محمد مهدي الجواهري - المٌحَرَّقَة

أَحاوِلُ خرقاً في الحياةِ فما أجرا … وآسَفُ أن أمضي ولم أُبقِ لي ذكرا
ويُؤلمني فرطُ افتكاري بأنَّني … سأذهبُ لا نفعاً جلبتُ ولا ضُرّا
مضتْ حِججٌ عَشْرٌ ونفسي كأنها … من الغيظ سيلٌ سُدَّ في وجهه المجرى
خيَرْتُ بها ما لو تخلَّدتُ بعدَه … لمَا ازدَدْتُ عِلماً بالحياةِ ولا خُبرا
وأبصرتُ ما أهوى على مثلهِ العمى … وأُسمعتُ ما أهوى على مثلهِ الوَقْرا
وقد أبقتِ البلوى على الوجهِ طابَعاً … وخلَّفَتِ الشحناءُ في كبِدي نَغرا
تأمَّلْ إلى عيني تجدْ خَزَراً بها … ووجهي تُشاهِدْه عن الناس مُزورّا
ألم تَرَني من فرطِ شكٍّ ورِيبةٍ … أُري الناسِ ، حتى صاحبي ، نظراً شزرا
لبستُ لباسَ الثعلبيِّينَ مُكرهاً … وغطَّيتُ نفساً إنَّما خُلقت نَسرا
ومسَّحتُ من ذيلِ الحَمامِ تملّقاً … وأنزلتُ من عَليا مكانتهِ صقرا
وعُدتُ مليء الصدَّرِ حِقداً وقُرحةً … وعادت يدي من كلِّ ما أمَّلَتْ صِفرا
أقولُ اضطراراً قد صبَرتُ على الأذى … على أنني لا أعرِفُ الحُرَّ مُضطرّا
وليس بحُرٍّ مَن إذا رامَ غايةً … تخوَّفَ أن ترمي به مَسلكاً وعْرا
وما أنتَ بالمُعطي التمرُّدِ حقَّه … إذا كنت تخشى أن تجوعَ وأن تَعرى
وهل غيرَ هذا ترتجي من مَواطنٍ … تُريد على أوضاعها ثورةً كبرى
مشى الدهرُ نحوي مستثيراً خطوبَه … كأني بعينِ الدهر قيصرُ أو كسرى
وقد كانَ يكفي واحدٌ من صروفهِ … لقد أسرفتْ إذ أقبلتْ زُمراً تترى
مشى لي كعاداتِ المخانيثِ دارعاً … يُنازِل قِرْناً مُثخَناً حاسِراً صدرا
خليّاً من الأعوانِ لا ذُخرَ عندَه … سوى الصبرِ أوحشْ بالذي صحبَ الصَّبرا
وما كانَ ذنبي عندَه غيرَ أنني … إذا مسَّني بالخيرِ لم أُطِلِ الشكرا
ولم أتكفَّفْ باليسيرِ ولم أكنْ … كمستأنِسٍ بالقُلِّ مستكثِرٍ نَزْرا
طموحٌ يريني كلَّ شيءٍ أنالُه … وإنْ جلَّ قَدرْاً دونَ ما أبتغي قدرا
حلَبتُ كِلا شطرَيْ زماني تمعّناً … فلم أحمَدِ الشطر الذي فَضَلَ الشطرا
شرِبتُ على الحالينِ بؤسٍ ونعمةٍ … وكابدتُ في الحالينِ ما نغَّصَ السكرا
حُبيتُ بنَدمانٍ وخمرٍ فغاظني … بأنيَ لا مُلكاً حُبيتُ ولا قصرا
ولو بهما مُتّعتُ ما زلتُ ساخطاً … على الدهر إذ لم يَحْبُني حاجةً أُخرى
فما انفكَّ حتَّى استرجعَ الدهرُ حُلوَه … وحتَّى أراني أنني لم أذُق مرّا
وجوزِيتُ شرّاً عن طُموحي فها أنا … برغميَ لا خِلاًّ تخِذتُ ولا خمرا
فانْ يُشمِتِ الأقوامَ أخذي فلم أكن … بأوَّلِ مأخوذٍ على غِرَّةٍ غدرا
وإنْ تفترِسْني الآكلاتُ فبعدَ ما … وثِقتُ بها فاستلَّتِ النابَ والظُفرا
وإن تُلهبِ الشكوى قوافيَّ حُرقةً … وغيظاً فاني قادحٌ كبِداً حرّى
وكنتُ متى أغضبْ على الدَّهر أرتجلْ … مُحرَّقةَ الأبياتِ قاذفةً جمرا
كشأنِ ” زيادٍ ” حين أُحرجَ صدرُهُ … وضُويقَ حتى قال خُطبتَه البترا
أو المتنبّي حينَ قالَ تذمُّراً … ” أفيقا خُمارُ الهمِّ بغَّضني الخمرا”
وما زلتُ ذاك المرءَ يوسِعُ دهرَه … وأوضاعَه ، والناسَ كلَّهمُ كفرا
تحولتُ من طبعٍٍ لآخرَ ضدِّه … من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النَكرا
وكنتُ وَديعاً طيب النفسِ هادئاً … فاصبحتُ وحشاً والِغاً في دمٍ نَمرا
فلَو دَبَّر الباغونَ للكيدِ خطةً … رأوا أنَّني منهُمْ بَتدبيرِها أحرى
وَلو ملكَ قارونٍ ملكتُ دَفعتُه … على كرهِ بعض الناسِ بعضَهم أجرا
وِشجَّعتُ ما أقوى يراعةَ كاتبٍ … يُزيحُ بها عن كلِّ ذي عورةٍ سِترا
وَمجَّدتُ من بَثَّ الدعايةَ ضدَّهم … ومن قالَ في تَسخيفِ آرائهم شعرا
وِلو حُمَّ لي أنْ أحكمَ الناسَ ساعةً … وأن أتوَلى فيهُمُ النهىَ والأمرا
لمزَّقتُ وَجهاً بالخديعةِ باسِماً … ولا شيتُ ثَغراً بالضَغينةِ مُفترّا
وَقَطَّعتُ كفَّيْ من يمدُّ يمينَهُ … يَصافحني في حين تَطعنُني اليسرى
وَعاتَبتُ سراً من يضِلُّ لنفسةِ … ومن ضلَّلَ الجمهورَ أخزيتهُ جَهْرا
رأيتُ من الإِنسانِ يُطغيه عُجْبُه … من الخزي ما تأباهُ وحشيَّةٌ تَضرى
إذا أُغرِيتْ هذي بأكلِ فريسةٍ … فهذا بأنْ يلهو بتعذيبها مُغرى
أتعرفُ كم من أصيَدٍ مُمتلٍ قهرا … وكم حُرَّةٍ تشكو ومَن حولَها ، الفقرا
لينعُمَ مَن إنْ عاشَ لم يُدرَ نفعُه … وإنْ ماتَ لم يعرِف له أحدٌ قبرا
أتعرفُ ما يأتيه في السرِّ ناصبٌ … على العينِ منظاراً على الناسِ مغترّا
يُقلِّبهُ بينَ الجموعِ دلالةً … على أنه أذكى من الناس أو أثرى
وما ميَّزتْهُ عن سواه فوارقٌ … سوى أنه قد أتقنَ الرَّقصَ والزمرا
وهذا الذي إحدى يديهِ بجيبهِ … وأُخراهما تلهو بشاربه كِبرا
ولو فتَّشوا منه السَّبالينِ شاهدوا … خلالَهما العاهاتِ محشورةً حشرا
وهذا الذي رغمَ النعيم وشرخهِ … يُرى حاملاٍ وجهاً من الحقدِ مُصفرّا
وهذا الذي إنْ أعجبَ الناسَ قولهُ … مشى ليُريهمْ أنه فاتحٌ مِصرا..
وهذا الذي قد فخَّمتْه شهادةٌ … خلاصتُها أنَّ الفتى قارئٌ سطرا
ويكفيكَ منه ساعةٌ لاختباره … لتعلمَ منها أنه لم يزل غِرّا
وهَبْ أنه قد أُلهِمَ العلمَ كلَّه … وحلَّلَ حتى الجوهرَ الفردَ والذرّا
وكانَ ” شكسبيرٌ ” خويدمَ شعره … وكانت لُغى الأكوان تخدمُه نثرا
فهل كانَ حتماً أنني أنحني له … وتصطكُ مني الركبتانِ إذا مرّا..
ألمْ يدرِ هذا ” الكوكب ” الفذ أنه … كما كان حُرّاً كان كلُّ امرئٍ حرّا
ذممتُ مُقامي في العراقِ وعلَّني … متى أعتزمْ مسرايَ أن أحمَدَ المسري
لَعلي أرى شِبْراً من الغَدر خالياً … كفاني اضطهاداً أنني طالبٌ شِبْرا


* نشرت في جريدة " العراق " في 9 كانون الأول / ديسمبر عام 1931
أعلى