نور الدين صمود - الهمس الصاخب : ذكريات عن مؤتمر أدباء المغرب الكبير في ليبيا الملكية

في أواخر الستينيات من القرن العشرين، اتفق أدباء المغرب الكبير: تونس والجزائر والمغرب وليبيا، باستثناء موريتانيا، على اللقاء في طرابلس عاصمة المملكة الليبية المتحدة آنذاك، وهكذا اجتمع فيها نخبة من أدبائهم من شعراء وقصاصين وكتاب وعلماء، وقد ضم الوفد التونسي: محمد العروسي المطوي ومصطفى الفارسي والبشير خريف وأبو القاسم محمد كِرُّو وعبد المجيد بن جدو وعبد العزيز قاسم وأحمد اللغماني وجعفر ماجد والميداني بن صالح ونور الدين صمود، إلى جانب أدباء الأقطار المغاربية الأخرى.

كانت جلسات المؤتمر تنعقد في مبنى (مجلس النواب) بطرابلس، وأذكر أن الشاعر المصري الشهير عزيز أباظة باشا قد حضر بعض تلك الجلسات وقرأ شيئا من شعره، وعلمنا أن زيارته تلك كانت بمناسبة كتابته لنشيد أشاد فيه بجهاد الملك إدريس السنوسي وجنود جيشه الأشاوس في أيام الكفاح ضد الاستعمار الإيطالي للقطر الليبي وقد لحن ذلك النشيد وغناه محمد عبد الوهاب الذي اكتفى بالبقاء في بنغازي، ومعلوم أن هذا الشاعر قد كتب مسرحيات شعرية كثيرة على نمط مسرحيات أمير الشعراء أحمد شوقي ولم يُلحن من شعره غير أغنية «همسة حائرة» لمحمد عبد الوهاب:

«يا منية النفس ما نفسي بناجية وقد عصفتِ بها نأيًا وهِجْرانَا»

من الحوادث الطريفة التي وقعت في الكواليس والجلسات الخاصة التي ظلت عالقة بالذاكرة أن أحد الشعراء الليبيين الذين يكتبون الشعر الملحون باللهجة الليبية سمع في وسائل الإعلام أن من بين أعضاء الوفد التونسي المشارك في المؤتمر الشاعر التونسي عبد المجيد بن جدو صاحب برنامج (قافلة تسير) الذي يهتم بالشعر الملحون، وكان ذلك الشاعر الليبي من المعجبين به ، ومن المدمنين على متابعته على أمواج الإذاعة التونسية وكان يراسله بشعره الشعبي وبتعليقاته على بعض ما يجيء فيه من شعر وألحان بواسطة البريد، وبذلك توطدت العلاقة بينه وبن جدو وقد تقابلا في تونس ورآه مباشرة بلحمه وشحمه وعظمه وبقامته الفارعة وحجمه الكبير، وهذا ما جعله يتجشم أتعاب السفر إلى طرابلس حيث سأل عن النزل الذي يقيم فيه وعندما وصل إليه توجه نحو مكتب الاستقبال، وسأل عن عبد المجيد بن جدو، فلما بحث موظف الاستقبال عن هذا الاسم في دفاتر النزل عثر على اسم عبد المجيد بن جلُّون فظن أنه الاسم المطلوب، فاتصل به هاتفيا وقال له: هناك صديق لك يريد مقابلتك، فرحب به وطلب منه أن يدله على غرفته فأعطاه رقمها ودله على المصعد الذي عرَج به إلى الدور الذي يقيم به، طرق باب الغرفة فخرج إليه عبد المجيد بن جلون، وهو شخص ضعيف نحيف خفيف، فاعتقد أنه لم يهتد إلى الغرفة التي دلوه عليها، فسأله: أين سي عبد المجيد بن جدو؟ فقال له: أنا عبد المجيد بن جلون فماذا تريد مني؟ فقال له: هل نسيتني يا سي عبد المجيد؟ إني أريد أن أتحدث معك قليلا، فقال له: تفضّل بالدخول، وظل عبد المجيد المغربي في واد والشاعر الليبي في واد آخر، ودار بينهما حديث طويل كحديث الصمّ، وعاد الشاعر الليبي إلى إنكار شكل هذا الرجل فهو لا يشبه بن جدو الذي عهده عملاقا فألفاه قزما، وأنكر الأديب المغربي حديث ضيفه الذي لم يفهم منه شيئا، خاصة عندما أخذ يذكِّره ببعض ذكرياته معه في لقاءاته السابقة به، وخاصة عندما قال له: لقد ضعفتَ كثيرا يا سي عبد المجيد وتغيرتَ عمَّا كنت عليه في لقاءاتنا السابقة، قال له: ومتى التقينا؟ فأجابه: التقينا في تونس في أستوديو 8 عندما حضرت معك تسجيل برنامجك الرائع (قافلة تسير) عن الشعر الشعبي، فانفجر عبد المجيد بن جلون المغربي ضاحكا وأدرك أن الزائر قد أخطأ العنوان بسبب تشابه اسمه مع اسم عبد المجيد بن جدو التونسي، وقال له: أنا لست تونسيا أولا ولا صلة لي بالشعر الشعبي و(بالقافلة التي تسير) ثانيا، ثم ودعه طالبا منه أن يبحث عن سَمِيِّه عبد المجيد بن جدو.

ومما أذكره من هوامش ذلك المؤتمر أننا سافرنا بالطائرة من طرابلس إلى بنغازي حيث وجدنا موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وكان جعفر ماجد أول من رآه ونبّهنا إلى وجوده في صالة النزل الذي قضينا فيه القيلولة، فالتقطت لنا معه بعض الصور التذكارية، وأذكر أنه قال للمصور، بلهجته المصرية وبلثغته التي ينطق فيها السينَ ثاء: (بَثْْ طلَّعنا حِلوين) (أي بس أظهرنا في الصورة جميلي الوجوه) ثم غادر المكان متجها نحو (التواليت) حيث غسل يديه وأخرج من كُم سترته منديلا أبيض مسح فيه يديه ثم صعد إلى غرفته، ولم نره بعد ذلك كما لم نر تلك الصور إلى الآن لأن الانقلاب الذي أطاح بالملك إدريس السنوسي بعد بضعة أشهر من ذلك المؤتمر أفقدنا الاتصال بمن كنا نستطيع بواسطتهم الحصول على بعض تلك الصور التاريخية مثل الصديقين الشاعرين: راشد الزبير السنوسي من أسرة الملك إدريس ورجب الماجري صهر الملك ووزير العدل في عهده، وقد أسفنا لعدم حضور الحفلة الأولى لكوكب الشرق أم كلثوم في طرابلس، ولما علمنا أن الحفلة الثانية ستقع في مدينة بنغازي طلبنا من علي مصطفى المصراتي رئيس المؤتمر أن يمكننا من حضور حفلتها الثانية في بنغازي فنسق الأمر مع المسؤولين عنها وهكذا سافرنا جَوُّا إلى بنغازي وتمكنا من حضور حفل أم كلثوم الثاني الذي لم تكن فيه منسجمة مع مُقدِّم الحفل ومع تصرفات بعض أفراد الجمهور وكانت أمامنا مباشرة في الصف الأول نهلة القدسي زوجة عبد الوهاب، وفي نهاية الوصلة الأولى من الحفلة ذهبنا أنا وجعفر ماجد صحبة علي مصطفى المصراتي رئيس المؤتمر إلى مكان استراحتها فوجدناها شبه متشنجة جالسة على كرسي غير مريح، وبعد السلام عليها ومصافحتها سألها جعفر: هل وصلك ديواني الذي أرسلته إليك منذ بضعة أسابيع؟ فأجابته بأنها لم تتصل به، ثم التفتت إلي قائلة: (إنتَ فاكراك، أنا شايفاك في تونس) ولكنها لم تذكر أين رأتني، وهي تشير بقولها إلى أنها رأتني في العشاء الذي أقيم على شرفها ب(نزل الملكة ديدون) بقرطاج حيث قرأتُ أمامها وعلى المدعويين لذلك العشاء، صحبة الشاعر أحمد اللغماني شيئا من الشعر، وسلمناها بعض أشعارنا عساها تعرضها على بعض ملحنيها، وأرسل أحمد بن صالح في الأثناء مَن يأتيه بديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي وعندما انتهى العشاء والحفل وهمَّ الحاضرون بالانصراف، وصل مَن أتى بالديوان، فطلب بن صالح من الجميع العودة إلى أماكنهم ثم قرأ عليهم قصيدة (النبي المجهول) وقرأتْ قبله مذيعة مصرية مشهورة قصيدة (صلوات في هيكل الحب).

لقد كان من بين الحاضرين في ذلك العشاء السيدة وسيلة بن عمار حرم الرئيس بورقيبة والشاذلي القليبي وزير الثقافة ومجموعة من المثقفين من بينهم الطاهر قيقة، وأذكر أن الفرقة الموسيقية الشعبية غنت في تلك الحفلة من بين ما غنت الأغنية الشعبية: (نشبح خرس الطاربيقهْ) ومعناها: (نرى قُرْط َ الطاربيقة) وهو نوع من الأقراط، فظن بعض من لا يعرف هذه الأغنية أنهم يقولون: (نشبح خرس الطاهر قيقهْ) فضحك من يعرف تلك الأغنية الشعبية، ولعل أصلها: (يضبح خرس الطاربيقة) أي يرنُّ ويحدث رنينا، مثل قول علي الرياحي في أغنيته: (يا شاقه المراح خلخالك ضباح).

لقد كانت حفلة أم كلثوم في تونس سنة 1968 وكانت حفلتها بليبيا في السنة الموالية في العهد الملكي، ولم تمض على كل ذلك بضعة أشهر حتى قلب بعضُ ضباط الجيش الليبي نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية ثم الجماهيرية أي بعد ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 التي انتظم في أرضها مؤتمر الأدباء العرب سنة 1977 أي بعدها بحوالي ثمانية أعوام، وسنتحدث في لقاء آخر عن بعض هوامش ذلك المؤتمر ومهرجان الشعر المواكب له.


نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 30 - 12 - 2012




أعلى