نور الدين صمود - زمكان الأدب العربي

نشأت اللغة العربية في شبه الجزيرة العربية وما جاورها من الخليج إلى الشام، وظهر الأدب العربي شعرا ونثرا في تلك الربوع بهذه اللغة شيئا فشيئا، وقد كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر قرنا إذ يفصلنا عن أشهر شاعر جاهلي: امرئ القيس أكثر من ألفٍ وخمسمائة سنة، ولا يمكن أن يكون هذا الشاعر، ومن عاصره ومن سبقه من الشعراء قد كتبوا شعرهم بلغة خلقوها هم أنفسهم، ولا بد أن يكون قد سبقهم إلى قول الشعر بها شعراء كثيرون بمدة طويلة حتى بلغت ذلك النضج الذي أتاح لهم أن يقولوا ذلك الشعر الذي عرف قبل المعلقات وبعدها، وهكذا نجزم بأن بيننا وبين نشوء هذه اللغة أكثر من ألف وخمسمائة سنة، ولم يكن امرؤ القيس أول من وقف على الأطلال، فقد استوقف صديقين له وطلبهما بأن يعوجا على الطلل القديم ليبكي ديار الأحباب كما بكى ابن خذام، فقال:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا*نبكي الديار كما بكى ابنُ خِذامِ.

وقد قال الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم محقق ديوان امرئ القيس: (وابن خِذام رجل ذكَرَ الديارَ قبلَ امرئ القيس وبكى عليها، ويُروى: «ابن حذام» و«ابن حمام») والشك في اسمه يدل على عدم شهرته لدى رواة الشعر لأنه شاعر قديم جدا أقدم من امرئ القيس.

بعد ظهور الإسلام الذي وصل إلى حدود الصين شرقا وإلى الأندلس غربا مرورا بمصر وشمال إفريقيا: تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والساقية الحمراء، انتشرت اللغة العربية في كثير من الأقطار وهكذا رأينا أن عمرها طويل في مكان عريض من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، فهو أدب ضارب في جذور التاريخ، في مساحة مكانية فسيحة الرجاء.


وإذا عرفنا أن عمر الأدب العربي في الأندلس وحدها - وهو جزء من أوروبا يعرف الآن بإسبانيا – يقدر بما يناهز سبعة قرون شمسية، وما يجاوز ثمانية قرون قمرية، بينما عمُرُ الأدب الإسباني المتولد عن اللاتينية أقل من الفترة التي عاشها الأدب العربي في الأندلس، وكذلك نرى أن أرض الجزائر وحدها تقدر بخمسة أضعاف حجم فرنسا بأكملها، وأن عمر الأدب الفرنسي، لا يتجاوز عمر الأدب الإسباني الذي أشرنا إليه آنفا، وإذا أحصينا الشعر والشعراء الذين عاشوا في الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وفي نجد وما جاورها في الشام الكبرى مرورا بفلسطين ومصر وليبيا وتونس إلخ إلخ...أدركنا أن الأدب العربي من أعرق وأغنى الآداب العالمية وأطولها عمرا، وإذا كان في إمكان دارس الأدب الفرنسي أن يلم به في كتاب، لمحدودية زمانه ومكانه، فإن دارس الأدب العربي يحتاج، في الإلمام بدراسته، إلى كتب لا تكاد تحصى ولا تعد، لطول زمانه واتساع مكانه.

إن هذا الامتداد الزماني في عمر الأدب العربي والامتداد المكاني في الرقعة التي انتشرت فيها هذه اللغة وازدهر فيها هذا الأدب يدل دلالة قطعية على أن ذلك يحتاج إلى كتب كثيرة ووقت طويل.


ومعلوم أنه بقدر ضيق الدائرة يمكن تعميق الحفرة، أما إذا وسعنا قطرها فإننا لا نستطيع أن نتعمّق فيها إلا قليلا، وكم رأينا من بحث أو دراسة أو أطروحة جامعية عن «الأدب ألجاهلي» أو عن «الشعر في صدر الإسلام « أو عن «الشعر الأموي» أو «الشعر العباسي» أو «الشعر في العهد الفاطمي» أو ما شاكلها من المواضيع الفضفاضة التي يحتاج كل جزء منها إلى أكثر من أطروحة أو دراسة معمقة، وهي مواضيع لا يستطيع دارسها إلا أن يسرد أجزاءها مجرد سرد سطحي لا يتمكن فيه من الغوص والتعمق مثل التعمق في حفرة واسعة، ويمكن للباحث الجاد المتعمق أن يكتفي بجزء واحد منها ليغوص فيه غوصا ويتعمق فيه تعمقا يمكنه من كشف أسراره وسبر أغواره، وقد تحدث توفيق الحكيم عن شخصية طريفة من الشخصيات الافتراضية في إحدى رواياته نال درجة الدكتوراه عن «حتى» فقد روي عن سيبويه أو غيره من كبار النحويين القدماء أنه قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى»، فإذا كان هذا الدارس قد ضيَّق دائرة بحثه فجعلها في حرف واحد من حروف المعاني، فكيف يوسع غيرُه دائرة َ دراسته في الأدب العربي ويجعله شاملا لعصر من العصور، وبذلك يجعل بحثه سطحيا لا عمق فيه.

إن هذا الثراء في الأدب العربي لا يستطيع أن يلم به دارس لاتساع أمكنته وطول أزمنته وكثرة أعلامه من الشعراء والناثرين، فهل أمكن لدارس أن يقرأ شعر كل شاعر أو كاتب عربي، منذ العصر الجاهلي إلى الآن في كل قطر من الأقطار العربية على اختلاف أساليبهم ومدارسهم ومشاربهم؟، وهل قرأ أحد جميع ما هو مطبوع منه، وهل عرفنا حتى عناوين ما ظل منه مخطوطا في خزائن العالم العربي الذي نعرف بعضه ونجهل الكثير منه، وكذلك في مكتبات الغرب، الذي يملك منها أكثر مما يملكه العرب، مثل مكتبة «الأسكوريال» وغيرها.

ومهما يكن من أمر فإن هذا الثراء في الأدب العربي لا يدعونا إلى الانصراف عن دراسته والتعرف عليه بحجة أنه بحر لا ساحل له، ومن لا يعرف السباحة يجب عليه أن يتجنب خوض عباب البحر، وعلى المهتمين بالأدب العربي أن يُلِمُّوا به إلماما، ولا يُطلبُ أن يتخصصوا في كل فروعه المترامية الأطراف ليعرفوه معرفة مدققة، فهذا يكاد يكون أمرا مستحيلا في أدبنا العربي الطويل والعريض زمانا ومكانا.





نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 05 - 08 - 2012
أعلى