عبد الغني سلامة - نساء بيتا الأبيّات

الصديق نادر صالحة، من الصحافيين القلائل المعايشين لتجربة بيتا الكفاحية، وقد التقط مئات الصور والمشاهد لتوثيق هذه المأثرة الوطنية، ويسرني أن أستضيفه هنا، مقتبسا ما كتبه عن دور النساء في المعركة:
«خلف كل شاب بيتاوي سيدة بيتاوية تقاتل بقلبها وروحها. خلف كل لحظة مواجهة على الجبل، كل تلويحة مقلاع، كل صرخة، كل إشعال إطار، كل صاعدٍ وكل نازلٍ عن الجبل، خلف كل منهم قلب امرأة يخفق بشدة، معلق بين الأرض والسماء..
تقول حورية (أم شادي): ننشغل ليلة الخميس بأمرين، تأمين احتياجات الطعام والماء لمواجهات الجمعة في الجبل. وفي توضيب بيوتنا على أكمل وجه، وإعداد القهوة والتمر؛ فقد يتحول البيت إلى مأتم يوم غد. قد يستشهد أحد الأولاد! يجب أن يكون البيت مُعداً لاستقبال المعزين بما يليق بأولادنا!
أقسى ما يخشينه رنة هواتفهن يوم الجمعة، تلك رنة راجفةٌ تشلع القلب وتخطف اللون. أهو النبأ؟ وهذا لعمري حديث تقشعر له الأبدان.
مبادرة ضيافة الجبل السخية، مبادرة نسوية بيتاوية خالصة. بدأت فكرة إسناد مقاتلي الجبل بمبادرات شخصية لنساء البلدة بأن يرسلن ما يُعددن من طعام في منازلهن إلى الجبل لإطعام الحراس.. إنا معكم ونبارك سعيكم.. أدركن بأن هذا العمل أكبر مما توقعن، بحاجة إلى تنظيم وإدارة أوسع بعدما اتضح أن المعركة ستكون طويلة.. تم فرز «وحدة الفرن»، على غرار وحدات الجبل المقاتلة.
على نفقتهن الخاصة، نهضن بالحمل وحدهن، إحدى السيدات تعهدت بصالة تملكها عائلتها، فيما أحضرت السيدات الأخريات أفرانهن والصواني والأواني وما لزم من معدات المطبخ. تبين أنهن بحاجة إلى 150 كغم لحوم لكل جمعة، و3000 رغيف خبز، وما يلزم من احتياجات أخرى. وهذا كثير على عاتقهن، لكنهن نهضن بالحمل. كانت السيدات يُحَضّرن ثلاثة آلاف وجبة في كل يوم جمعة. أحضرن أطفالهن للمساعدة، واجتمعت في الصالة قرابة 150 سيدة بيتاوية يعملن كخلية نحل لإعداد طعام الحراس والضيوف، تتراوح أعمار فريق العمل من أطفال في الثامنة إلى سيدات تجاوزن السبعين. كانت تدخل بعض السيدات بمونة بيتها من اللحم، وتلك ببعض الخضار، وأخرى بـلتري زيت، وهذه بكيس أرز، وهكذا.. مهمة الأطفال كانت تعبئة الأرغفة في الأكياس الورقية، صفيحة واحدة في كل كيس، وترتيبها في الكراتين. تبريد الماء يتم في ثلاجاتهن المنزلية وبعض المحال التجارية. تغيير جرار الغاز، وتحريك الأفران الكبيرة، و»عتالة» مئات الكيلو غرامات من المواد.
إنجاز هذه المهمة الأسبوعية يتطلب 4 ساعات عمل، مساء الخميس، و10 ساعات يوم الجمعة، دون توقف. كل هذا يحدث على طاولة في صالة حيث لا مطبخ حقيقيا، ولا تجهيزات مناسبة لهذا الحجم من العمل.
أحدهم جاء بربطة خبز، قال: هذا ما استطيع. أهالي البلدات القريبة ساهموا أيضاً في توفير بعض الاحتياجات. بعضهم كانوا يأتون فجراً، يضعون الخبز، وقناني الزيت، والملح، والخضار، وبعض الأواني وما توفر.
في الأشهر الأولى، أنفقت السيدات على طعام معركة الجبل كل ما استطعن، لقد أُستنفِدن تماماً.. «هذا سهمنا في معركة لله». يكلف طعام يوم الجمعة وحده ما بين لحوم، خبز، عصائر، مياه، ولبن قرابة 7 آلاف شيكل. هذا لا يشمل خصومات المحال التجارية ومساهماتها والتبرعات العينية. بالإضافة لتحضير ستين وجبة يومية خلال أيام الأسبوع بطعام خاص لطواقم الإغاثة الطبية والمسعفين الذين خصوهم بطعام «خمس نجوم» لطول الفترة الزمنية التي يقضونها على أهبة الاستعداد لإنقاذ الأبناء. قرابة 30 مسعفاً وسائقاً وطبيباً متواجدون طيلة أيام المواجهات في أرض المعركة. شباب وحدة الكوشوك أيضاً من فئة «الخمس نجوم» يحتاجون طبخاً وليس صفيحة فقط، بسبب صعوبة المهمة التي يقومون بها، وطول المدة التي يقضونها تحت الشمس وبين الدخان.
هؤلاء العظيمات تحملن تكاليف كل ذلك بشكل شخصي وبمبادرات فردية. يفعلن ذلك كل أسبوع. أنفقن مئات آلاف الشواكل، عن طيب خاطر وحب خالص، ودون أن يُشعرن أحداً بثقل الحمل. قالت حورية: «ارتبكنا.. صرنا نتصل على بعض، شو بدنا نعمل يا مريم.. قديش أمنتوا لحمة؟ شو صار معك يا شروق؟ بكرا الجمعة يا بنات، معناش وقت، يا رب بيّض وجوهنا».
لم تتلق نساء بيتا أي مساهمة تذكر من قبل المؤسسات الرسمية ولا النسوية، ولا مؤسسات المجتمع المدني، ولا الجمعيات ولا التنظيمات. نهضن بالحمل وحدهن، ومن شرفاء القرى المحيطة، وبعض مغتربي البلدة.
السيدات اللواتي التقيناهن من تنظيمات سياسية مختلفة، لن تشعر بذلك، ولن يُشعرنك بذلك. هنا بيتا. وكلهن متعلمات، متحدثات لبقات، أقلهن حاصلة على درجة البكالوريوس، صاحبات مشاريع صغيرة، معلمات، محاميات، مُبادرات، ربات بيوت أنيقات، نسويات من طراز رفيع. لديهن أفكار لإنشاء مؤسسات وجمعيات تدعم ثقافة الصمود والمقاومة الشعبية. هن حركة نسوية بعنوان «أقل الواجب»، هكذا يُعرفن عن أنفسهن. تأمل الاسم، وتأمل الثقافة التي يكرسنها. تقول لك: معركتنا معركة صمود وهوية. سنفعل كل المستطاع لتبقى بيتا عنوان الكبرياء والصمود وحب الحياة رغم كل شيء.
بادرن إلى حملة تطعيم أهالي البلدة، وأدرنها من ألفها إلى يائها. بادرن بالاتصال مع الهلال الأحمر، تلقين التدريب اللازم للحقن، وإدخال البيانات، وتحضير المكان، والعناية بالقادمين لتلقي التطعيم، وتوفير الضيافة. خلال ثلاثة أيام نظمن حملة سوشيال ميديا.. ونجحن في تطعيم 1200 من أهل البلدة دفعة واحدة. بعد انتهاء التطعيم سهرن حتى منتصف الليل لثلاثة أيام متوالية لإدخال البيانات وتدقيقها. ذُهلوا في وزارة الصحة، وذهلنا نحن لما فعلن.
مريم، لديها سيارة، كانت تتكفل في البدايات بجمع الوجبات من منازل صديقاتها وتوصله إلى الجبل بنفسها. بعض السيدات حرصن على توفير السجائر إلى الحراس. كانت إحداهن تفاجئهم بكرتونة «آيس كريم» في القيظ من وقت لآخر.
عجنَّ 8 شوالات طحين على أيديهن في يوم واحد لإعداد المعجنات في يوم خاص دلالاً للحراس. لديهن دزينة من أفراح مؤجلة لأبنائهن والأقارب والأحباء. إحدى السيدات مصابة بالسرطان وتتلقى جرعات العلاج الكيميائي، ولكنها داومت على الحضور كل الجُمع.
الموضوع مش طبخ.. هذا فعل مقاومة، وثقافة انخراط في معركة الكبرياء، وقدرة عالية على الإدارة، ونموذج نسوي حضاري وثقافي اجتماعي مُقاوِم».

عبد الغني سلامة
2022-01-12




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى