تميزت السنتان الدراسيتان 78 و80 بإضرابات كثيرة تعدت الشهور في الكليات ومراكز التكوين. شهدت 79 ميلاد الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وكان التكوين بالمركز التربوي الجهوي بدرب غلف ضعيفا وازداد ضعفه ومستواه بفعل النضالات والإضرابات…كان الأساتذة المكونون لنا عبارة عن بقايا معلمي الاستعمار الفرنسي. جاء أحدهم من كندا ليقول لنا في محاضرة لكل دولة فرنسيتها، وتصديت له: الفرنسية واحدة وهي لغة الاستعمار الفرنسي…فغر فاه وصفق المدرج. في شهر يوليوز أعلنت نتائج التعيينات …كل الطلبة كانوا متزوجين ومعلمين سابقين، كنا أقلية أتت من الثانوي أو مما لفظته الكليات…ذهبت كغيري للبحث عن مكان تعييني…فتشت في آنفا، درب السلطان وحتى عين الشق. أحد الزملاء أضيف اسمه بقلم حبر في آخر اللائحة المرقونة بالآلة الكاتبة…بدأ الشك يتسرب إلى نفسي، أعرف الإدارة المغربية…بعد بحث طويل ومضني وتدخلات، علمت أن القرعة أو المصلحة أو الانتقام قد طوحت بي نحو…وارزازات، قال أحدهم لو أن في المدينة خيرا لجمعت أحرفها!.
في فاتح شتنبر 1980 رافقت أحد الأصدقاء إلى هناك على متن شاحنة. قضينا الليل في السفر، تناولنا العشاء في الأطلس الكبير وكان الظلام دامسا. كنا على مشارف تيزي نتيشكا وفي صمت الليل كان غناء منبعث من الوادي يصلنا، إنه عرس لا محالة، في أقاصي الوطن وحيث الفقر والتهميش، يكون هناك فرح وعرس وزفاف…
وصلنا وارزازات صبحا، ذهب صديقي ليبيع الملابس في السوق الأسبوعي وتوجهت إلى مقر النيابة…كانت المدينة صغيرة ومن السهل الوصول إلى أية بناية رسمية…دخلت على رئيس مصلحة الموظفين، ألقيت السلام كما نفعل في الدار البيضاء أو الرباط، لكن المسؤول وقف ومد يده ليصافحني…تعجبت، هنا معاملة أحسن واستقبال محترم يليق برجل تعليم… اسمي فلان وقد عينت بنيابتكم وأريد قرار التعيين ومعرفة مقر الإعدادية التي سأزاول فيها عملي…أهلا وسهلا، تفضل اجلس…الإعدادية قريبة من هنا،…هي هناك، تذهب نحو حافلات النقل (الكيران) وستجدها هناك هي قريبة… وكان يجاهد كي يبدو لطيفا خدوما…
لقد تم تعيينك في تالوين…هي قريبة…فيها السوق والقائد والدرك!
كلمة القرب نسبية، وبعد الركوب في الكار قطعت 172 كيلومترا لأصل إلى تالوين! نعم بلد الزعفران والأفاعي والعقارب والكلاوي، كان الطريق موحشا، جبال حمراء ولا شجر، لا ماء ولا حياة…وصلت قبل المغرب…وجدت مدير الإعدادية، رحب بي كثيرا…قال لي أنه كان مناضلا في النقابة الوطنية للتعليم وأنه غير انتماءه حفاظا على مصالحه! تحول نحو الاتحاد العام لان حزب الاستقلال كان يسير وزارة التعليم رغم أن العراقي كان يطبق سياسة أخرى بعيدة عن باب الحد…اكتشفت أن المدينة هي قرية بلا ماء ولا كهرباء ولا أزقة معبدة ولا يصلها البث التلفزي ويمنع فيها توزيع الجرائد! كان المدير سعيدا بلقائي وقد أصر أن أبيت عنده في المنزل الوظيفي، ابتدأ كمعيد أيام الاستعمار وتدرج في الأسلاك مقابل خدمة الإداريين حتى أصبح مديرا.
كان فخورا بهذا المنصب، أصله من طاطا، أسود اللون ولكنه يكره ويحتقر السود! …كانت أسنانه بيضاء مع نابين من الذهب!…كانت الحرارة شديدة والغبار يملأ كل مكان…سألت عن السكنى، فقال لي هناك دور للجماعة يكتريها الأساتذة…كنت أعرف مقولة ليوطي حول المغرب النافع والمغرب غير النافع، لكني تيقنت أن هناك مغربا ثالثا منسيا ومهمشا لا يدخل في تعريف المقيم العام الاستعماري…
قفلت عائدا إلى الدار البيضاء…كل الأساتذة والأستاذات تم تعيينهم بالبيضاء إلا زميلي عبد الله فقد أرسلوه إلى زاكورة وانتقاما مني للإضرابات ولملفي السابق تمت معاقبتي بتالوين!
كانت الإدارة الاستعمارية ترسل المغضوب عليهم إلى هناك آخر مركز إداري وبعده فم أزكيظ ، ثم الجزائر…
لقد اخترت التعليم عن قناعة وقدمت استقالتي من شركة النقل الجوي فلأتحمل مسؤوليتي واختياراتي والنتائج المترتبة عن ذلك…هيأت حقيبتي وتوجهت قبل 15 شتنبر 1980 إلى المجهول!
حل اليوم الموعود، جاء الأساتذة من كل حدب وصوب، من البيضاء ووجدة وطنجة ومراكش والصويرة والجديدة…لاحظت أنه لا وجود للعنصر النسوي باستثناء مدرسة جاءت رفقة زوجها…حتى المدير لم يكن يتوفر على كاتبة، بل كان له كاتب. نفس الشيء بالنسبة للتلميذات فقد كن في حدود ثمانية أو عشرة متعلمات في السنة الرابعة إعدادي، خطب فينا المدير وأوصاني بالكد والاجتهاد والصالح العام…إلخ وسلمني استعمال الزمن لكل الرابعات !كان الاعتقاد السائد أن كل الأساتذة الآتين من الدار البيضاء هم نقابيون في الاتحاد الاشتراكي ومع تقرير المصير!…وأن مستواهم جيد، ويجب الاحتياط منهم! سبقني ملفي لرئيس الدائرة قبل مدير المؤسسة، وخلال سنة كاملة، لم أتكلم عن الاتحاد الاشتراكي لأنني لست عضوا فيه ولا عن تقرير المصير في الصحراء ولا في سريلانكا، ولم أنخرط في النقابة الوطنية للتعليم لأنها لم تكن موجودة أصلا، ولا يمكن أن أكون عضوا في نقابة صفراء رغم وصايا العم ماركس. لكن هذا لم يمنعني من أن أخوض معارك مع الإدارة الفاسدة وبعض الأساتذة والإداريين الفاسقين، مدعوما من طرف بعض الزملاء وآباء التلاميذ…كانت العصابة تسرق في الداخلية وبعضهم كان يجمع التلميذات ليلا ويسهر معهن وكأنه هارون الرشيد، وبلغ التحرش الجنسي أشده الشيء الذي دفع التلميذات إلى الهرب ليلا مما فجر القضية الأخلاقية، وقد كنت مضطرا للوقوف إلى جانب تلميذاتي كشاهد في المحكمة ضد الأستاذ زير النساء الجبان…كنت رفقة بعض الأساتذة نوجه الضحايا والآباء لسلك كل السبل لمحاربة الفساد الأخلاقي والإداري وهذا ما عجل بتفكيك العصابة وطلب كل أعضائها الانتقال من تالوين مع نهاية الموسم الدراسي.
كنا نضيء بالشمع أو الغاز وكان زملاؤنا في الطابق العلوي يستعملون البطارية مما كان يتيح لهم الاستماع إلى محمد ارويشة من السابعة صباحا إلى الحادية عشر ليلا،نفس الأغاني والآهات والشجن، وكانت العقارب والثعابين حاضرة معنا حتى في غرف النوم …ولم نر لحم الخروف في السوق أبدا وعلمت متأخرا أن بعض الجزارين كانوا يذبحون أكباشا ويوزعون لحمها على القائد الممتاز، والقائد والخليفة ورجال الدرك وبعض رؤساء المصالح (الصحة، التعليم، التعاون الوطني…) أما نحن فكنا نشتري كل يوم اثنين المصادف ليوم السوق لحما لبقرات عجاف ، ونفس الأمر بالنسبة للقمح الصلب لم نر له أثرا،كان هناك الشعير والذرة أما القمح فهو للصفوة ونحن كنا من الرعاع…
كان كل أستاذ يتوفر على سرير خشبي لشخص واحد يضع تحته حقيبة سفره وكان كل الحديث والنقاش ينصب حول الحافلات والانتقال والسفر والعطل، كان البعد والإبعاد هو العامل المشترك بين كل الأساتذة إذ أنهم لم يختاروا أو يطلبوا هذا البلد غير ذي زرع ولا ضرع باستثناء المدير والحارس العام، وحتى المفتشون كانوا يحسبون ألف حساب للانتقال إلى تالوين ، كانوا نظرا لبعد المسافة ومصاريف التنقل يأتون في يوم واحد وعلى متن سيارة واحدة اقتصادا وتضامنا…ويقيم لهم المدير وبعض الأساتذة حفل غذاء على شرفهم، أو تملقا منهم، إذ لم تكن المدينة – القرية تتوفر لا على مطعم ولا على فنادق، إذا استثنينا فندق ابن تومرت الخاص بالسياح العابرين من أكادير نحو وارزازات ، وكنا نقصده مع نهاية كل شهر عند استيلام المرتب_المنحة لنتناول بعض المشروبات الكحولية، وهنا شربت أولى قنينة للجعة…وفيما تبقى من الأيام كنا نتوجه إلى مقاه شعبية لشرب الشاي أو القهوة ولعب (كولف أزير).
كان السفر من وإلى تالوين قطعة من جهنم…يوم كامل للذهاب حتى مراكش أو أكادير ثم امتطاء الحافلة ليلة كاملة حتى البيضاء، أما أبناء طنجة أو وجدة فمعاناتهم كانت أكبر…انظروا إلى هذه التعيينات الغريبة :أستاذ من أكادير يعين في طنجة وابن وجدة يرسل إلى تيزنيت وخريج المدرسة العليا أو مدرسة المعلمين أو المركز الجهوي بالرباط يطوح به إلى طانطان أو طاطا أو طا… فقط!هذا إذن خلط للأوراق والتعيينات حتى يزدهر سوق التدخلات والرشاوي والمحسوبية والزبونية والحزبية ، وكم من أستاذ اشتكى في الوزارة أو النيابة فقيل له أن اذهب إلى باب الحد في الرباط لأخذ البطاقتين الحزبية والنقابية ونقوم بتنقيلك…ولن أنسى ليلة ليلاء سافرت فيها، وهل هذا سفر إنه درب الآلام، من البيضاء إلى تالوين على متن سيارة فورد طرانزيت صحبة العديد من التجار والبضائع ولما اقتربنا من مدينة مراكش تفتقت عبقرية السائق عن فكرة الخروج عن الطريق المعبد الرسمي والمرور بين الدواوير وسط الغبار والحفر ونباح الكلاب وتطاير الدجاج كل ذلك تجنبا لحاجز الدرك وكأننا كنا نهرب المخدرات أو الأسلحة!
كان المنظر رهيبا ونحن نجتاز على متن حافلة، ربما كتب عليها على (جناح السلامة) فج تيزي نتاست، كنا على علو مرتفع وتحتنا الوادي السحيق وبه بقايا حطام شاحنات وسيارات…كان المسافرون يبدءون في الصلاة على النبي والتكبير والنطق بالشهادة بمجرد الوصول إلى ممر الموت، وبعدها بدقائق يخلدون إلى نوم عميق!
كيف تنام في مثل هذه الظروف ومصيرك معلق بين جبلين والسبيل ضيق وقد اختفت بفعل الثلوج الطريق المعبدة على بعد كيلومترات من مسجد ابن تومرت بتنمل…حين وصلنا إلى السهل في الحفظ والسلامة منعني الحياء فقط ونظرة الآخرين من الذهاب عند السائق المفتول العضلات لتقبيله وشكره…هو ذا ربما شعور ركاب طائرة أصاب محركها عطب في السماء وسط عاصفة هوجاء واستطاع الربان أن ينزل بها بسلام …أقسمت بعدها أن لا أستقل حافلة تمر من تيزي نتست…
في يوم 27 فبراير 1981 جاء عامل وارزازات محمد بوفوس والذي كان على علم بوجود معتقلات أكدز وقلعة مكونة وتكونيت والتي كانت في تراب نفوذه وخطب فينا، وقبل خطبته العصماء تكلم عضو البرلمان بن الطالب ورحب برجل السلطة وقال كلاما فارغا لم أعد أتذكره بعد ذلك تم تدشين تعاونية الزعفران وكذا دورا معدة للأساتذة ودار الطالب التي دشنت مرارا ولم تفتح أبوابها للمستفيدين، كل ذلك كان بمناسبة 3 مارس أي عيد العرش. بعدها ذهبنا في رحلة إلى أسكاون وتفنوت قرب السفح الشرقي لطبقال، عند الفجر وجدنا خليفة القائد هناك يشرب الشاي مع الشيخ منتظرا قدومنا، اختار البعض البقاء في السفح نظرا لوعورة التضاريس وطلبا للسلامة وتسلقت مع الشجعان الجبل الشامخ حتى حدود بحيرة تفنوت.. بكت خطيبة أستاذ من الألم والعياء كنا نضحك ونحن نحج إلى منطقة أسكاون عرين المقاومة وجيش التحرير.
قبلها بأشهر وبمناسبة عيد المنجمي، دعانا عمال منجم بوعازر للكوبالط إلى قضاء يوم حافل بين أحضانهم مكافأة لنا على تدريس أبناءهم وعرفانا بتضحياتنا،وكان هناك ارويشة وشيخاته، واقترحوا علينا النزول إلى قاع المنجم وقد قبل البعض وقد رفضت الفكرة خوفا، فأنا أتسلق الجبل لكني أهاب الغوص في أعماق الأرض!
في إحدى الليالي أتى رجل بمعزة للمدير كرشوة، وقد حملها أحد الأعوان على كتفيه وذهب بها لإحدى الدور بجانب المدينة لتذبح ويأكلها مع بعض الأساتذة والإداريين أعضاء العصابة، لكن العنزة لم تكن تعرف السرية ولا التكتم فأخذت تصيح في الليل مما جعل الكل يعرف قصتها. الرشوة نقدا أحسن، فليس للمال رائحة ولا صوت.
خلال ثلاثة أشهر لم أتوصل بالمنحة وكنت أقترض من شقيقي مسعود ومن أحد الأصدقاء حتى أتى الفرج.
توجهت إلى الرباط بحثا عن الحوالات الضائعة وحين وجدها الموظف طلبت منه تسليمها إلي فورا لأني بحاجة ماسة للمال، فرفض قائلا : – ستجدها في تالوين عند رجوعك، هذا هو القانون.
يوم 20 يونيو 1981 عاد صاحب شاحنة يرتعد، لقد وقعت فوضى عارمة في الدار البيضاء، تم إحراق الشاحنات والأبناك والحافلات، هناك أموات ومظاهرات واعتقالات ، لقد نجوت بجلدي وشاحنتي بأعجوبة… لم نسمع أي شيء في الإذاعة والتلفزة لا تغطي موجاتها تراب تالوين أما الجرائد فكانت ممنوعة…شعرت بالأسى الشديد…مكاني الطبيعي هو البيضاء الثائرة بين الجموع الهادرة. ماذا أفعل في هذا المنفى السحيق …في 1965 كنت في كروان في القسم السادس حينما انتفض التلاميذ والعمال في 23 مارس، وفي 1981 ها أنا بين جبلين كأنهما أسوار سجن، نفس اللون ونفس الشعور…سأعوض عن هذا الحظ التعيس بـ 1973، نعم كنت هناك في 3 مارس 1973 بين آلاف المناضلين من تلاميذ وطلبة وأساتذة ونقابيين وسياسيين، امتلأت بنا كل مخافر الشرطة وفاض الناس عن الأماكن القانونية للاعتقالات والتعذيب ففتح الكوربيس الذي كان مغلقا منذ الحرب العالمية الثانية للخدمة من جديد، ليس لإصلاح محركات الطائرات ولكن للقتل الممنهج…
شهدت السنة الدراسية 1980- 1981 جفافا مروعا، وحين سقطت أمطار في الجبل امتلأ واد سوس وعجز التلاميذ الصغار عن قطع النهر…كانت الأفاعي وبيضها وصغارها تنزل من الأعالي يجرها تيار جارف …كانت الثعابين تخرج رأسها من الماء للتنفس، وكنت بمعية عدد من الأساتذة نحمل الأطفال ونضعهم على الضفة الأخرى للنهر، والحق أن الأفاعي والثعابين كانت مسالمة كانت تفكر فقط بالنجاة بجلدها لأن المياه فاجأتها في جحورها وأخرجتها عنوة وطوحت بها في الوادي دون سابق إنذار.
بعد ثمانية وعشرين سنة عثرت في شبكة الانترنيت على نداء لأحد تلاميذي يبحث عني -لأنني كما قال- تركت أثرا طيبا وكنت نعم المعلم، على خلاف بعض المحسوبين على المهنة.
نعم أنا مدين لحزب الاستقلال بحيث يدري أو لا يدري بالتعرف على مغرب ثالث غير نافع وغير معروف فيه سيبة المخزن والإقطاع المحلي وأناس طيبين، وتلاميذ نجباء باستثناء شقيق المدير وابن رئيس الدائرة المفصول من إعدادية بالرباط.
وللحقيقة فقد كان مؤذبا ووجلا من أبيه رئيس الدائرة ومستواه كان لا بأس به خصوصا أنه قضى أربع سنوات في السنة الرابعة!4x 4 .
تالوين لوز وزعفران
وآثار الباشا
بادية للعيان
كانت لنا سيدة تقوم بأشغال البيت لا تعرف من العربية إلا كلمتين: لا أسيدي، أيه أسيدي . وذات يوم قالت لنا ما معناه أنها لن تأتي في اليوم الموالي لأنها ستذهب (سربيس) لوارزازات وعندما استفسرنا في الأمر بواسطة زميلنا المترجم فهمنا أنها ذاهبة للرقص والغناء في فرقة أحواش في إطار السخرة بمناسبة زيارة الملك للمدينة.
بدورنا استفدنا من هذه الزيارة حيث أخذت الإدارة الترابية أجهزة المطعم وأفرشة الداخلية وصرفت التلاميذ وأخذنا عطلة مفتوحة .
كانت ابنة هذه الأرملة الفخورة تأتي لمساعدتها في بعض الأوقات وكنا نعاملهما باحترام تام ، وذات يوم أو ليلة لم أعد أذكر، بلغنا أن الفتاة حامل! كنا خمسة من الأساتذة العزاب وكان الوضع حرجا، لكن المغرر بها أبعدت كل شبهة عن جماعة (الزوافرية) واتهمت صراحة موظف القباضة.
ساندناها في حدود الإمكان حيث تخلى عنها الرجال من عائلتها بدعوى أنها جلبت عليهم العار، رفض الموظف الفاسق الاعتراف بفعلته، وبعد تسعة أشهر، التحق طفل بريء بقافلة اللقطاء رغم أن والده معروف، موظفو القباضة والداخلية ساندوا زميلهم وكنا نحن بطبيعة الحال في صف اليتيمة والأرملة ولم تنفع التدخلات الحبية ولا المحكمة في إحقاق الحق.
كان القائد الممتاز ورئيس سرية الدرك يأخذان المدير إلى فندق ابن تومرت ويشربون كثيرا ثم يعرون مديرنا المحترم ويأخذون في سؤاله عن الأساتذة وأنشطتهم ثم يعرجون على زوجته وعلاقته بها، فيبدأ في الهذيان وهم يتضاحكون: كل نساء تارودانت مومسات وزوجتي منهن !
في أولوز، كان يقام سوق أسبوعي كذلك، يومها لم يكن هناك سد ولا كهرباء ولا ماء شروب، اصطف المخازنية، حوالي ثمانية، وأدوا تحية الشرف للقائد وهو يستعرضهم، كان المنظر غريبا ومضحكا وسرياليا، قائد يستعرض بضع حراس وسط سوق يملأه الغبار والضجيج كي يرضي غروره ويظهر سلطته وكأنه مارشال يستعرض فرقة للمظليين أو قوات الكوموندو!
بعد تنقيلي، بني سد على واد سوس، دخل الماء الشروب للبيوت وأنارت الكهرباء المنازل والأكواخ عوض مولد كهربائي يتيم كان ينير القرية لبضع ساعات فقط، وارتفع العقار، شيدت ثانوية، لكن لازال الغبار والفقر سيد الموقف فتالوين بين جبلي الاطلس الكبير والصغير، بقعة منسية يرسل إليها المغضوب عليهم كما كانت ليموج في فرنسا، انظر لسان العجم المدعو “روبير”.
الطاهر محفوظي
في فاتح شتنبر 1980 رافقت أحد الأصدقاء إلى هناك على متن شاحنة. قضينا الليل في السفر، تناولنا العشاء في الأطلس الكبير وكان الظلام دامسا. كنا على مشارف تيزي نتيشكا وفي صمت الليل كان غناء منبعث من الوادي يصلنا، إنه عرس لا محالة، في أقاصي الوطن وحيث الفقر والتهميش، يكون هناك فرح وعرس وزفاف…
وصلنا وارزازات صبحا، ذهب صديقي ليبيع الملابس في السوق الأسبوعي وتوجهت إلى مقر النيابة…كانت المدينة صغيرة ومن السهل الوصول إلى أية بناية رسمية…دخلت على رئيس مصلحة الموظفين، ألقيت السلام كما نفعل في الدار البيضاء أو الرباط، لكن المسؤول وقف ومد يده ليصافحني…تعجبت، هنا معاملة أحسن واستقبال محترم يليق برجل تعليم… اسمي فلان وقد عينت بنيابتكم وأريد قرار التعيين ومعرفة مقر الإعدادية التي سأزاول فيها عملي…أهلا وسهلا، تفضل اجلس…الإعدادية قريبة من هنا،…هي هناك، تذهب نحو حافلات النقل (الكيران) وستجدها هناك هي قريبة… وكان يجاهد كي يبدو لطيفا خدوما…
لقد تم تعيينك في تالوين…هي قريبة…فيها السوق والقائد والدرك!
كلمة القرب نسبية، وبعد الركوب في الكار قطعت 172 كيلومترا لأصل إلى تالوين! نعم بلد الزعفران والأفاعي والعقارب والكلاوي، كان الطريق موحشا، جبال حمراء ولا شجر، لا ماء ولا حياة…وصلت قبل المغرب…وجدت مدير الإعدادية، رحب بي كثيرا…قال لي أنه كان مناضلا في النقابة الوطنية للتعليم وأنه غير انتماءه حفاظا على مصالحه! تحول نحو الاتحاد العام لان حزب الاستقلال كان يسير وزارة التعليم رغم أن العراقي كان يطبق سياسة أخرى بعيدة عن باب الحد…اكتشفت أن المدينة هي قرية بلا ماء ولا كهرباء ولا أزقة معبدة ولا يصلها البث التلفزي ويمنع فيها توزيع الجرائد! كان المدير سعيدا بلقائي وقد أصر أن أبيت عنده في المنزل الوظيفي، ابتدأ كمعيد أيام الاستعمار وتدرج في الأسلاك مقابل خدمة الإداريين حتى أصبح مديرا.
كان فخورا بهذا المنصب، أصله من طاطا، أسود اللون ولكنه يكره ويحتقر السود! …كانت أسنانه بيضاء مع نابين من الذهب!…كانت الحرارة شديدة والغبار يملأ كل مكان…سألت عن السكنى، فقال لي هناك دور للجماعة يكتريها الأساتذة…كنت أعرف مقولة ليوطي حول المغرب النافع والمغرب غير النافع، لكني تيقنت أن هناك مغربا ثالثا منسيا ومهمشا لا يدخل في تعريف المقيم العام الاستعماري…
قفلت عائدا إلى الدار البيضاء…كل الأساتذة والأستاذات تم تعيينهم بالبيضاء إلا زميلي عبد الله فقد أرسلوه إلى زاكورة وانتقاما مني للإضرابات ولملفي السابق تمت معاقبتي بتالوين!
كانت الإدارة الاستعمارية ترسل المغضوب عليهم إلى هناك آخر مركز إداري وبعده فم أزكيظ ، ثم الجزائر…
لقد اخترت التعليم عن قناعة وقدمت استقالتي من شركة النقل الجوي فلأتحمل مسؤوليتي واختياراتي والنتائج المترتبة عن ذلك…هيأت حقيبتي وتوجهت قبل 15 شتنبر 1980 إلى المجهول!
حل اليوم الموعود، جاء الأساتذة من كل حدب وصوب، من البيضاء ووجدة وطنجة ومراكش والصويرة والجديدة…لاحظت أنه لا وجود للعنصر النسوي باستثناء مدرسة جاءت رفقة زوجها…حتى المدير لم يكن يتوفر على كاتبة، بل كان له كاتب. نفس الشيء بالنسبة للتلميذات فقد كن في حدود ثمانية أو عشرة متعلمات في السنة الرابعة إعدادي، خطب فينا المدير وأوصاني بالكد والاجتهاد والصالح العام…إلخ وسلمني استعمال الزمن لكل الرابعات !كان الاعتقاد السائد أن كل الأساتذة الآتين من الدار البيضاء هم نقابيون في الاتحاد الاشتراكي ومع تقرير المصير!…وأن مستواهم جيد، ويجب الاحتياط منهم! سبقني ملفي لرئيس الدائرة قبل مدير المؤسسة، وخلال سنة كاملة، لم أتكلم عن الاتحاد الاشتراكي لأنني لست عضوا فيه ولا عن تقرير المصير في الصحراء ولا في سريلانكا، ولم أنخرط في النقابة الوطنية للتعليم لأنها لم تكن موجودة أصلا، ولا يمكن أن أكون عضوا في نقابة صفراء رغم وصايا العم ماركس. لكن هذا لم يمنعني من أن أخوض معارك مع الإدارة الفاسدة وبعض الأساتذة والإداريين الفاسقين، مدعوما من طرف بعض الزملاء وآباء التلاميذ…كانت العصابة تسرق في الداخلية وبعضهم كان يجمع التلميذات ليلا ويسهر معهن وكأنه هارون الرشيد، وبلغ التحرش الجنسي أشده الشيء الذي دفع التلميذات إلى الهرب ليلا مما فجر القضية الأخلاقية، وقد كنت مضطرا للوقوف إلى جانب تلميذاتي كشاهد في المحكمة ضد الأستاذ زير النساء الجبان…كنت رفقة بعض الأساتذة نوجه الضحايا والآباء لسلك كل السبل لمحاربة الفساد الأخلاقي والإداري وهذا ما عجل بتفكيك العصابة وطلب كل أعضائها الانتقال من تالوين مع نهاية الموسم الدراسي.
كنا نضيء بالشمع أو الغاز وكان زملاؤنا في الطابق العلوي يستعملون البطارية مما كان يتيح لهم الاستماع إلى محمد ارويشة من السابعة صباحا إلى الحادية عشر ليلا،نفس الأغاني والآهات والشجن، وكانت العقارب والثعابين حاضرة معنا حتى في غرف النوم …ولم نر لحم الخروف في السوق أبدا وعلمت متأخرا أن بعض الجزارين كانوا يذبحون أكباشا ويوزعون لحمها على القائد الممتاز، والقائد والخليفة ورجال الدرك وبعض رؤساء المصالح (الصحة، التعليم، التعاون الوطني…) أما نحن فكنا نشتري كل يوم اثنين المصادف ليوم السوق لحما لبقرات عجاف ، ونفس الأمر بالنسبة للقمح الصلب لم نر له أثرا،كان هناك الشعير والذرة أما القمح فهو للصفوة ونحن كنا من الرعاع…
كان كل أستاذ يتوفر على سرير خشبي لشخص واحد يضع تحته حقيبة سفره وكان كل الحديث والنقاش ينصب حول الحافلات والانتقال والسفر والعطل، كان البعد والإبعاد هو العامل المشترك بين كل الأساتذة إذ أنهم لم يختاروا أو يطلبوا هذا البلد غير ذي زرع ولا ضرع باستثناء المدير والحارس العام، وحتى المفتشون كانوا يحسبون ألف حساب للانتقال إلى تالوين ، كانوا نظرا لبعد المسافة ومصاريف التنقل يأتون في يوم واحد وعلى متن سيارة واحدة اقتصادا وتضامنا…ويقيم لهم المدير وبعض الأساتذة حفل غذاء على شرفهم، أو تملقا منهم، إذ لم تكن المدينة – القرية تتوفر لا على مطعم ولا على فنادق، إذا استثنينا فندق ابن تومرت الخاص بالسياح العابرين من أكادير نحو وارزازات ، وكنا نقصده مع نهاية كل شهر عند استيلام المرتب_المنحة لنتناول بعض المشروبات الكحولية، وهنا شربت أولى قنينة للجعة…وفيما تبقى من الأيام كنا نتوجه إلى مقاه شعبية لشرب الشاي أو القهوة ولعب (كولف أزير).
كان السفر من وإلى تالوين قطعة من جهنم…يوم كامل للذهاب حتى مراكش أو أكادير ثم امتطاء الحافلة ليلة كاملة حتى البيضاء، أما أبناء طنجة أو وجدة فمعاناتهم كانت أكبر…انظروا إلى هذه التعيينات الغريبة :أستاذ من أكادير يعين في طنجة وابن وجدة يرسل إلى تيزنيت وخريج المدرسة العليا أو مدرسة المعلمين أو المركز الجهوي بالرباط يطوح به إلى طانطان أو طاطا أو طا… فقط!هذا إذن خلط للأوراق والتعيينات حتى يزدهر سوق التدخلات والرشاوي والمحسوبية والزبونية والحزبية ، وكم من أستاذ اشتكى في الوزارة أو النيابة فقيل له أن اذهب إلى باب الحد في الرباط لأخذ البطاقتين الحزبية والنقابية ونقوم بتنقيلك…ولن أنسى ليلة ليلاء سافرت فيها، وهل هذا سفر إنه درب الآلام، من البيضاء إلى تالوين على متن سيارة فورد طرانزيت صحبة العديد من التجار والبضائع ولما اقتربنا من مدينة مراكش تفتقت عبقرية السائق عن فكرة الخروج عن الطريق المعبد الرسمي والمرور بين الدواوير وسط الغبار والحفر ونباح الكلاب وتطاير الدجاج كل ذلك تجنبا لحاجز الدرك وكأننا كنا نهرب المخدرات أو الأسلحة!
كان المنظر رهيبا ونحن نجتاز على متن حافلة، ربما كتب عليها على (جناح السلامة) فج تيزي نتاست، كنا على علو مرتفع وتحتنا الوادي السحيق وبه بقايا حطام شاحنات وسيارات…كان المسافرون يبدءون في الصلاة على النبي والتكبير والنطق بالشهادة بمجرد الوصول إلى ممر الموت، وبعدها بدقائق يخلدون إلى نوم عميق!
كيف تنام في مثل هذه الظروف ومصيرك معلق بين جبلين والسبيل ضيق وقد اختفت بفعل الثلوج الطريق المعبدة على بعد كيلومترات من مسجد ابن تومرت بتنمل…حين وصلنا إلى السهل في الحفظ والسلامة منعني الحياء فقط ونظرة الآخرين من الذهاب عند السائق المفتول العضلات لتقبيله وشكره…هو ذا ربما شعور ركاب طائرة أصاب محركها عطب في السماء وسط عاصفة هوجاء واستطاع الربان أن ينزل بها بسلام …أقسمت بعدها أن لا أستقل حافلة تمر من تيزي نتست…
في يوم 27 فبراير 1981 جاء عامل وارزازات محمد بوفوس والذي كان على علم بوجود معتقلات أكدز وقلعة مكونة وتكونيت والتي كانت في تراب نفوذه وخطب فينا، وقبل خطبته العصماء تكلم عضو البرلمان بن الطالب ورحب برجل السلطة وقال كلاما فارغا لم أعد أتذكره بعد ذلك تم تدشين تعاونية الزعفران وكذا دورا معدة للأساتذة ودار الطالب التي دشنت مرارا ولم تفتح أبوابها للمستفيدين، كل ذلك كان بمناسبة 3 مارس أي عيد العرش. بعدها ذهبنا في رحلة إلى أسكاون وتفنوت قرب السفح الشرقي لطبقال، عند الفجر وجدنا خليفة القائد هناك يشرب الشاي مع الشيخ منتظرا قدومنا، اختار البعض البقاء في السفح نظرا لوعورة التضاريس وطلبا للسلامة وتسلقت مع الشجعان الجبل الشامخ حتى حدود بحيرة تفنوت.. بكت خطيبة أستاذ من الألم والعياء كنا نضحك ونحن نحج إلى منطقة أسكاون عرين المقاومة وجيش التحرير.
قبلها بأشهر وبمناسبة عيد المنجمي، دعانا عمال منجم بوعازر للكوبالط إلى قضاء يوم حافل بين أحضانهم مكافأة لنا على تدريس أبناءهم وعرفانا بتضحياتنا،وكان هناك ارويشة وشيخاته، واقترحوا علينا النزول إلى قاع المنجم وقد قبل البعض وقد رفضت الفكرة خوفا، فأنا أتسلق الجبل لكني أهاب الغوص في أعماق الأرض!
في إحدى الليالي أتى رجل بمعزة للمدير كرشوة، وقد حملها أحد الأعوان على كتفيه وذهب بها لإحدى الدور بجانب المدينة لتذبح ويأكلها مع بعض الأساتذة والإداريين أعضاء العصابة، لكن العنزة لم تكن تعرف السرية ولا التكتم فأخذت تصيح في الليل مما جعل الكل يعرف قصتها. الرشوة نقدا أحسن، فليس للمال رائحة ولا صوت.
خلال ثلاثة أشهر لم أتوصل بالمنحة وكنت أقترض من شقيقي مسعود ومن أحد الأصدقاء حتى أتى الفرج.
توجهت إلى الرباط بحثا عن الحوالات الضائعة وحين وجدها الموظف طلبت منه تسليمها إلي فورا لأني بحاجة ماسة للمال، فرفض قائلا : – ستجدها في تالوين عند رجوعك، هذا هو القانون.
يوم 20 يونيو 1981 عاد صاحب شاحنة يرتعد، لقد وقعت فوضى عارمة في الدار البيضاء، تم إحراق الشاحنات والأبناك والحافلات، هناك أموات ومظاهرات واعتقالات ، لقد نجوت بجلدي وشاحنتي بأعجوبة… لم نسمع أي شيء في الإذاعة والتلفزة لا تغطي موجاتها تراب تالوين أما الجرائد فكانت ممنوعة…شعرت بالأسى الشديد…مكاني الطبيعي هو البيضاء الثائرة بين الجموع الهادرة. ماذا أفعل في هذا المنفى السحيق …في 1965 كنت في كروان في القسم السادس حينما انتفض التلاميذ والعمال في 23 مارس، وفي 1981 ها أنا بين جبلين كأنهما أسوار سجن، نفس اللون ونفس الشعور…سأعوض عن هذا الحظ التعيس بـ 1973، نعم كنت هناك في 3 مارس 1973 بين آلاف المناضلين من تلاميذ وطلبة وأساتذة ونقابيين وسياسيين، امتلأت بنا كل مخافر الشرطة وفاض الناس عن الأماكن القانونية للاعتقالات والتعذيب ففتح الكوربيس الذي كان مغلقا منذ الحرب العالمية الثانية للخدمة من جديد، ليس لإصلاح محركات الطائرات ولكن للقتل الممنهج…
شهدت السنة الدراسية 1980- 1981 جفافا مروعا، وحين سقطت أمطار في الجبل امتلأ واد سوس وعجز التلاميذ الصغار عن قطع النهر…كانت الأفاعي وبيضها وصغارها تنزل من الأعالي يجرها تيار جارف …كانت الثعابين تخرج رأسها من الماء للتنفس، وكنت بمعية عدد من الأساتذة نحمل الأطفال ونضعهم على الضفة الأخرى للنهر، والحق أن الأفاعي والثعابين كانت مسالمة كانت تفكر فقط بالنجاة بجلدها لأن المياه فاجأتها في جحورها وأخرجتها عنوة وطوحت بها في الوادي دون سابق إنذار.
بعد ثمانية وعشرين سنة عثرت في شبكة الانترنيت على نداء لأحد تلاميذي يبحث عني -لأنني كما قال- تركت أثرا طيبا وكنت نعم المعلم، على خلاف بعض المحسوبين على المهنة.
نعم أنا مدين لحزب الاستقلال بحيث يدري أو لا يدري بالتعرف على مغرب ثالث غير نافع وغير معروف فيه سيبة المخزن والإقطاع المحلي وأناس طيبين، وتلاميذ نجباء باستثناء شقيق المدير وابن رئيس الدائرة المفصول من إعدادية بالرباط.
وللحقيقة فقد كان مؤذبا ووجلا من أبيه رئيس الدائرة ومستواه كان لا بأس به خصوصا أنه قضى أربع سنوات في السنة الرابعة!4x 4 .
تالوين لوز وزعفران
وآثار الباشا
بادية للعيان
كانت لنا سيدة تقوم بأشغال البيت لا تعرف من العربية إلا كلمتين: لا أسيدي، أيه أسيدي . وذات يوم قالت لنا ما معناه أنها لن تأتي في اليوم الموالي لأنها ستذهب (سربيس) لوارزازات وعندما استفسرنا في الأمر بواسطة زميلنا المترجم فهمنا أنها ذاهبة للرقص والغناء في فرقة أحواش في إطار السخرة بمناسبة زيارة الملك للمدينة.
بدورنا استفدنا من هذه الزيارة حيث أخذت الإدارة الترابية أجهزة المطعم وأفرشة الداخلية وصرفت التلاميذ وأخذنا عطلة مفتوحة .
كانت ابنة هذه الأرملة الفخورة تأتي لمساعدتها في بعض الأوقات وكنا نعاملهما باحترام تام ، وذات يوم أو ليلة لم أعد أذكر، بلغنا أن الفتاة حامل! كنا خمسة من الأساتذة العزاب وكان الوضع حرجا، لكن المغرر بها أبعدت كل شبهة عن جماعة (الزوافرية) واتهمت صراحة موظف القباضة.
ساندناها في حدود الإمكان حيث تخلى عنها الرجال من عائلتها بدعوى أنها جلبت عليهم العار، رفض الموظف الفاسق الاعتراف بفعلته، وبعد تسعة أشهر، التحق طفل بريء بقافلة اللقطاء رغم أن والده معروف، موظفو القباضة والداخلية ساندوا زميلهم وكنا نحن بطبيعة الحال في صف اليتيمة والأرملة ولم تنفع التدخلات الحبية ولا المحكمة في إحقاق الحق.
كان القائد الممتاز ورئيس سرية الدرك يأخذان المدير إلى فندق ابن تومرت ويشربون كثيرا ثم يعرون مديرنا المحترم ويأخذون في سؤاله عن الأساتذة وأنشطتهم ثم يعرجون على زوجته وعلاقته بها، فيبدأ في الهذيان وهم يتضاحكون: كل نساء تارودانت مومسات وزوجتي منهن !
في أولوز، كان يقام سوق أسبوعي كذلك، يومها لم يكن هناك سد ولا كهرباء ولا ماء شروب، اصطف المخازنية، حوالي ثمانية، وأدوا تحية الشرف للقائد وهو يستعرضهم، كان المنظر غريبا ومضحكا وسرياليا، قائد يستعرض بضع حراس وسط سوق يملأه الغبار والضجيج كي يرضي غروره ويظهر سلطته وكأنه مارشال يستعرض فرقة للمظليين أو قوات الكوموندو!
بعد تنقيلي، بني سد على واد سوس، دخل الماء الشروب للبيوت وأنارت الكهرباء المنازل والأكواخ عوض مولد كهربائي يتيم كان ينير القرية لبضع ساعات فقط، وارتفع العقار، شيدت ثانوية، لكن لازال الغبار والفقر سيد الموقف فتالوين بين جبلي الاطلس الكبير والصغير، بقعة منسية يرسل إليها المغضوب عليهم كما كانت ليموج في فرنسا، انظر لسان العجم المدعو “روبير”.
الطاهر محفوظي