نور الدين صمود - صدى نهاية التعاضد في الإبداع الأدبي نثرا وشعرا

عندما أسدل الستار على مسرحية (التعاضد) في نهاية الستينيات من القرن الماضي، أذكر أننا كنا مجتمعين أواخر شهر ماي 1970، مثل كل أسبوع، في نادي (مجلة الفكر) بمقر جمعية قدماء الصادقية لإعداد مادة العدد الموالي، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن فصول تلك المسرحية، أو ما يشبه المسرحية.

بعد ذلك شرع مصطفى الفارسي في قراءة قصته التي كانت بعنوان «حمراء مَثْوَرَة الأسد»، وشرح في البداية كلمة (مثورة) معتمدا في شرحه «المنجد» وهو معجم حديث نسبيا فقال: (مَثوَرة على وزن مفعلة بسكون الفاء وفتح العين كمدخنة ومروحة ومذبحة ومندبة ومعصرة إلى غير ذلك. وهي من ثار يثور. وهي الأرضُ الكثيرة الثيران.) (وأنا لا أرى أن مثورة على وزن الكلمات التي ذكرها).

وقد كتب قصته هذه محاكيا أسلوب ابن المقفع في كتاب «كليلة ودمنة» الذي يرمز فيه بالحيوانات إلى البشر، فالأسد هو الملك أو الحاكم مهما اختلفت أسماؤه وأنواعه، وبناتُ آوَى وُزارؤه والثعالب والذئاب والفيَلَة الرعية باختلاف قيمها ومراتبها...وقد جعل الفارسي قصته تحت عنوان (باب الأسد والثور.) (تابع). وهي كلمة تفيد أن لهذه القصة قصة أخرى سبقتها، فهو يرمز إلى أنها تابعة لباب الأسد والثور من كتاب ابن المقفع من باب «التّقيّة والإسقاط»، وقد مهد لها بمقدمة على نمط مقدمة ابن المقفع في حكايته عن نسْخ الكتاب من أصله الهندي، وبدأها بقوله رامزا لنفسه: (قال علي بن الشاه سطا علي الفارسي رأسُ السلالة التي منها انحدرتُ وهي سلالة سَحْوان رحمه الله وبرّد الله ثراه. تفرقت طرائق، وتمزقت حرائق، فاستقرَّ منها في بلاد المغرب شظايا أكلت الغلة ودخلت في المِلّة...) إلخ.


وأضاف الفارسي: «قال جدنا المرحوم سحوان في مذكرات له عَثر عليها والدُنا بين رُكام زاوية الشيخ مرزويه بن مهرويه صاحب كتاب «الأنّات» يوم هَدمتِ البلدية حرم الشيخ بوازع التجديد ووجوب توسيع الطرقات والتمديد...).

وقد ركز قصته على تلك القصة التي تروى عن علي ابن أبي طالب وخلاصتها أن ثلاثة ثيران دخلت أجمة، واحدا منها أبيضُ والآخرُ أسودُ والثالث بين بين يشبه لون الأسد، فلما رآها الأسد أوجس منها خيفة وخشِيَها مجتمعة فأراد أن يطبق عليها سياسة: «فرِّق تسد» فاختلى بالثورين: الأحمر والأسود وقال لهما: إن أخاكما الأبيض خطرٌ علينا جميعا لأن الصيادين سيرونه من بعيد فيأتون في طلبه وعندئذ لن يسلم من شرهم أحد منا، لذلك اسمحا لي بأن أفترسه لننعم بالأمن والطمأنينة. فوافقاه على ما طلب، وبعد مدة اختلى الأسد بالثور الأحمر وقال له: إن لونك قريب من لوني، أما الثور الأسود فإن لونه ملفت للنظر وسيجلب إلينا الصيادين وسيلحقنا منه خطر كبير، لذلك من الحزم أن تسمح لي بأكله لنضمن لنفسينا السلامة، فوافقه على طلبه اعتقادا منه أنه سيبقى صديقا للأسد بحكم مشابهته في اللون، غافلا عن قول المتنبي:

ومكلف الأشياء ضدَّ طباعها متطلّبٌ في الماء جذوة نارِ

وعندما جاع الأسد ذهب إلى الثور الذي يشبهه لونا، لأن المصالح تخرق المعاهدات والعهود، والغدرُ في المصالح جائز حسب منطق الأقوياء، وقال له: ليس لدي ما آكله اليوم لذلك قررت أن آكلك، فقال له: «دعني أصرخ بأعلى صوتي ثلاثا: «لقد اُكِلتُ يوم أكل الثورُ الأبيض.»
وقد تصرف الفارسي في استغلال هذه القصة الرمزية القديمة الطريفة التي يمكن أن نخلعها على كثير مما يشبهها في الحياة، ونقوم بإسقاطها على ما يماثلها من أحداث وأشخاص، وقصة الفارسي لا يمكن أن يغني تلخيصها عن العودة إلى قراءتها والتأمل فيها. وسأكتفي بنقل ما جاء في خاتمتها التي قال فيها: (انقضى باب الأسد والثور) (ويتبعه بحول الله وعونه في كتاب كليلة ودمنة «باب الفحص عن أمر دمنة») م. ف - المنزه – ليلة 17 إلى 18/4/1970)

هذه الخاتمة تحتاج إلى وقفة تأملية لنرى صلتها بما وقع لصاحب (التعاضد)، وكنت في ذلك شاهد عيان. ومعلوم أن باب الفحص عن أمر دمنة الذي أشار إليه الفارسي لم يتبع هذه القصة، ولكن قوله ذلك كان للرمز والتلميح، وليجعل الباب مفتوحا أمام القارئ.
أما الطاهر قيقة فقد قرأ في تلك الجلسة قصة «غدير الضفادع» وهي على نمط قصص كليلة ودمنة وقد استهلها بقوله: (كان «الفكرون» يهرول حول الغدير كزورق مقلوب تدافعه الأمواج، يمد عنقه حينا كأنه يترقب طارقا ويَثنيه حينا ليتفرَّس في الأرض كأنه يبحث عن ضالة.)
وقد كتب في أسفل الصفحة مفسرا: (الفكرون: اسم مذكر يطلق في المغرب العربي على الغيلم ذكر السلحفاة. أصل الكلمة بربرية.) وقد اكتفى في تلك القصة بذكر الفكرون فقلت له: لماذا لم تذكر اسمه الفصيح: «الغيلم»؟ فتمسك باسمه البربري، وكتب التعريف السابق الذي لم يكن موجودا في الأصل ليفهمه أهل المشرق خاصة.
ولست أنوي تلخيص تلك القصيدة الطريفة التي نشرها بعد ذلك في كتابه (نسور وضفادع) فليعد إليها من يشاء في مكان نشرها الأول أو في كتابه المذكور.
وبمناسبة ذِكْر (الفكرون) وما في ذلك العدد من مادة لها صلة بذلك الموضوع، فإني أذكر أني قلت لصاحب الفكر محمد مزالي: «أقترح أن نضيف (واوا ونونا) إلى اسم المجلةفي هذا العدد خاصة فيصبح: [الفكرون]. وضحك الجميع لهذا التعليق الطريف.
بعد الإشارة إلى تأثير (نهاية مسرحية التعاضد) وصاحب الدور الأول فيها أحمد بن صالح في الإبداع نثر، أختم هذا الحديث بالإشارة إلى تأثيرها في الإبداع شعرا:
فقد نشر جعفر ماجد قبل ذلك في مجلة الفكر العدد 2 نوفمبر 1969 قصيدة بعنوان «الصباح القريب» مطلعها:
يسود بحكم العسف غِرٌّ وجاهلٌ وتؤكل أكبادٌ لنا وقلوبُ
..وليس غريبا أن تُرَدَّ نُبوؤةٌ فكل نبي في ذويه غريبُ
ولكنّ أخلاق العباد خسيسة وكلُّ ولاء للقويِّ مُريبُ
يلفّونه بالورد ما دام سيدا ويلقونه في النهر حين يخيبُ

وأكتفي منها بهذه الأبيات وليعد إليها من شاء في مصدرها الأول أو في ديوانه الثالث (الأفكار) وفي (الأعمال الشعرية) ص 208 دون ذكر تاريخ كتابتها ولا يمكن أن نجدها في ديوانه الأول (نجوم على الطريق) الذي نشر سنة 1968لأنها كتبت بعد صدوره، والملاحظ أنها لم تنشر في ديوانه الثاني (غدا تطلع الشمس) الذي نشر سنة 1974 ونشرت في ديوان (الأفكار) الذي صدر سنة 1981.أي بعد كتابتها بحوالي أربع سنوات. فهل كان موضوعها سببا في عدم نشرها في الديوان الثاني؟
أما كاتب هذه السطور فقد نشر قصيدة طويلة بمجلة الفكر في سنتها 16 العدد 7 الصادر في أفريل 1971 وقد أرسل إلى أحمد بن صالح في سجنه، عن طريق صهره ومحاميه الخاص المرحوم الهادي الغلوسي، فِصلة من المجلة بها قصيدة تنخرط في باب الأسد والثور من كتاب كليلة ودمنة لِما فيها من إسقاط على الحيوانات كالأسود والأرانب بعنوان «معلقة» مطلعها:
طأطأ الليث رأسه للأرانبْ فاهدئي يا ذ ُرَى النسورِ الغواضبْ



نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 30 - 09 - 2012
أعلى