عبدالله البقالي - هدير الأزمنة

...من اليوم الأول لاح أن الحياة ستتوزع كمسار غواص وهو يسبح متراوحا بين غطس و تنفس..آسا هي الغوص. و العطل هي التنفس. وداخل الغوص ستتأثث الحياة مستندة إلى ثلاثة أركان. المسكن و المدرسة و المقهى.في نظام صارم لا يقبل تغييرا او تعديلا.و لامطلب غير أن تنزلق الأيام بوثيرة تتمناها مرتفعة.
في أول يوم عمل ظهر"القمري" شيخ بمظهر شاب. مثقل بأوزار الترتيبات التي تطبع سلوكه بالقلق و الاستعجال. وهو من خلال مظهره يوحي بتأثره بالمدرسة الاستعمارية من خلال طقم لباسه الذي يعود لعقود خلت. لكن أسلوب تدبيره يظهر انه تأثر بما راج في العقود الأخيرة بعقلية التحكم والاسنبداد في علاقة الرؤساء بمرؤوسيهم.
لقد كان ودودا بشكل مبالغ فيه مع الأساتذة القدامى الذين سبق ان دجنوا. في حين كان جافا مع الوافدين الجدد لحد انه لم يبتسم ولو مرة حتى وهو يرحب بقدومهم. ومن ثم بدا و كأنه عقد حلفا مع القدماء الذين عبروا بدورهم عن حساسية وصلت حد الاستخفاف بالمعلمين الجدد. فجل القدماء كانوا مرتبين في السلالم الدنيا. ومعظمهم التحق بالتعليم في ظروف كان فيها خصاص وبالتالي لم يمروا بأي مركز تكوين. كما ان الكثير منهم مارس عدة حرف قبل ان يتم مساعدتهم في الحصول على وظيفة.
كان "امبارك" أول من اصطدم بالقمري. إذ بعد وصوله الى آسا ذهب للمدرسة من أجل أن يقدم نفسه للمدير . و تصادف ذلك مع نقاش حاد بين أب كان يريد تسجيل ابنه.في حين رفض المدير بدعوى ان الطفل لم يبلغ السن القانوني. فكان ان زج امبارك بنفسه في النقاش الداىر لصالح الأب. انذهل المدير و طلب من امبارك ان يعرفه بهويته. وحين فعل, طلب المدير من الاب ان ينتظر خارج المكتب. وبعدها يمكن القول أن امبارك قد نجا من الافتراس. و لم يسمع له صوت بعد ذلك في اي قضية طوال السنين التي أمضاها في آسا.
حين بدأ أول اجتماع. كانت ملامح المستقبل قد تشكلت. القدماء كانوا يجلسون في جهة. والجدد كانوا في الجهة الاخرى. و الأذهان كانت تشحن بالصور و الوقائع التي ستصير بعد حين مواضيع للتفكه و السخرية.
رباط عنق المدير كان الموضوع الأكثر إثارة. فالرجل نحيل جدا، في حين كان رباط عنقه يغطي كل صدره كغلاف لسرير. اما حين ألح على الطاقم أن يضع رباط عنق، فقذ ضجت القاعة بالضحك. إلا انه اعتبر ذلك مسا بشخصه. نهج بعد ذلك أسلوب العزل و التفكيك و سأل الخيبري: أنت. لماذا ترفض وضع رباط عنق؟
قال الخيبري: ماذا يجدي كائنا يرتدي جلبابا في جهنم؟
رد المدير بحدة: هذا امر لا يقاس عليه.
- إن لم تجده كذلك فذلك شأنك. و لا يخصني انا.
سأل البدراوي: و انت. ما تبريرك؟
ضحك البدراوي و قال: أنا ابن مدينة الرباط. ولو تطلب مني وضع رباط يوما لفعلته هناك و ليس هنا. ثم ألا تجد من يضع رباط عنق في آسا كمن يتجول بلباس السباحة في سيبيريا؟
ضجت القاعة بالضحك و اكفهر وجه المدير الذي انهى الاجتماع بعد ان اسنذ الأقسام الاولى للوافدين الجدد.
لم يكن خاف أن فصلا إضافيا قد انضاف لما كان متوقعا.استنتاجات مشتركة بين معظم الوافدين وهم يتبادلون التعاليق في مقهى البشير.
كان الجمع ضخما و قد انضم اليه بعض القدماء، الذين ربما كانوا يسترجعون صورا مشابهة لما عاشوه يوم كانوا حديثي العهد بوصولهم الى آسا. وربما كانوا يرسخون في اذهانهم شكل و ملامح الوجوه و هي مقبلة على تقلبات كثيرة ستغير فيهم أشياء كثيرة. و لذلك فالغرباوي كان يبحث عن صوره التي سجلت له قبل ست او سبع سنوات من قبل حين توقف مساره الدراسي و بحث له اهله عن عمل. وحين اقترحوا عليه العمل في الجنوب ، لم يجد مبررا للامتناع عن خوض المغامرة. لكنها مغامرة لم يكن يتصور أنها قد تصل حد جعل حياته محل سؤال.
الضراوي لم تكن حكايته تختلف كثيرا عن حكاية الغرباوي، باستثناء أنه الوحيد الذي حضر رفقة أسرته إلى آسا. وهو الأخر كان قد انقطع عن الدراسة. ومارس عدة حرف آخرها أنه كان جزارا. وهو حين وصل آسا عومل معاملة خاصة. و منح مسكنا بالمجان في حي الضباط المجاور للثكنة العسكرية. و بالاضافة إلى كونه كان مولعا بالرياضة، فقد أصر أن يحفظه العالم بالرجل الذي لا يفارق الكتاب. إذ حتى وهو يحمل الخبز إلى الفرن كان يفتح كتابا.
الضراوي كان شديد الحماس و أكثر من تكلم. قال للجمع اسألوا الغرباوي ماذا قاسيناه ؟
صمت الغرباوي مدة وقال: كان ذلك قبل أربع سنوات. لم أكن ليلتها قد بت في مسكني. بل قضيت الليلة في الحي المجاور للواحة. وما بين خلودي للنوم و اللحظة التي سمعت فيها اول قذيفة تدوي، لم تكن قد انقضت ساعة باكملها. و حين تكرر إطلاق النار بكثافة، و من محاور شتى، أدركت أن آسا بصدد عملية تطويق. وكان أول ما فكرت فيه هو أن المكان غير محصن. على عكس موقع مسكني الذي كان يقع في الجهة المعاكسة. و من ثم قررت خوض المغامرة و الوصول إلى مسكني.
كنت في منتصف الطريق حين أحسست أني صرت في مدى النيران. المقتحمون كانوا يتقدمون بسرعة. و معنى ذلك أن إمكانية اللحاق بي كانت واردة جدا. لكني لم اكن وحدي من يركض في الأزقة. بل رأيت حتى بعض العسكريين الذين لم يكونوا قد باتوا في مواقعهم يركضون ايضا وهم يحاولون التخلص من ملابسهم. و تطور الوضع بشكل سريع ليتضح لي أني مهما فعلت فلن أصل هدفي. و أني عالق لا محالة. وحين صار ذلك حقيقة، انفتح امامي مخرج لم يكن في الحسبان. إذ علا صوت عجوز مخاطبة إياي: هيا انفذ بجلدك.
توقف الغرباوي للحظات ملتقطا انفاسه و مغالبا تأثير تلك الذكرى و أضاف:حين يصير المرء مجردا من أي خيار في زمن الفواجع،فهو لا يهتم مطلقا لا بالوجوه و لا الألوان و لا الأصوات و لا أي شئ. بصره وبصيرته تظل مثبتة على مدخلين يختصران كل ما في الكون. مدخل إلى البقاء و آخر إلى الفناء. وكل ما يستطيع الإنسان ان يفعله في لحظة كتلك، هو بالضبط ما فعلته تلك العجوز اتجاهي.
و بعد؟
هكذا طالعه الجمع الذي استبد بهم حب الاستطلاع.
اختبات في ركن تلقى فيه المتلاشيات، و لم يمض وقت طويل حتى وصلوا. و يبدو أن مظهر العجوز كان له تأثيره. إذ اكتفوا باستفسارها عما إذا كان معها اطفال فأجابت: أصغر أبنائي في مثل سن آبائكم.
- نحن نقصد ما إن كان معك أحفاد أو أبناء من المقربين.
- لست بتلك الحظوة.
انصرفوا، لكن المشهد ظل ثابتا كضياء مغناطيسية تخطف الأبصار، و لا تسمح بانزياحها إن وقعت في مجال جاذبيتها.
لقد تم كل شئ في زمن خاطف. لكني اجده يوازي كل العمر الذي عشته او يفوقه بكثير. ولذلك احسست بعدها أني شخت.
يضحك الغرباوي و يطلب من الحاضرين أن يستفسروا الضراوي هو أيضا. فهو قد عاش ما يفوق واقعته.
بدا على الضراوي أنه هيأ نفسه لتلك اللحظة. عدل من جلسته و قال: دقائق أزمنة النكبات ليست هي نفسها وحدات حساب أزمنة الأحوال العادية. حتى نبض الأفئدة و التنفس و الأمنيات و حرارة التطلع تكون مختلفة. و الرقع و المسافات تصبح بتوزيع و ألوان لا يراها إلا المنكوبون و من هجر السلام أفئدتهم.
تطلع الجمع لما بعد المدخل الذي بسطه الضراوي الذي بدا فيه اكبر من الحجم الذي يبدو عليه. استبدت الرغبة بالجمع لمعرفة طبيعة تلك الرقعة و ما إن كان مصدرها لعنة الجبل المثقل بجثامين الأولياء، أم أن المشكل في الانسان و حواره مع الزمن. زمن القبطان و الغرباوي و الان الضراوي، وصولا إلى زمنهم الذي يتهيأ الآن للولادة....

===


هدير الأزمنة ( تابع)
بدأ الجدار يبرز الآن من الأرض، وهو سيمضي بك صعودا ليفصل بين ما مضى عما سيمضي. لكنه سور بدون بوابة، أو انها كامنة في مكان ما بعيد. الوصول إليها سوف لن يتطلب منك سنوات من عمرك فحسب، بل ويتوجب ان تصل إليها و انت الإنسان الذي لن يكون الشخص نفسه الذي كان من قبل.
المهلة مازالت الآن مفتوحة أمامك. يمكنك بقفزة صغيرة أن تضع نفسط خارج كل الحكايات، إلا أنك لن تجد أبدا البوابة التي انبعثت منها مشرعة.
صوت :الخيبري "وهو في جلسته وسط فناء البيت تنتزعك من شرودك مؤججا سجالا حادا مع "عدلي" - ذلك البيضاوي الذي ستسخر أسرته إمكانياتها من أجل انتشاله من آسا - الخيبري يقول صارخا: جالسوا الضباط و انصتوا إليهم وهم يتحدثون عن خسائرهم البشرية. إنهم يفعلون ذلك وكان الأمر لا يتعلق بكائنات كانت لها أحلام. وأن لها في الخلف من ينتظر عودتها. بل هم يتحدثون عن قطع. نعم قطع و كان الأمر يعني فقدان ملعقة أو صحن أو كأس.لكن الادهى هو كيف ينظرون لخسائر خصومهم. فاي عالم هذا الذي يصبح فيه صنع المآسي هو ما يدخل الفرح للقلوب؟
الفاتحي يقاطع الخيبري عما يكون حال بين ذلك المقاتل وقتل" الضراوي". ذلك التصرف الذي يجده مغلفا بالإبهام.
الخيبري يرد. السؤال الاهم في هذا الامر هو ما الذي كان سيجنيه من قتل الضراوي؟ ألم يكن تركه حيا هوالاجدى مادام سيحكي ما حكاه؟ وقبل هذا، لماذا سئلت تلك العجوز عن الأطفال؟ . إنهم يفكرون في حرب طويلة ، و يحتاجون إلى من يحمل الألوية في حال تقادمهم. وهم بذلك الشكل سيضمنون استمرار طرحهم، و في الوقت نفسه ارتباط الاهالي بهم.
وحده الشاوني وضع نفسه خارج كل ما كان يروج كإنسان انشطر نصفين يوما ما، و بات غير قادر على أن يشكل صوتا أو ينغمس في قضية ما لم يصبح مكتملا باستعادة نصف كيانه الذي تاه عنه. عزل نفسه عن كل شئ. وحدد وجهة وحيدة و راح يقصف و يلطف عبر رسائل كان لا يبدو أن لها نهاية.
في لحظات استراحته حين كان يرفع رأسه عن الاوراق،و يلقي نظرة على الركن الآخر من الغرفة ليتأكد من انك هناك يسألك: أي جهة من الشمال انت؟
ترد: من غفساي.
- هل هي بعيدة عن الشاون؟
- هي في الجنوب الشرقي لاقليم الشاون. وعدم وجود طريق مباشر يربط بينهما يجعلها كذلك.
حين لامس الأنس، بدون مقدمات صار يحكي عن اخيه الاكبر الذي كان بطلا في سباق الدراجات، وكيف مات في حادث مؤلم. لكت ذلك لم يكن سوى مجرد تمهيد كي يحكي القصة التي سترافقه عبر فصول عمره، بشطلها الصاخب في البدء، وبزحفها الصامت في المتبقى من العمر. ويوضح كيف انه حين رآها أول مرة، أدرك أنها دون سواها هي الانثى الوحيدة في هذا المعمور. كل اللواتي مررن به لم يحدثن به أي تأثير. لكن محرد أن يلوح طيفها حتى ولو في المنام كان يتغير فيه كل شئ. من نبض فؤاده إلى أوعيته التي تتسع كي تسهل ذلك التدفق السريع لدمائه. و كيف أن حتى الامكنة تتلون بألوان سحرها.
تنتبه وانت تتابع حكيه إلى ذلك البون الهائل بين أجواء غرف تلك الدار. فالانشغال هنا هو بلون الحرقة و الاحساس بالفقد. و هو هناك في الغرفة المجاورة ملون بوثيرة الحياة التي تجري كل فصولها في الخارج.. و يعلم الله وحده كيف هو مشكل في أذهان تلك الكتلة الصامتة التي بدا عليها أنها تحتاج لزمن طويل كي تستوعب ما يعاش و ما يحكى
بعد سلام جاف مع القمري ، تسلمت وثائق تلاميذ قسمك. و من النظرة الأولى بدا ألا واحد من التلاميذ له تاريخ ازدياد مضبوط. مجرد سنوات بلا شهور و لا أيام. و بدت لك غرابة بعض الأسماء التي لم تستطع ان تفرق فيها الإسم العائلي عن الشخصي. لكن الأهم كان هو حين أدخلت التلاميذ إلى القسم. كان كل شئ جديدا بالنسبة لك،و بالنسبة لهم. فأنت كنت معلم جديد في أول يوم عمل له في مساره المهني. و في بيئة جديدة. و هم كان جددا على المدرسة و جدد في التعامل مع شخص من خارج بيئتهم. لكن المشجع انهم كانوا متحمسين، و عيونهم معبرة عن تطلع و انتظارات. و البعض منهم كان يعي أنه يعيش لحظة تاريخية بانتمائه للمدرسة.
قدمت نفسك للمتعلمين، و بدات عملية التعرف عليهم و على احوالهم واحدا واحدا. كان ما أثار انتباهك هو طفلة هي الاكثر طولا و نضجا مقارنة بباقي المتعلمين. ويشع من عينيها ذكاء و فطنة. كانت "حميدة". لم تولد في آسا. كانت تعيش في مكان ما في ربوع الصحراء رفقة عائلتها وعشيرتها. و لم يكن يومذاك جدار أمني، و عوضا عنه كانت هناك قيالق ضخمة متحركة تحمل أسماء معارك تاريخية كالزلاقة و الارك و غيرها . و عندما حوصرت الزلاقة في وادي درعة، تغيرت الاستراتيجية العسكرية لتستقر على بناء جدار ثابت. و اقتضى الأمر ترحيل السكان من المساحات التي سيتم التخلي عنها و نقلهم إلى خلف الجدار. وبذلك وصلت حميدة إلى آسا. كانت تفوق التلاميذ بسنة او سنتين. ويمكن أن تكون ضحية لقرار القبطان حين قرر ترحيل ذلك المعلم بالقوة.
حميدة كانت راضية عن الكيفية التي تم التعامل معها بها. لذلك تقلصت المسافة الفاصلة بينكما لحد أنها تجرأت و جلست على حافة المكتب و صارت تحكي ليلوح لك ذهن مكدود صدم باكرا حين وجدت نفسها تعيش في عالم كان ابعد عما تكون عليه عليه عوالم الطفولة. تستعيد صورا من مواسم كان يلتقي فيها القادمون من هناك مع القاديم من هنا. من لم يكن في وسعه تقديم شئ، كان يؤخذ إلى تندوف. و الذين كانوا يستطيعون تقديم الدعم و الأموال، كانوا يتركون. عالم من عواصف كان يمكن أن تعصف في أي وقت، لتصبح الحياة مجرد اجتهاد ووضع التوقعات لتحديد مصدر العواصف المقبلة.
أشياء كثيرة حكتها بلكنة كنت تجد صعوبة في فهمها. لكنك كنت تستعيض عن ذلك بتأمل الصدى الذي تخلفه الوقائع على الوجوه. وجوه أكبر من الطفولة و أصغر من الحرب.
لم يكن وجه حميدة هو وحده المثير. و انتابك اليقين أنك لا تتعرف على وجوه، و إنما على الصدى الصامت الذي تخلفه الوقائع حين تتحول الهزات من حركاتها المدوية إلى زحف صامت داخل حياة الأحياء.
وجه"الناجم" هوما أفضى به لك بهذا. إذ لم تر طول العمر الذي عشته وجها نحتت القسوة تعبيرا يجسدها بتلك البراعة و الدقة كذلك الذي رسمته على وجهه. وجه كأنه تحول إلى صورة لطفل وهو ينظر إلى كارثة مهمولة. طوال سنة بأكملها لم أفلح في أن تنتزع منه ولو ابتسامة.
كان الناجم نحيلا جدا لحد أن نبض قلبه كان يبدو كأقصى حركة يمكن ان يقوم بها جسده. تسأله فيجيب في منتهى الاختصار. سألته عن أبيه. أجاب: في الجبهة.
قلت: أي جبهة.
اكتفى بان أشار شرقا.
- رأيته من قبل؟
هز ٍاسه بإيماءة مشيرا بالنفي.
توقفت عن السؤال. هو لا يعرف عن أبيه سوى مكان تواجده في هذا العالم. لم يعرف له وجها. لم يحظ منه بابتسامة و لا بتمريرة يمسح فيها شعر رأسه. و لا ضمه لصدره لتتناهى إليه حرارة أنفاسه.و لا أحس وهو يزحف مع أقرانه في دروب الحياة أن عينا ترقبه بإعجاب و تمده بالحوافز التي تقوي عزمه و تشجعه على رفع ايقاعه. لم يعش أي شئ من هذا. بل عاش على ما كان بالإمكان ان يكون وهو ينظر إلى أقرانه وهم ينعمون بالحماية و ما يعنيه وجود أب في الحياة. فكيف يمكن أن يبتسم؟ و لأاي سبب؟
المشهد نفسه تكرر مع "الحسين". لكن محيطه منعه من ان يهوي إلى القعر الذي وصله الناجم. و اوقفت استطلاعك.
أنت قبل حين كنت تفكر في قفزة تجعلك خارج السور و خارج جدار الحكايات لتمضي إلى أرض الله الواسعة. لكن ينفع التقوقع في الجغرافية الضيقة؟ هل ستكون بذلك قد تخلصت من كل هذه الصور التي راعتك هنا. و انك ستسطيع بناء انسجام حتى و انت تعي أنك داخل حياة يناضل البعض فيها من أجل بلوغ مرتبة الكمال، في حين يكابد الآخرون فقط لكي يبقوا على قيد الحياة؟
الجحيم ليس بالضرورة هو أن يكون جسدك هو ما يحترق. بل يكفي أن توضع وسط كائنات و اطفال ترمدت حياتهم وهم في أعمار زهور كانت براعمها على مشارف التفتح.
وقفت تنظر إلى عيون الاطفال. ادركت أنك ستكون جسرهم الاول وهم يطلون من خلاله على هذا العالم البعيد عبر ما ستفضي لهم به. إذ ستقربهم من العالم أوتقرب العالم إليهم. لكن أي عالم والعالم عوالم؟ هل ستكون محايدا و مجرد ساعي بريد لا رأي لك فيما ستحمله إليهم أم ستفض الرسائل لتضيف إليها أو تحذف متمردا على الدور الذي أنيط بك في عملية جردتك من كل ما تحمله و صنفتك على أن مجرد وسيلة؟
طبعك المتمرد هو الذي قادك إلى هنا. و هذا هو الجحيم الذي بشرك به مدير المركز. و انت لم تعرف في اللغة لمفردة الجحيم جمعا . و معنى ذلك أنه ليس هناك جحيم آخر يمكن أن يبعثوا بك إليه. لإانت في الحد الأقصى و الأقسى للنقمة. و لن تعود إليهم مهما حصل بثوب التائب.
ما كان خاف عنك أنك امام اطفال. هم بالتأكيد ليسوا في حاجة إلى خطب. و لذا ارتأيت أن قمة الإنجاز الذي يمكن ان تساعدهم فيه على تحقيقه، هو أن تعينهم على هدم رمزية سلطتك و ان تجعلهم يستغنون عن وساطتك في علاقتهم بالمعرفة. و غذا استطعت أن تنجز هذا، فسيحق لك أن تصرخ بأعلى صوتك بكونك فتحت ثغرة في جدار الجحيم.


=

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى