عثرتُ، من باب الصدفة، على ملف في الكمبيوتر يشتمل على رد مني موجهٍ إلى السيدة ملك مصطفى صاحبة (دار الدون كيشوت للنشر والتوزيع) وكان ردي على رسالتها المتعلقة بكتاب تعتزم نشره بعنوان (إلى أمي)، ورغم عدم تصوُّري للموضوع بوضوح فإني بادرت بالاستجابة لطلبها النبيل لأن الموضوع قد صادف هوى في نفسي فأرسلت إليها الرسالة التالية التي يبدو لي أنها لتتصل بها عساها تطلع عليها أو يطلع عليها من له معرفة بها أو بشيء عن هذا الموضوع، على بريدي الألكتروني، وهذه هي الكلمة التي أرسلتها إليها بقليل من التحوير الذي أوجبه طول الفترة بين كتابتها ونشرها هنا:
(السيدة الفاضلة ملك مصطفى صاحبة (دار الدون كيشوت للنشر والتوزيع) تحية طيبة وبعد فقد وصلتني رسالتك المتعلقة بالكتاب الذي تعتزم الدار نشره بعنوان (إلى أمي)، والملاحظ أن الرسالة قد وصلتني منذ أيام قلائل أي بعد الموعد الذي حددتموه لنشره، وعلى كل حال فإن الورقة المصاحبة للرسالة قد أشعرتني بأنه سيقع تأجيل النشر حتى تكتمل مواد الكتاب الذي يبدو أنه سيكون بأقلام عدة كتاب، فالرجاء إعلامي أولا بجلية الأمر في هذا الموضوع، وبأسماء من سيشاركون فيه؟ وكيف وقع الاختيار عليهم وعليَّ بصفة خاصة ؟ ورغم عدم تصوُّري للموضوع بوضوح فإني بادرت بالاستجابة لطلبكم النبيل لأن الموضوع قد صادف هوى في نفسي، وأعتقد أن مقدمة الرسالة، التي تحدثتِ فيها عن المرأة عموما وعن الأرض أمِّ الجميع، وعن الأخت والحبيبة والزوجة... لا يمكن أن يتناولها كل مشارك في الكتاب، بل ستكون، حسب تصوُّري، مقدمة تُكتب على لسان دار النشر عموما، وإلا فسيقع تكرار نفس الفكرة من قِبل كل كاتب لأنها فكرة عامة معروفة.
ومن ناحية أخرى فإني أرجو أن أعرف نشاط دار دون كيشوت للنشر والتوزيع وعن صاحبته وهل سبق لها نشر شيء قبل هذا الكتاب في هذه الدار أو غيرها؟ وأين سينشر هذا الكتاب؟ وكيف سنطلع عليه عند نشره؟ وكيف سنحصل عليه؟ إلخ...
كما أعتقد أنه يجب أن يقع التعريف بالمشاركين في الكتاب ليعرفه قرّاؤه في كافة البلدان، فأنا مثلا معروف في تونس ولكن قد لا يعرفني القراء في بقية الأقطار العربية، ولا فائدة من قراءة شيء يتعلق بكاتب لا يعرفه القارئ، لذلك هل ستطلبون تعريفا موجزا بصاحب كل مقال من كاتبه؟
وأخيرا لماذا لم تختاروا النطق الإسباني لاسم دار النشر، أم أنكم فضلتم النطق الشائع؟
وفي انتظار ردكم، الذي سأعرف فيه الأجوبة على أسئلتي وأتأكد من وصول رسالتي، تقبلي أطيب تحياتي وسلامي إلى كافة أسرة دار دون كيشوت. والسلام من د. نورالدين صَمُود.
ولكني لم أتصل منها ولا من غيرها ممن لهم معرفة بالموضوع، وهذه هي الكلمة التي أجبتها بها عن موضوعها الذي طلبته:
(عندما وُلدتُ، كانت أمي في مقتبَل العمر، ولم أشعر بأنها كبرت لأن المسافة الزمنية بيننا لا يمكن أن تتقلّص، وقد كانت تحس نحوي ونحو أشِقائي وشقيقاتي نفس الإحساس فقد كانت ترانا دائما صغارا وتنعتنا، في أحاديثها عنا، ب(الأولاد أو بالصغار).
إن هذه الكلمة العَجْلَى عن أمي لا يمكن أن ألِمَّ فيها بالفترة الزمنية الطويلة التي عايشتها فيها ولا يمكن أن أتحدث فيها إلا عن بعض لمحات من حياتي معها دون أن أُركِّز على غيرها من أفراد الأسرة هنا إلا عرَضًا خشية الإطالة وإهمالِ الموضوع الأساسي من هذه الكلمة، مؤمنا بأنّ حياتي مع أسرتي وأقاربي والأماكن التي عشت فيها، تحتاج إلى كتاب كامل.
لقد كانت علاقتي بأمي حميمة فيها كثير من الحنان والودِّ والعناية والرفق والوئام والصدق والصداقة والصراحة والبِرّ مع كثير من الحزم.
كانت أمي، في صباي المبكر، تستيقظ في الصباح الباكر لتنبهنا، قبل موعد الذهاب إلى (الكتّاب)الذي كان أهلنا يُصرِّون على أن نبدأ فيه تعلُّمَنا حيث نتعلم مبادئ الكتابة والقراءة ونحفَظ قِصار السُّوَر، ولكنهم لا يتحمَّسون لإدخالنا إلى المدارس الرسمية التي يشرف عليها المستعمرون وذلك خوفا منهم علينا من الذوبان في المستعمر ولغته وتعليمه، حتى أنهم كانوا يُصِرُّون على تحفيظ الأطفال التونسيين وأطفالهم الفرنسيين نص: «أجدادنا الغاليون»... إلخ إلخ ولا يعود واحد منا يقول: نحن العرب.
كانت أمّي، كل صباح، تعِين الصغارِ منّا على لبس ثيابهم كلَّ فجر، وتشرف على ذلك بنفسها بالنسبة إلى الكبار، وتُعِدّ للجميع إفطار الصباح الذي لم نكن نستطيع ولا نستسيغ تناوله صباحا في غالب الأيام، وكنت أعِدُها بأكله في الاستراحة الصباحية القصيرة التي كان المؤدب يمنحها للصغار، ولم تكن أمي تتركنا نخرج من المنزل إلا بعد التأكد من أننا في أحسن الحالات.
أما إذا مرض أحد أبنائها فإنها كانت تلجأُ، في مداواته، إلى وسائل العلاج التقليدية الموروثة فتنضح رأس المريض ب «ماء الزهر» إذا أصابته حُمَّى، وتدهن عينيْ مَن مرض بالرمد ب «زيت الياسمين»... وربما لجأت إلى بعض الوصفات الشعبية البِدائية المعقّدة التي غالبا ما تكون ناجعة بحكم التجربة، فقد شاعت على ألْسنة معاصراتها ولِداتِها الحكمةُ الشعبية: «اِسأل المجرِّب ولا تسألْ طبيبا»، ولأن قريتنا لم يكن بها آنذاك، سوى طبيب فرنسي واحد نفع طبُّه أكثرَ مَن عالجهم، رغم أنه تبين لأهل الذكر في ميدان الطب، بعد تقاعده وبعد الاستقلال أنه، في الأصل، «طبيب بيطري»، ولعل المسؤولين الاستعماريين قد سمحوا له بعلاج البشر، لأنهم اعتبرونا في مرتبة البقر، لكن ذلك الطبيب والحق يُقال كان طبيبا ناجحا لأنه كان يعتمد اعتمادا كليا على «معجم فيدال» «Dictionnair vidal» الشهير لدى الأطباء، ولعل هذا ما كان يقيه من الوقوع في الخطإ، رحمه الله فقد كان إنسانيا محبًّا للجميع على اختلاف طبقاتهم، ومحبوبا من الجميع يتفقد المرضَى في بيوتهم ويعتبر نفسه طبيب المجتمع.وأرجو أن تكون لي عودة إلى الدكتور (فالو) وإلى أشياء أخرى لها صلة بموضوعنا.
نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 14 - 10 - 2012
(السيدة الفاضلة ملك مصطفى صاحبة (دار الدون كيشوت للنشر والتوزيع) تحية طيبة وبعد فقد وصلتني رسالتك المتعلقة بالكتاب الذي تعتزم الدار نشره بعنوان (إلى أمي)، والملاحظ أن الرسالة قد وصلتني منذ أيام قلائل أي بعد الموعد الذي حددتموه لنشره، وعلى كل حال فإن الورقة المصاحبة للرسالة قد أشعرتني بأنه سيقع تأجيل النشر حتى تكتمل مواد الكتاب الذي يبدو أنه سيكون بأقلام عدة كتاب، فالرجاء إعلامي أولا بجلية الأمر في هذا الموضوع، وبأسماء من سيشاركون فيه؟ وكيف وقع الاختيار عليهم وعليَّ بصفة خاصة ؟ ورغم عدم تصوُّري للموضوع بوضوح فإني بادرت بالاستجابة لطلبكم النبيل لأن الموضوع قد صادف هوى في نفسي، وأعتقد أن مقدمة الرسالة، التي تحدثتِ فيها عن المرأة عموما وعن الأرض أمِّ الجميع، وعن الأخت والحبيبة والزوجة... لا يمكن أن يتناولها كل مشارك في الكتاب، بل ستكون، حسب تصوُّري، مقدمة تُكتب على لسان دار النشر عموما، وإلا فسيقع تكرار نفس الفكرة من قِبل كل كاتب لأنها فكرة عامة معروفة.
ومن ناحية أخرى فإني أرجو أن أعرف نشاط دار دون كيشوت للنشر والتوزيع وعن صاحبته وهل سبق لها نشر شيء قبل هذا الكتاب في هذه الدار أو غيرها؟ وأين سينشر هذا الكتاب؟ وكيف سنطلع عليه عند نشره؟ وكيف سنحصل عليه؟ إلخ...
كما أعتقد أنه يجب أن يقع التعريف بالمشاركين في الكتاب ليعرفه قرّاؤه في كافة البلدان، فأنا مثلا معروف في تونس ولكن قد لا يعرفني القراء في بقية الأقطار العربية، ولا فائدة من قراءة شيء يتعلق بكاتب لا يعرفه القارئ، لذلك هل ستطلبون تعريفا موجزا بصاحب كل مقال من كاتبه؟
وأخيرا لماذا لم تختاروا النطق الإسباني لاسم دار النشر، أم أنكم فضلتم النطق الشائع؟
وفي انتظار ردكم، الذي سأعرف فيه الأجوبة على أسئلتي وأتأكد من وصول رسالتي، تقبلي أطيب تحياتي وسلامي إلى كافة أسرة دار دون كيشوت. والسلام من د. نورالدين صَمُود.
ولكني لم أتصل منها ولا من غيرها ممن لهم معرفة بالموضوع، وهذه هي الكلمة التي أجبتها بها عن موضوعها الذي طلبته:
(عندما وُلدتُ، كانت أمي في مقتبَل العمر، ولم أشعر بأنها كبرت لأن المسافة الزمنية بيننا لا يمكن أن تتقلّص، وقد كانت تحس نحوي ونحو أشِقائي وشقيقاتي نفس الإحساس فقد كانت ترانا دائما صغارا وتنعتنا، في أحاديثها عنا، ب(الأولاد أو بالصغار).
إن هذه الكلمة العَجْلَى عن أمي لا يمكن أن ألِمَّ فيها بالفترة الزمنية الطويلة التي عايشتها فيها ولا يمكن أن أتحدث فيها إلا عن بعض لمحات من حياتي معها دون أن أُركِّز على غيرها من أفراد الأسرة هنا إلا عرَضًا خشية الإطالة وإهمالِ الموضوع الأساسي من هذه الكلمة، مؤمنا بأنّ حياتي مع أسرتي وأقاربي والأماكن التي عشت فيها، تحتاج إلى كتاب كامل.
لقد كانت علاقتي بأمي حميمة فيها كثير من الحنان والودِّ والعناية والرفق والوئام والصدق والصداقة والصراحة والبِرّ مع كثير من الحزم.
كانت أمي، في صباي المبكر، تستيقظ في الصباح الباكر لتنبهنا، قبل موعد الذهاب إلى (الكتّاب)الذي كان أهلنا يُصرِّون على أن نبدأ فيه تعلُّمَنا حيث نتعلم مبادئ الكتابة والقراءة ونحفَظ قِصار السُّوَر، ولكنهم لا يتحمَّسون لإدخالنا إلى المدارس الرسمية التي يشرف عليها المستعمرون وذلك خوفا منهم علينا من الذوبان في المستعمر ولغته وتعليمه، حتى أنهم كانوا يُصِرُّون على تحفيظ الأطفال التونسيين وأطفالهم الفرنسيين نص: «أجدادنا الغاليون»... إلخ إلخ ولا يعود واحد منا يقول: نحن العرب.
كانت أمّي، كل صباح، تعِين الصغارِ منّا على لبس ثيابهم كلَّ فجر، وتشرف على ذلك بنفسها بالنسبة إلى الكبار، وتُعِدّ للجميع إفطار الصباح الذي لم نكن نستطيع ولا نستسيغ تناوله صباحا في غالب الأيام، وكنت أعِدُها بأكله في الاستراحة الصباحية القصيرة التي كان المؤدب يمنحها للصغار، ولم تكن أمي تتركنا نخرج من المنزل إلا بعد التأكد من أننا في أحسن الحالات.
أما إذا مرض أحد أبنائها فإنها كانت تلجأُ، في مداواته، إلى وسائل العلاج التقليدية الموروثة فتنضح رأس المريض ب «ماء الزهر» إذا أصابته حُمَّى، وتدهن عينيْ مَن مرض بالرمد ب «زيت الياسمين»... وربما لجأت إلى بعض الوصفات الشعبية البِدائية المعقّدة التي غالبا ما تكون ناجعة بحكم التجربة، فقد شاعت على ألْسنة معاصراتها ولِداتِها الحكمةُ الشعبية: «اِسأل المجرِّب ولا تسألْ طبيبا»، ولأن قريتنا لم يكن بها آنذاك، سوى طبيب فرنسي واحد نفع طبُّه أكثرَ مَن عالجهم، رغم أنه تبين لأهل الذكر في ميدان الطب، بعد تقاعده وبعد الاستقلال أنه، في الأصل، «طبيب بيطري»، ولعل المسؤولين الاستعماريين قد سمحوا له بعلاج البشر، لأنهم اعتبرونا في مرتبة البقر، لكن ذلك الطبيب والحق يُقال كان طبيبا ناجحا لأنه كان يعتمد اعتمادا كليا على «معجم فيدال» «Dictionnair vidal» الشهير لدى الأطباء، ولعل هذا ما كان يقيه من الوقوع في الخطإ، رحمه الله فقد كان إنسانيا محبًّا للجميع على اختلاف طبقاتهم، ومحبوبا من الجميع يتفقد المرضَى في بيوتهم ويعتبر نفسه طبيب المجتمع.وأرجو أن تكون لي عودة إلى الدكتور (فالو) وإلى أشياء أخرى لها صلة بموضوعنا.
نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 14 - 10 - 2012