تجسد رواية "غالية" للروائي السيناوي الشاب (أحمد سليم) حالة المجتمع البدوي في سيناء منذ بكارته الأولى حتى وقتنا هذا، هذا المجتمع الصحراوي الذي يعيش (أو كان يعيش) عزلة جغرافية وثقافية حفظت عليه أنماطه الثقافية والاقتصادية التي تجعله أقرب إلى المجتمعات الفطرية البسيطة. ومع ذلك لم تحمِه هذه البساطة والبراءة من أحداث تاريخية وسياسية كبرى اتخذ (أحمد) منها مادة تخييلية يبني بواسطتها عالم روايته، منطلقا من بؤرة أساسية هي (الحرب) التي تعانيها شخصيات الرواية في أجيالها الثلاثة المتعاقبة والمتشابكة في آن واحد، حتى أن الجدة (غالية) عاصرت خمس حروب توالت على سيناء!
وترصد الرواية عبر سرد فني ممتع تاريخ صراع البسطاء في سيناء؛ من أجل الانتصار لإرادة الحياة، صراعهم مع ظروف بيئية واجتماعية وتاريخية، كلها تمثل الغاية القصوى في القسوة والشدة والعنف. وهو صراع تتصل حلقاته على نحو يجعل المَشاهد المتكررة المتشابهة حالة بطولية مُستدامة تُعاش عقودا عددا، ولا ينقطع تناسلها عبر الحقب الزمنية المتتالية التي بلغت أكثر من سبعين عاما، هي مدى الزمن السردي للرواية التي يتقاطع فيها التاريخي مع الروائي، العام مع الخاص، المرجعي الواقعي مع الجمالي المتخيَّل.
والرواية تتكئ على التاريخ بوصفه مكوّنا روائيا؛ فتبدأ أحداثها قبل حرب 48 بقليل، ثم تصوّر معاناة المدنيين البسطاء خلال حربَي 56 و67 وما تعرضوا له من تهجير وشتات قبل أن يتحقق العبور في 73؛ ليعود المهجّرون إلى سيناء، مع إشارة بليغة إلى صمود وتضحيات الذين ثبتوا ولم يرحلوا. وقد كان المظنون أن تستقر الأحوال وتستقيم الحياة بعد نصر أكتوبر، لولا هذه الحرب الأخيرة التي بدأت وخُتمت بها الرواية، وبين البداية والنهاية رصد (أحمد سليم) معاناة أهله للحروب المُشار إليها، وهو رصد حقق للرواية شرط الانسجام الداخلي من خلال تتبع المحطات التاريخية التي تنتظم المقومات المختلفة للرواية وتخلق لها الوحدة والتضامن والتكامل.
والرواية التي توغلت في الأحداث الماضية ظلت عينها على الواقع لا تحيد عنه؛ فهي لا تُعنى بالماضي إلا للعناية بالواقع الحاضر؛ لتقيم مع التاريخ علاقة جدلية، إذ هي تحمل من زمن إنتاجها سؤال الكتابة وما ينضوي تحته من قضايا حيوية رئيسة وراهنة. إنها تضفي – وَفق (لوكاش) – "حياة شعرية على القوى التاريخية والاجتماعية والإنسانية التي جعلت، من خلال مسارها الطويل، حياتنا الراهنة على ما هي عليه".
ولا يعني الطابع التاريخي أن (أحمد) وقع في "السرد التسجيلي" أو "الوثائقي" الذي يجعل فنية الرواية أمرا هامشيا ويقدم مقياس الصدق على مقياس الفن. لا، بل مال إلى جانب (الإنسان) الضحية، يرصد عالمه النفسي وتأثير الحرب عليه معنويا وماديا؛ لتصبح الرواية وجودا محكيا مستقلا، عالما روائيا زاخرا بالحياة، ليست حوادث التاريخ إلا خلفية له، ومجالا يهَبُ عالم الرواية إحداثياته، لا مجرد نسخة من التاريخ تقول ما يقوله هو بلغة سردية أخرى، بل لتقول هي ما لم يقله التاريخ، مستثمِرة أحداثه الواقعية وقدرة الكاتب التخييلية في إنتاج دلالتها الأدبية والإنسانية التي تدور حول معاناة الإنسان من وطأة أحداث لم يشارك هو في صنعها، فنجد الرواية تلح كثيرا على نفور (غالية)، في مهجرها، من مجرد اسم (الحرب) التي أفقدتها (الديرة) والأب والأخ في الستينات، مثلما فقد (يحيى) أخاه الدكتور (عيد) منذ عام واحد فقط!
ورغم أن الرواية تجعل التاريخ مكوّنا أساسيا من مكوناتها، وتسعى إلى رصد ظلاله على الإنسان؛ إلا أنها لم تُخضع منطق التاريخ لمنطقها، ولم تجعله يخدمها قسرا وعنوة، ولم تغيّر ملامحه؛ فالأمر، ببساطة، أن التركيز على الحوادث التاريخية لم يكن هو همّها الأول، وإنما بُغيتها خلقُ مناخ تاريخي يفسّر سلوك الشخصيات ويؤدي دور الإقناع بالدلالة الروائية المتمثلة في اختصاص القدَر هذه المنطقة ببلاء متصل متواتر لا يد لها فيه.
ولقد جاءت البنية خطّيّة من خلال تتابع مسار الحروب المتوالية، ومدى وقعها على أسرة واحدة تمثلت في الأجيال الثلاثة، بداية من الجدة (غالية) حتى الحفيد (يحيى). صحيح أن بنية الرواية قامت في مجملها على (السرد الاستباقي)؛ فهي تقدّم بعض الحوادث أحيانا، أو (الارتدادي) حين يسير السرد نحو مناطق تجاوزها الاستباق السردي، لكن ذلك لا يشكّل سمتها البنائية، وإنما جنحت إليه للإقناع والربط بين حوادث متشابهة تمثّل المصير الواحد المتكرر لأفراد الأسرة؛ فإن مصير حُب (غالية) و(راشد) في أربعينات القرن الماضي هو نفسه مصير حُب (سالم) و(ريحانة) في الستينات، وهو نفسه مصير المهندس (يحيى) مع المهندسة (ليلى) في القرن الحادي والعشرين، لم يتغيّر القهر بتغيّر الزمان والمؤهلات العلمية الرفيعة، وهي مشاهد إنسانية تكررت بالتوازي مع المشاهد المأساوية التي نجمت عن الحروب المتتابعة: الخوف والقلق والحرمان والرحيل والموت بلا سبب. إنها طبيعة المكان الذي تتضافر كل مكوّناته الثقافية والتاريخية لتختبر صلابة هؤلاء البسطاء الذين لم يذكرهم التاريخ، رغم أنهم حملوا عبئه كاملا غير منقوص!
لقد استطاعت الرواية، بين الحقيقي والتخييلي، أن تطرّز من التاريخ الرسمي المدوّن عباءة التاريخ المحكي المُعاش المهمّش.
وترصد الرواية عبر سرد فني ممتع تاريخ صراع البسطاء في سيناء؛ من أجل الانتصار لإرادة الحياة، صراعهم مع ظروف بيئية واجتماعية وتاريخية، كلها تمثل الغاية القصوى في القسوة والشدة والعنف. وهو صراع تتصل حلقاته على نحو يجعل المَشاهد المتكررة المتشابهة حالة بطولية مُستدامة تُعاش عقودا عددا، ولا ينقطع تناسلها عبر الحقب الزمنية المتتالية التي بلغت أكثر من سبعين عاما، هي مدى الزمن السردي للرواية التي يتقاطع فيها التاريخي مع الروائي، العام مع الخاص، المرجعي الواقعي مع الجمالي المتخيَّل.
والرواية تتكئ على التاريخ بوصفه مكوّنا روائيا؛ فتبدأ أحداثها قبل حرب 48 بقليل، ثم تصوّر معاناة المدنيين البسطاء خلال حربَي 56 و67 وما تعرضوا له من تهجير وشتات قبل أن يتحقق العبور في 73؛ ليعود المهجّرون إلى سيناء، مع إشارة بليغة إلى صمود وتضحيات الذين ثبتوا ولم يرحلوا. وقد كان المظنون أن تستقر الأحوال وتستقيم الحياة بعد نصر أكتوبر، لولا هذه الحرب الأخيرة التي بدأت وخُتمت بها الرواية، وبين البداية والنهاية رصد (أحمد سليم) معاناة أهله للحروب المُشار إليها، وهو رصد حقق للرواية شرط الانسجام الداخلي من خلال تتبع المحطات التاريخية التي تنتظم المقومات المختلفة للرواية وتخلق لها الوحدة والتضامن والتكامل.
والرواية التي توغلت في الأحداث الماضية ظلت عينها على الواقع لا تحيد عنه؛ فهي لا تُعنى بالماضي إلا للعناية بالواقع الحاضر؛ لتقيم مع التاريخ علاقة جدلية، إذ هي تحمل من زمن إنتاجها سؤال الكتابة وما ينضوي تحته من قضايا حيوية رئيسة وراهنة. إنها تضفي – وَفق (لوكاش) – "حياة شعرية على القوى التاريخية والاجتماعية والإنسانية التي جعلت، من خلال مسارها الطويل، حياتنا الراهنة على ما هي عليه".
ولا يعني الطابع التاريخي أن (أحمد) وقع في "السرد التسجيلي" أو "الوثائقي" الذي يجعل فنية الرواية أمرا هامشيا ويقدم مقياس الصدق على مقياس الفن. لا، بل مال إلى جانب (الإنسان) الضحية، يرصد عالمه النفسي وتأثير الحرب عليه معنويا وماديا؛ لتصبح الرواية وجودا محكيا مستقلا، عالما روائيا زاخرا بالحياة، ليست حوادث التاريخ إلا خلفية له، ومجالا يهَبُ عالم الرواية إحداثياته، لا مجرد نسخة من التاريخ تقول ما يقوله هو بلغة سردية أخرى، بل لتقول هي ما لم يقله التاريخ، مستثمِرة أحداثه الواقعية وقدرة الكاتب التخييلية في إنتاج دلالتها الأدبية والإنسانية التي تدور حول معاناة الإنسان من وطأة أحداث لم يشارك هو في صنعها، فنجد الرواية تلح كثيرا على نفور (غالية)، في مهجرها، من مجرد اسم (الحرب) التي أفقدتها (الديرة) والأب والأخ في الستينات، مثلما فقد (يحيى) أخاه الدكتور (عيد) منذ عام واحد فقط!
ورغم أن الرواية تجعل التاريخ مكوّنا أساسيا من مكوناتها، وتسعى إلى رصد ظلاله على الإنسان؛ إلا أنها لم تُخضع منطق التاريخ لمنطقها، ولم تجعله يخدمها قسرا وعنوة، ولم تغيّر ملامحه؛ فالأمر، ببساطة، أن التركيز على الحوادث التاريخية لم يكن هو همّها الأول، وإنما بُغيتها خلقُ مناخ تاريخي يفسّر سلوك الشخصيات ويؤدي دور الإقناع بالدلالة الروائية المتمثلة في اختصاص القدَر هذه المنطقة ببلاء متصل متواتر لا يد لها فيه.
ولقد جاءت البنية خطّيّة من خلال تتابع مسار الحروب المتوالية، ومدى وقعها على أسرة واحدة تمثلت في الأجيال الثلاثة، بداية من الجدة (غالية) حتى الحفيد (يحيى). صحيح أن بنية الرواية قامت في مجملها على (السرد الاستباقي)؛ فهي تقدّم بعض الحوادث أحيانا، أو (الارتدادي) حين يسير السرد نحو مناطق تجاوزها الاستباق السردي، لكن ذلك لا يشكّل سمتها البنائية، وإنما جنحت إليه للإقناع والربط بين حوادث متشابهة تمثّل المصير الواحد المتكرر لأفراد الأسرة؛ فإن مصير حُب (غالية) و(راشد) في أربعينات القرن الماضي هو نفسه مصير حُب (سالم) و(ريحانة) في الستينات، وهو نفسه مصير المهندس (يحيى) مع المهندسة (ليلى) في القرن الحادي والعشرين، لم يتغيّر القهر بتغيّر الزمان والمؤهلات العلمية الرفيعة، وهي مشاهد إنسانية تكررت بالتوازي مع المشاهد المأساوية التي نجمت عن الحروب المتتابعة: الخوف والقلق والحرمان والرحيل والموت بلا سبب. إنها طبيعة المكان الذي تتضافر كل مكوّناته الثقافية والتاريخية لتختبر صلابة هؤلاء البسطاء الذين لم يذكرهم التاريخ، رغم أنهم حملوا عبئه كاملا غير منقوص!
لقد استطاعت الرواية، بين الحقيقي والتخييلي، أن تطرّز من التاريخ الرسمي المدوّن عباءة التاريخ المحكي المُعاش المهمّش.