبة لها بتجاوز الاشكال والتعبير الشعري السائد .
ولعل اهم مظهر اسلوبي لشعراء ميليشيا الثقافة هو التحول في مكان تلقي الشعر اذ يتم اختيار امكنة الانتهاك ( مقبرة السلام. حقول الالغام . المستشفيات. سيارة الاسعاف. المشرحة .مقبرة السيارات المفخخة .نهر جاسم .اقفاص الاعدام.. المخلفات الامريكية . نقرة السلمان ...) مستفيدين من وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية في بث منجزهم الشعري المختلف وفق اسلوب كل شاعر منهم تجمعهم رؤية واحدة . لقد انطلق المشروع الاول لهذه الميليشيا قبل أعوام في مقبرة السلام وشارك فيه كل من الشعراء..
( مازن المعموري. كاظم خنجر .احمد ضياء.علي تاج الدين . عباس حسين .وسام علي . احمد جبور .حسن تحسين .محمد كريم .علي ذرب.) اذ اهتم مشروع هؤلاء الشعراء بالموقف الادائي للنص الشعري موفرين للمتلقي فرصة التفاعل مع مكان الحدث الذي يثير في ذات المتلقي شعور معايشة الحدث وتأثيره النفسي عليه ..لقد اثار مشروع هؤلاء الشعراء الشباب اهتمام عددكبير من المهتمين بالشأن الشعري العراقي والعربي لمشروعية منجزهم وتأثيره في زحزحة الراكد والساكن في المشهد الشعري العراقي وربما العربي ايضا . ويمكن ملاحظة تأثير هذه المجموعة على الشعراء من الشباب المساهمين في ثورة تشرين 2019 ومثل هذا التأثير على عدد من الشعراء الشباب في المدن العراقية الأخرى ، وبذلك فقد ظهر المشروع الشعري للشباب على نحو مؤثر وواضح في صياغة المشهد العراقي الجديد ،ان اتصاف مشروع (ميليشيا الثقافة) الشعري بالافصاح نتيجة للكشف والابانة برؤية شعرية واسلوبية لاتعدم الخطاب الجمالي المستفز والصادم للذائقة الشعرية السائدة .
وبذلك فقد اخرج هؤلاء الشعراء الشعر العراقي الى منطقة المساهمة في الكشف عن موقف الشعر من مجريات الواقع العراقي ، وبذلك فقد شكّلت هذه المشاريع الجمعية والشخصية مغايرة السائد في المشهد الشعري عبر تخليق بلاغة النص وتفعيل شعرية النثر عبر قصيدة النثر والأداء الشعري القريب من المسرح .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى