نجمان ياسين - حكاية مؤسية

كانت جدتي قد أوصدت باب الموت أمام العشيرة ، وحين رحلت فجأة إنهدم الباب فهبت علينا رياحه بضراوة لا ترحم ،

كان أول الراحلين أخي ، ط ، ياسين ، ذلك الفتى الذي سرقته الغمامة وعواصف ريح الشمال ، الفتى الغشيم والمستور، لم يكن يحسن الشتم ، ولم يعرف كيف يشتم ، ولم يختصم مع إنسان قط،

أصيب الفتى الاشقر ، صاحب العينين الزرقاوين الغارقتين في طيبة مؤسية بجرح في فخذه ، وجاءنا في اجازة مرضية ،

بعد إسبوعين طلب من أختي أن توسع له سرواله الذي بدأ يضيق من جهة اليمين ، يا للفتى البرئ ، ماكان يدرك أن الورم قد هاجم فخذه ا?يمن ، أختي قالت : السروال طبيعي وليس ضيقا،

في اليوم التالي قال لنا : فخذي هذا أكبر من الايسر،قالت أمي : القصف هو الذي جعله ((يهبط )) وسبب هذا الورم الخبيث ، وقال أبي : لم يندمل جرحه القديم ، تلوث والتهب وتضخم بهذا الشكل ،

وقالت اختي : الجن والشياطين قد سكنت جرحه وجعلته هكذا ،

أما الاطباء فقالوا : ينبغي ان تبتر رجله قبل ان يمتد المرض ليأكل كامل جسده ،

قال أبي وعيناه تومضان ببريق دمعة توشك ان تنفجر : ذهب الولد،

وسقطت دموعه ،

للمرة الاولى أرى أبي يبكي ،

قلت له : توكل على الله ،، لا تضعف أخي ، هل تبكي حقا ؟

كان الفتى الغشيم ط ، ياسين يرقب مندهشاً وكثير من الطفولة المرتبكة تحيط بوجهه المغطى بصفرة عميقة ،

قال أبي : الذرية هبة الله ، وهي غالية ، ستدرك هذا بعد أن تتزوج ويهديك الله الذرية الصالحة ، بتروا فخذ الفتى ولم يبتروا المرض ، بدأ المرض يفترس جسد الفتى الذي كان يبدو وكأنه لايدري ما يجري ولايريد أن نشعر بالحزن عليه ، وكان يردد : بسيطة ، الله كريم ، بسيطة يا توأم دمي ؟ بسيطة أيها المفجوع الذي لم ير الدنيا ولم تره؟ كنا نعرف أنه يذوي يومياً وكنا نعرف أنه قد دخل الدنيا من باب وسيخرج من باب معصوب العينين ، ولذا فكرنا بأن نسعده في أيامه الاخيرة ولاننا نحن اخوته نعلم أنه لم يتحدث مع أنثى غريبة من قبل ، فقد تدبرنا مكانا ملائما أعده صديق من محلتنا ، وجئنا براقصة غجرية وبموسيقي يضرب على الايقاع ، وجئنا بصندوق بيرة مثلجة ، حملنا الفتى بين أحضاننا وضممناه الى صدورنا نحن أخوته الاشقياء وجئنا به إلى مكان الانس. آه ياقلبي الذي أهلكته الحروب ، هل أنت من حجر صوان حتى تروي الحكاية هكذا من دون أن تمنحها دم الحياة لا وتجعلها تدب على الارض؟ آخ أيها القلب الغشوم ، كيف لم تطق وتنفجر وقـــــــــد رأيت ما رأيت وامسكت بالجمر واكتويت بناره ؟

بدأنا حفلنا الايقاع يتعالى والراقصة الغجرية تدور على الايقاع ومعه ، وفستانها الضيق الشفيف يكشف عن جسد مثقل بالثمر الناضج ، ونحن نكرع البيرة ،

الفتى مسطول ، وجهه طيع ورضي تسري فيه الدماء من جديد وعيناه صارتا جمرتين تتألقان بوميض نار، دبت النار في رماد روحه وعادت ألسنتها تلتهب في صدره المكدود الذي يضج حينذاك بطبول الذاكرة ،

غمزنا للراقصة أن تقترب منه وترقص له ،

اقتربت الراقصة من الفتى الطائر بفرحه المنطلق من آلام جسد في قبضة الردى ، قبلته الراقصة من وجنتيه ،

إستكان الفتى المقرور لدفء قبلاتها السريعة ،كرع نصف قنينة بيرة دفعة واحدة ، وطلب سيجارة ، كنا نعرف أنه لايدخن، قبل أن ينفث دخان السيجارة سعل لمرة ، لمرتين ، ثم بصق شريط لعاب ممزوج بدم داكن . أزلنا شريط الدم ، ومسحنا الارض بقطعة قماش . الراقصة مضت في قبلاتها وحركاتها الاغوائية والفتى لم يأبه للدم النازف من عروقه المقروحة ، كرع ما تبقى في القنينة من بيرة ، وعبّ دخان السيجارة بلذة ، وصرخ فجأة ! أريد أرقص يا جماعة ، انهضناه ،الايقاع يتسارع والراقصة تضحك له وهو يرقص على رجل واحدة وقلوبنا رجله الاخرى ، بغتة رأيناه يبكي ويرقص ، يرقص ويبكي ،، وبغتة قال لنا ،، عودوا بي الى مكاني ، عدنا به ، ظل صامتاً لاكثر من دقيقة ، وأجهش ثانية في بكاء متقطع ومرير،الايقاع توقف والراقصة توقفت وقلوبنا شرعت تدق بضراوة فالفرح العاصف في ارواحنا تحول الى جثة هامدة ، بدأ الفتى يبكي ، وبدأنا نبكي ، الراقصة مذهولة بما يجري وضارب الايقاع ينظر ببلاهة ، قلوبنا مخنوقة ودماؤنا حطب يابس يضطرم في تنور لهب كافر ، غص الفتى بنحيبه المتفجر وقال : آخ يا جماعة ، الدنيا طيبة ، طيبة ، وغرق في البكاء ، الدنيا طيبة ؟ آه يا أخي الراحل الغشيم الذي لم يعرف الدنيا.


– نجمان ياسين
أعلى