د. أحمد الحطاب - من عجائب و غرائب جولةٍ أفريقيةٍ : من بلاد البِنِين إلى الكونغو برازافيل

كخبيرٍ و مستشارٍ في مجال البيئة و التَّربية البيئية و التَّربية بصفة عامة و في إطار التَّعاون و التَّّبادل في مجالات البحث العلمي و البرامج العلمية المشتركة و حضور و تنظيم النَّدوات، قمتُ بالعديد من الزيارات لبلدانٍ افريقية، عربية، أوروبية، أسيوية و جنوب أمريكية.
لا أخفي عليكم أنني كلما زرتُ بلدا ما، إلى جانب العمل الرسمي، أولي بعضَ الاهتمام لناس هذا البلد و ثقافته و عاداته…
من ضِمن البلدان التي قمتُ بزيارةٍ لها، أذكر على الخصوص دولةَ البنين Bénin والكونغو برازافيل Congo Brazzaville. الأولى زرتُها كخبير لمنظَّمة الإيسيسكو ISESCO في التَّربية. الثاني زرتُه كخبيرٍ لبرنامج الأمم المتَّحدة للبيئة PNUE و ذلك من أجل الإشراف على تنظيم و سير ندوة حول التَّربية البيئية و هو الشيء الذي تطلَّبَ مني المكوثَ في هذا البلد لمدَّة 17 يوما. أثناء هذه الإقامة، كان مُخاطبي الرسمي، في الكونغو، هو وزارة البيئة و البحث العلمي. كل هذه المهام قمتُ بها خلال نهاية الثمانينيات و بداية التسعينات.
فيما يلي، هذه بعض العجائب و الغرائب التي كنتُ شاهدا لها. أقول عجائب و غرائب لأن ما سأتطرَّق له هو فعلا يدخل في خانة الدَّهشة و الحِيرة.
1.دولة البنين
كما سبق الذكرُ، حلَلْتُ بهذا البلد كخبير لمنظمة الإيسيسكو في مجال التَّربية للإشراف على حلقة تدريبية موجَّهة لبعض العاملين في مجال التَّربية و التَّعليم.
■ في أول يومٍ من إقامتي في عاصمة هذا البلد، Porto-novo و بعد الانتهاء من مهمَّتي الأولى، غادرتُ الفندقَ للقيام بجولةٍ في أرجاء المدينة. و أنا أمشي على رصيف الشارع الرئيسي، فإذا بثلاثة أطفال يركضون ورائي مُردِّدين، بصوتٍ عالى و فرحين، كلمةً yovo، yovo, yovo. بما أنى لا أعرفُ ما معنى هذه الكلمة، لم أُعِرْ أي اهتمام لهؤلاء الأطفال و تابعتُ طريقي لتحقيق ما خرجتُ من أجله. بعد رجوعي للفندق، حكيتُ لأحد العاملين به ما حدثَ. فاخبرني أن كلمةَ yovo في اللغة المحلية، تعني "أبيض" و أضاف : ما جعل هؤلاء الأطفال يبدون غِبطتَهم و ابتهاجَهم هو أنهم لأول مرةٍ يرون إنسانا أبيض على القُرب منهم بشحمه و لحمه. و هذا حدثٌ عظيمٌ بالنسبة لهم و ربما إنجازٌ عظيم سيتباهون به أمام الأطفال الآخرين.
حسب رأيي الشخصي، تصرَُفُ هؤلاء الأطفال هو تعبيرً عن صور نمطية متداولة في المجتمع البنيني. صور توحي بأن اختلافَ لون البشرة شيء غريب و يثير العجب. في الحقيقة، ما كان لهذا التَّصرُّف أن يحصُل لو كان المجتمعُ واعيا بأن الإنسانَ يبقى إنسانا مهما كان لونُ بشرته.
■ في اليوم الموالي، خرجتُ من الفندق لأواصِلَ جولتي في المدينة. و أنا في طريقي لوسَطِ هذه الأخيرة، فإذا بي أسمع غناءً صادراً من مكانٍ غير بعيد. توجَّهتُ نحو مصدر هذا الغناء، فرأيتُ رجالاً مّتجمِّعين أمام باب منزلٍ يُغنُّون على وقع بعض آلات النَّقر. بل من حين لآخر، ينهض أحد الجالسين ثم يقوم برقصة و يجلس من جديد. سألتُ أحدَ المشاركين في هذا التَّجمُّع الغنائي عن مناسبة هذا الحفل. فكان جوابُه من أغرب ما سمعت أذنايَ. كنتُ انتظر أن يقولَ لي إنه حفل زفافٍ أو ازدياد مولود أو نجاح في امتحان أو… لا، ثم لا. إنه حفلُ وداع مَيِّتٍ. يا لها من دَهشةٍ و يا لها من حيرةٍ! أنا الشخصّ المُتعوِّد على وداع الميِّت بالحُزن و الآسى، وجدتُ نفسي في موقفٍ لم أتصوَّرْه و لو في الخيال.
وضعتُ بعض الأسئلة هنا و هناك، فاتَّضح لي أن هذا النوع من الاحتفال يدخل في ثقافة بعض الإثنيات الأفريقية. بل إن هناك مَن يعتبر هذا الاحتفالَ بمثابة تحدِّي للموت. و هو الشيء الذي يحدثُ عندما يكون الميِّتُ/ةُ مُسِنّاً/ةً قد وصل/ت أو تجاوز/ت سنَّ المائة سنة. و قد يدوم هذا الحفلُ أسبوعاً و أحيانا أكثر.
من دون أدنى شك أن هذا الاحتفالَ له علاقة بثقافةٍ معيَّنةٍ. ثقافةٌ، هي نفسُها، لها علاقة بنمطٍ من التَّفكير و لِما لا بفلسفة معيَّنةٍ تضرب جذورُها في أعماق التاريخ. غير أن ما يحدث هو أن نمط التفكير أو الفلسفة يختفي أو يبقى محصورا في دائرة المفكِّرين الضيقة. لكن التصرُّفات تستمر لتصبحَ تراثأً ثقافياً تتناقلُه الأجيال في غياب أسسِه النظرية.
■ في اليوم الثالث من إقامتي في عاصمة البنين، تمَّت دعوتي لزيارة أحد الشيوخ الذي يُشرف على طائفة من المسلمين. و أنا في طريقي إلى مقرِّ الشيخ، رأيتُ ما لم يكن في الحسبان و ما لم يخطر في بالي على الإطلاق. رأيتُ منازلَ توجد على مقرُبةٍ من أبوابِها ثُقَبٌ على شكل مربَّعٍ وُضعت بداخلها إما قارورةٌ زجاجية (في غالب الأحيان، قارورة مشروبات) و إما عُلبة من المعدن و إما قطعة حجرٍ و إما حداءٌ و إما… لا أخفي عليكم أنني في لحظة رؤية هذه الأشياء، لم أفهم شيئا، و في نفس الوقت، أحسستُ بفضولِ كبيرٍ يدفعني للحصول على تفسير لِما رأته عينايَ. طرحتُ سؤالاً على الشخص الذي كان يرافقني إلى مقر الشيخ : لماذا وُضِعت هذه الأشياء في الثُّقب بالقرب من أبواب المنازل؟ كان جوابُه صادما لي لأنه، بكل بساطةٍ لم يخطر ببالي. قال : في دولة البنين، غالبية عظمى من السكان يدينون بالمسيحية بتوجهاتها الكاثوليكية و البروستانتية كما هناك فئة أخرى تدين بالإسلام. لكن هناك شريحةٌ من السكان يدينون بالأرواحية animisme. و الأرواحيون animistes يعطون للأشياء روحا على غِرار الروح البشرية.
و هذا هو ما يفسِّر وجودَ الأشياء في ثُقَبٍ بالقرب من أبواب المنازل. حينها، تصبح هذه الأشياء، في نظر الأرواحيين animistes، مُتوفِّرةً على روح تكون لها القدرةُ على تغيير العالم و بالتالي، تستحق الاحترامَ و التَّقديسَ. و هذا التَّقديس يعبِّرون عنه بطريقتهم الخاصة عند الدخول و الخروج من المنازل. و بما أن غالبية الأرواحيين بالبِنِين لا يُدركون البُعدَ الفكري و الفلسفي للأروحية، فإن أدراكَهم هذا يبقى سطحيا أو تقليديا و بالتالي، فإنهم، حسب رأيي، يتحوَّلون إلى عَبَدَةٍ للأوثان. و لا داعيَ للقول أن هناك فرقا كبيرا بين الأرواحية كتيارٍ فكري و فلسفي و بين مظاهرها الملموسة. على ما يبدو، أن أصخابَ هذه المنازل متشبِّثون بالمظاهر دون أدنى اهتمام بالأرواحية كفلسفة. و هذا شيءٌ يحدث في كل الديانات، سماويةً كانت أم وضعية، إذ يتشبَّ الناسُ بممارسة الطقوس في غياب تام لعُمق التَّديُّن.
2.الكونغو برازافيل
كما سبق الذكرُ، قدمتُ لهذا البلد كخبير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في مجال التَّربية البيئية. مُهمَّتي كانت هي الإشراف على تحضير و تنظيم و سير ندوةٍ وطنية محورُها الأساسي هو"الآنسان و البيئة". و هو الشيء الذي جعلني أمكثُ في هذا البلد مدَّة 17 يوما.
كنتُ مقِيما في أحسن فندق في العاصمة برازافيل Le méridien من 5 نجوم. كان مُخاطبي هو وزارة البيئة و البحث العلمي. كان مقر هذه الوزارة غير بعيد عن الفندق، الشيء الذي مكَّنني من ممارسة المشي على الأقل أربعة مراتٍ في اليوم.
■ لما وصلتُ إلى المطار، استقبلني السيد مدير ديوان وزير البيئة و البحث العلمي ثم ذهبنا إلى مكتبه حيث أخبرني بأن السيد الوزير يوجد في مهمَّةٍ خارج البلاد. تبادلنا الحديث حول مهام الوزارة و حول الندوة المُرتقبة. ثم رافقني السائق إلى الفندق. و أنا خارجٌ من مكتب السيد مدير الديوان، الذي هو ملتصق بمكتب السيد الوزير، أثار انتباهي، على بُعد بعض أمتارٍ من هذا المكتب، رُكامٌ كبيرٌ من النفايات المختلفة (أوراق شجر، أوراق مستعملة و قِطعٌ أخرى). يا له من تناقضٍ صارخٍ!
ما استنتَجتُه أنا شخصيا من هذا التناقض (وجود نفايات بالقُرب من مكتب وزير البيئة) هو أن هذه الوزارة وزارة واجهة لا أقل و لا أكثر. بالفعل، في نهاية الثمانينيات و بداية التسعينيات، كانت البيئة محطَّ اهتمام كبيرٍ على المستوى السياسي العالمي. و هو ما أدى بالعديد من الدول إلى إنشاء وزارات تهتم بشؤون البيئة أو على الأقل، إنشاء قِطاعٍ، داخل وزاراتٍ أخرى، يهتمُّ بالبيئة. و هو ما تبيَّن لي فيما بعد إذ أن هذه الوزارة تعتمد أساساً، في سيرها و تسييرها، على المساعدات التي يوفِّرها لها برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD .
■ في أول يوم سأبدأ فيه مزاولةَ مهامي، بعد تناول وجبةِ الفطور، و أنا خارجٌ من الفندق متوجِّهاً إلى المكان الذي سألتقي به بالمسئولين الذين سأتعاون معهم لتحضير النَّدوة، فإذا بي أسمع كلاماً بالفرنسية لشخصٍ كان يمشي ورائي : سيدي، سيدي. التفتتُ له و قلتُ له ماذا تريد؟ أتدرون ماذا قال؟ قال شيئا لا يصدِّقه العقل و المنطِق. قال : هل بإمكاني أن أشتريَ منك بِدلَتَك؟ ظننتُ أنه أحمق أو مختلٌّ عقليا. تابعتُ طريقي لكنه أصرَّ و طرح على السؤالَ مرةً أخرى. قلتُ له : هل أنتَ صادقٌ فيما تقول؟ قال نعم. لقد أعجبتني البِدلةُ لونا و فِصالةً. قلتً له: لم أر في حياتي شخصاً مثلك يريد أن يشتريَ ملابس و صاحبُها يرتديها. توقَّفَ عن الكلام و انصرفتُ إلى حال سبيلي. يا لها من عقلية!
بالفعل، يا لها من عقليةٍ! عقلية سذاجة التي ننعتُها، نحن المغاربة، باللسان العامي الدارج : "كْلامْ خْضَرْ"، أي لم يمر من مصفاة العقل و التَّبصُّر و اللياقة.
■ بعد قضاء ثلاثة أيام في الفندق ذي خمسة نجوم، بدأت نفسي تشمئزُّ من الأكل. نفس الوجبات تتكرَّرُ في الفطور و الغذاء و العشاء إلى درجة أنني صِرتُ أفقد الشهيةَ لما توضَع الصُّحون أمام أعيُني. قرَّرتُ أن أبحثَ عن فندقٍ آخر تكون فيه الوجَبات متنوِّعة و ذات جودة عالية. لحسن حظي، البحث تكلَّلَ بالنجاح. وجدتُ فندقاً صغيرا من مستوى ثلاثة نجوم تُديرُه سيدة فرنسيةٌ. قلتُ لها أنا الآن أقِيم بفندقٍ من خمسة نجوم لكنني مضطرٌّ لمغادرته بسبب نوعية الأكل. قالت لي سيُعجبُك مطعمُنا الذي هو متخصِّص في الوجبات الفرنسية. تنفَّستُ الصُّعداء و انتقلتُ من خمسة نجوم إلى ثلاثة. في المساء، جلستُ في إحدى طاولات المطعم و ناديتُ على النادل ليُعطيني لائحةَ الوجبات. لما اطَّلعتُ على محتوى هذه الائحة، أصابتني خيبةٌ شديدةٌ إذ كُتِبَ عليها : مُخُّ القِرد، شرائح البُوَا (boa، ثعبانٌ غليظ يبلُغ طولُه ما بين مترين و ستة أمتار)، شرائح لحم التِّمساح، لحم الزرافة، الضفادع، الخنزير… التفتتُ إلى اليمين ثم إلى اليسار، فرأيتُ فعلاً ناسا، جلُّهم أفارقة، يأكلون هذه اللحوم التي أحدثت عندي اشمئزازاً أكبر من ذلك الذي أحسستُ به في فندق 5 نجوم. ناديتُ من جديد على النادل و قلتُ له : أهذا هو المطعم الفرنسي الذي حدًّثني عنه السيِّدة المشرفة على للفندق؟ فمتى كانت هذه الوجبات فرنسية؟ أتكون هذه السيِّدة قد كذبت عليَّ؟ قال : لا يا سيدي، لم تكذب عليك. إذا أردتَ أن تتناولَ أكلاتٍ فرنسيةً، عليك أن تذهبَ للمطعم الموجود في الجانب الخلفي للفندق. تنفَّستُ الصُّعداء من جديد!
في حينه خَطَرَ ببالي سؤال مُقلِق : "هل فعلا كنتُ أتناولُ، في فندق 5 نجوم، لحمَ البقر كما هو مشار لذلك في لائحة الوجبات؟". كل شيء ممكن في هذه البلاد. فوَّضتُ أمري لله و تابعتُ إقامتي في فندق 3 نجوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى