أذكُرُ أن الشاعر الكبير مصطفى خريف كان يعجب بشعري وينوّه به، وعندما كنت أراجع مقالاته التي كان ينشرها في ركن (قطائف من اللطائف) لإعدادها للنشر بمناسبة مائوية ميلاده مع أعضاء اللجنة التي كلفتها وزارة الثقافة بذلك،
عثرنا على مقالة بتاريخ يوم الخميس 5 جانفي 1967 تحدث فيها عن ألوان البشرة البشرية وقد ركّز على اللونين: الأسمر والأسود في الشِّعر الشعبي والفصيح قال فيه: (وإذا تغزل شعراؤنا وزجّالونا بأصحاب وصواحب البشرة السمراء وأكثروا في ذلك، فإننا لم نرَ منهم واحدا يتغزل بمحاسن الجمال الأسود إلا شاعرنا النابغة الأستاذ نور الدين صمود فقد تغنى له سيدي على الرياحي بمقطوع فصيح ذي صوت جميل). وقد ذكرت هذه الفقرة في كتابي الصغير عن الشاعر الكبير: (مصطفى خريف كما عرفته) ص 47 الذي نشرته في الذكرى المائوية لميلاده، وانظر كذلك أيضا ص 57 منه. وعُدْ إلى (قطائف من اللطائف) في الأعمال الكاملة لمصطفى خريف الجزء الثالث ص52 الدار العربية للكتاب 2010.
والشاعر الكبير مصطفى خريف يقصد بهذه الكلمة المقْطعَ الذي غناه مطرب الخضراء من قصيدتي (أغنية زنجي)، وهذا هو الجزء المغنى منها:
(حبيبتي زنجيهْ / سوداء أفريقيهْ
من قارة النغمْ/ ومن قرارة الألمْ
تمدُّ نحو الله كَفَّا /إنْ نقرتْ أصابعُ العزّافِ دُفَّا
وتنثني كحيَّهْ / ليّنةٍ قويَّهْ
من بعض كبريائها:
وُقوفُها أمام الخالق ِ / في شِبْهِ عُرْيٍ ناطق ِ
تَهُزُّ في السماءِ أَنفَا / إن نقرتْ أصابعُ العزاف دُفَّا
وحولها الزنوجْ / في مسرحِ المروجْ / في ثورة الصُّنوجْ
تدفَّقتْ أُغنيَّهْ / في إثْرها أُغنيَّهْ
في عُرْيِها شممْ / وفي ابتسامها كرمْ /
تجودُ بالنغمْ / وتسكبُ الألمْ /
من قارةِ النَّغمْ / ومن قرارةِ الألمْ...).
وهذا المقطع الغزلي منها على لسان زنجي مزج كلامه عن إفريقيا بالتغزل في حبيبته السوداء الإفريقية، التي لم أكتبها لتُلحَّن وتُغنَّى، وإنما كتبتها في 28/7/1961 أيام مطاردة الزعيم الكنغولي «باتريس لوممبا»، إثر تحرر بلاده من الاستعمار البلجيكي، وأيام مطاردته من قبل فلول الاستعمار وذيوله، وأما مناسبة تلحينها فقد كنا ذات يوم نسجل أحد برامج الشاعر عبد المجيد بن جدو بالإذاعة فسألت سيدي علي عن سبب كثرة تغني المغنين بالسمراوات دون بقية الألوان فقال لي: إن لي أغنية: (يا بِيضَه)، فقال له بن جدو: لصديقنا نور الدين قصيدة يقول فيها: (حبيبتي زنجيهْ / سوداء أفريقيهْ)، وبعد انتهائنا من التسجيل طلب مني تلك القصيدة ليلحنها ويغنيها، فوعدته بذلك ولكني لم أفِ بالوعد، لشهرته بالأغاني الشعبية المكتوبة باللهجة التونسية، فضلّ يذكرني بوعدي كلما تلاقينا في الإذاعة، إلى أن اخترت منها ذلك المقطع الغزلي وسلمته إياه، وبعد مدة قصيرة سمعته يتغنى بها في الإذاعة، ويبدو أنه أعدَّ لها المقدمة الموسيقية ولحَّن مطلعها الذي سمعه من بن جدو أثناء تسجيل ذلك البرنامج، وقد جاء اللحن إفريقيا مناسبا لموسيقى الزنوج.
وكتبتُ بالإضافة إلى ذلك «أوبيريت» طويلة عن القارة السمراء التي طالما شُبهت بفتاة سمراء، وقد لحنها الموسيقار محمد سعادة وغناها الفنان الأسمر صلاح مصباح في إحدى المناسبات الإفريقية، وقد نشرتها في ديوان « أغاني إفريقيا وأوروبا ص 35/43.
وبهذه المناسبة أذكر أنني دُعيت إلى السينيغال من قِبل خارجيتها عندما كان رئيسها الثاني (عبدو ضيوف) يرأس منظمة الوحدة الإفريقية، وكان رؤساء الدول المنتمية إليها قد قرروا في اجتماع سابق لهم وضع نشيد رسمي لتلك المنظمة، وعندما وصلت إلى عاصمتها (داكار) اجتمعت مع جماعة من مشاهير شعراء القارة الإفريقية وقع استدعاؤهم مثلي، وكنت الشاعر الناطق باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالعربية، وكان شاعر من جزر موريس ناطقا باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالفرنسية، وشاعر من أثيوبيا باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالإنقليزية، وكان يدير الحوار بيننا مترجمون يجيدون اللغات الثلاث، وبعد الاتفاق بيننا على شكل النشيد ومضمونه، عدنا إلى النزل لنشرع في كتابته كل بلغته، وعندما اكتملت النصوص اجتمعنا وتلوناها وسلمنا نصوصها إلى المسؤولين، وقبل يوم من عودتي إلى تونس وصل الفنان الليبي حسن العريبي فقرأت عليه النشيد بلحن نشيدنا الوطني لأنه كان على البحر المتقارب مثله، وسلمته نسخة منه وسافرت، وعند لقائي به في ليبيا قال لي إنه لحنه ووقع إنشاده في نهاية ذلك اللقاء الذي جمع الشعراء والموسيقيين الأفارقة، ولكنه قال لمدير الإذاعة آنذاك محمد رؤوف يعيش، إنه نسي ذلك الموضوع لطول العهد به، وقد اتصل بي المسؤولون السينيغاليون إثر عودتي من بلادهم وطلبوا مني أن أبحث للنشيد عن مترجم يصوغه صياغة شعرية فرنسية، وقد كنتُ أمليت قسما منه بالهاتف على أحمد الرمادي لهذا الغرض، وعندما لقيته في تونس سلمته نص النشيد كاملا، وبعد بضعة أيام سلمنيه مترجما ترجمة موفقه، وقد استدعته الخارجية السينيغالية تبعا لذلك، وعندما كان يستعد للسفر تدخل أحمد خالد، الذي كان وزيرا أو مسؤولا بوزارة الثقافة، واعترض على سفره بحجة أنه لا يعرفه، فاضطررنا إلى إرسال النص المترجم إليهم بالبريد ومُنع مترجمه من السفر اعتباطا وكان من المفروض أن يطلع على النص والترجمة ليحكم له أو عليه، وهو منشور في ديواني (أغاني إفريقيا وأوروبا) من اليمين ص 25/32 وليقرأ ترجمته إلى الفرنسية من اليسار ص 11/15 أو في (قدَر الشعراء) فليعد إليه من يشاء فيهما.
«le destin des poétes p 85» hymne de l'Afrique
وأخيرا فقد قمت بزيارة إلى دار العبيد في جزيرة غوري التي تُرى من ضفاف داكار وهي التي كان الأوربيون يجمعون فيها السود الذين يصطادونهم كالحيوانات ويصدرونهم إلى بلادهم وإلى أمريكيا ولعل جد الرئيس الأمريكي الحالي أوباما كان واحدا منهم، والذي كان والداه مسلمين، وقد قال يوم الاحتفال بتنصيبه رئيسا لأمريكا: منذ ستين سنة لم يكن يسمح لوالدي أن يعمل نادلا في مقهى أو مطعم بأمريكيا، ولكنه الآن يدخل إلى البيت الأبيض رئيسا لأكبر دولة في العالم. فما أعجب تقلبات الأيام !.
نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 13 - 05 - 2012
عثرنا على مقالة بتاريخ يوم الخميس 5 جانفي 1967 تحدث فيها عن ألوان البشرة البشرية وقد ركّز على اللونين: الأسمر والأسود في الشِّعر الشعبي والفصيح قال فيه: (وإذا تغزل شعراؤنا وزجّالونا بأصحاب وصواحب البشرة السمراء وأكثروا في ذلك، فإننا لم نرَ منهم واحدا يتغزل بمحاسن الجمال الأسود إلا شاعرنا النابغة الأستاذ نور الدين صمود فقد تغنى له سيدي على الرياحي بمقطوع فصيح ذي صوت جميل). وقد ذكرت هذه الفقرة في كتابي الصغير عن الشاعر الكبير: (مصطفى خريف كما عرفته) ص 47 الذي نشرته في الذكرى المائوية لميلاده، وانظر كذلك أيضا ص 57 منه. وعُدْ إلى (قطائف من اللطائف) في الأعمال الكاملة لمصطفى خريف الجزء الثالث ص52 الدار العربية للكتاب 2010.
والشاعر الكبير مصطفى خريف يقصد بهذه الكلمة المقْطعَ الذي غناه مطرب الخضراء من قصيدتي (أغنية زنجي)، وهذا هو الجزء المغنى منها:
(حبيبتي زنجيهْ / سوداء أفريقيهْ
من قارة النغمْ/ ومن قرارة الألمْ
تمدُّ نحو الله كَفَّا /إنْ نقرتْ أصابعُ العزّافِ دُفَّا
وتنثني كحيَّهْ / ليّنةٍ قويَّهْ
من بعض كبريائها:
وُقوفُها أمام الخالق ِ / في شِبْهِ عُرْيٍ ناطق ِ
تَهُزُّ في السماءِ أَنفَا / إن نقرتْ أصابعُ العزاف دُفَّا
وحولها الزنوجْ / في مسرحِ المروجْ / في ثورة الصُّنوجْ
تدفَّقتْ أُغنيَّهْ / في إثْرها أُغنيَّهْ
في عُرْيِها شممْ / وفي ابتسامها كرمْ /
تجودُ بالنغمْ / وتسكبُ الألمْ /
من قارةِ النَّغمْ / ومن قرارةِ الألمْ...).
وهذا المقطع الغزلي منها على لسان زنجي مزج كلامه عن إفريقيا بالتغزل في حبيبته السوداء الإفريقية، التي لم أكتبها لتُلحَّن وتُغنَّى، وإنما كتبتها في 28/7/1961 أيام مطاردة الزعيم الكنغولي «باتريس لوممبا»، إثر تحرر بلاده من الاستعمار البلجيكي، وأيام مطاردته من قبل فلول الاستعمار وذيوله، وأما مناسبة تلحينها فقد كنا ذات يوم نسجل أحد برامج الشاعر عبد المجيد بن جدو بالإذاعة فسألت سيدي علي عن سبب كثرة تغني المغنين بالسمراوات دون بقية الألوان فقال لي: إن لي أغنية: (يا بِيضَه)، فقال له بن جدو: لصديقنا نور الدين قصيدة يقول فيها: (حبيبتي زنجيهْ / سوداء أفريقيهْ)، وبعد انتهائنا من التسجيل طلب مني تلك القصيدة ليلحنها ويغنيها، فوعدته بذلك ولكني لم أفِ بالوعد، لشهرته بالأغاني الشعبية المكتوبة باللهجة التونسية، فضلّ يذكرني بوعدي كلما تلاقينا في الإذاعة، إلى أن اخترت منها ذلك المقطع الغزلي وسلمته إياه، وبعد مدة قصيرة سمعته يتغنى بها في الإذاعة، ويبدو أنه أعدَّ لها المقدمة الموسيقية ولحَّن مطلعها الذي سمعه من بن جدو أثناء تسجيل ذلك البرنامج، وقد جاء اللحن إفريقيا مناسبا لموسيقى الزنوج.
وكتبتُ بالإضافة إلى ذلك «أوبيريت» طويلة عن القارة السمراء التي طالما شُبهت بفتاة سمراء، وقد لحنها الموسيقار محمد سعادة وغناها الفنان الأسمر صلاح مصباح في إحدى المناسبات الإفريقية، وقد نشرتها في ديوان « أغاني إفريقيا وأوروبا ص 35/43.
وبهذه المناسبة أذكر أنني دُعيت إلى السينيغال من قِبل خارجيتها عندما كان رئيسها الثاني (عبدو ضيوف) يرأس منظمة الوحدة الإفريقية، وكان رؤساء الدول المنتمية إليها قد قرروا في اجتماع سابق لهم وضع نشيد رسمي لتلك المنظمة، وعندما وصلت إلى عاصمتها (داكار) اجتمعت مع جماعة من مشاهير شعراء القارة الإفريقية وقع استدعاؤهم مثلي، وكنت الشاعر الناطق باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالعربية، وكان شاعر من جزر موريس ناطقا باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالفرنسية، وشاعر من أثيوبيا باسم الشعراء الأفارقة الناطقين بالإنقليزية، وكان يدير الحوار بيننا مترجمون يجيدون اللغات الثلاث، وبعد الاتفاق بيننا على شكل النشيد ومضمونه، عدنا إلى النزل لنشرع في كتابته كل بلغته، وعندما اكتملت النصوص اجتمعنا وتلوناها وسلمنا نصوصها إلى المسؤولين، وقبل يوم من عودتي إلى تونس وصل الفنان الليبي حسن العريبي فقرأت عليه النشيد بلحن نشيدنا الوطني لأنه كان على البحر المتقارب مثله، وسلمته نسخة منه وسافرت، وعند لقائي به في ليبيا قال لي إنه لحنه ووقع إنشاده في نهاية ذلك اللقاء الذي جمع الشعراء والموسيقيين الأفارقة، ولكنه قال لمدير الإذاعة آنذاك محمد رؤوف يعيش، إنه نسي ذلك الموضوع لطول العهد به، وقد اتصل بي المسؤولون السينيغاليون إثر عودتي من بلادهم وطلبوا مني أن أبحث للنشيد عن مترجم يصوغه صياغة شعرية فرنسية، وقد كنتُ أمليت قسما منه بالهاتف على أحمد الرمادي لهذا الغرض، وعندما لقيته في تونس سلمته نص النشيد كاملا، وبعد بضعة أيام سلمنيه مترجما ترجمة موفقه، وقد استدعته الخارجية السينيغالية تبعا لذلك، وعندما كان يستعد للسفر تدخل أحمد خالد، الذي كان وزيرا أو مسؤولا بوزارة الثقافة، واعترض على سفره بحجة أنه لا يعرفه، فاضطررنا إلى إرسال النص المترجم إليهم بالبريد ومُنع مترجمه من السفر اعتباطا وكان من المفروض أن يطلع على النص والترجمة ليحكم له أو عليه، وهو منشور في ديواني (أغاني إفريقيا وأوروبا) من اليمين ص 25/32 وليقرأ ترجمته إلى الفرنسية من اليسار ص 11/15 أو في (قدَر الشعراء) فليعد إليه من يشاء فيهما.
«le destin des poétes p 85» hymne de l'Afrique
وأخيرا فقد قمت بزيارة إلى دار العبيد في جزيرة غوري التي تُرى من ضفاف داكار وهي التي كان الأوربيون يجمعون فيها السود الذين يصطادونهم كالحيوانات ويصدرونهم إلى بلادهم وإلى أمريكيا ولعل جد الرئيس الأمريكي الحالي أوباما كان واحدا منهم، والذي كان والداه مسلمين، وقد قال يوم الاحتفال بتنصيبه رئيسا لأمريكا: منذ ستين سنة لم يكن يسمح لوالدي أن يعمل نادلا في مقهى أو مطعم بأمريكيا، ولكنه الآن يدخل إلى البيت الأبيض رئيسا لأكبر دولة في العالم. فما أعجب تقلبات الأيام !.
نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 13 - 05 - 2012