أ. د. عادل الأسطة - ترمي بشرر

ترمي بشرر (2010) هي رواية الروائي السعودي عبده خال الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية هذا العام. حتى اللحظة لم تصدر لها طبعة هنا في الارض المحتلة، وقد كلفت زميلاً لي بإحضارها لي من عمّان، وقد فعل وأحضرها قبل عشرة أيام. الطبعة التي لدي هي الرابعة وعليها عبارة "جائزة البوكر للرواية العربية 2010"، وهي صادرة عن منشورات الجمل/ ألمانيا.
لوحة الغلاف الى جانب اسم المؤلف أعلى الصفحة في وسطها، وعنوان الرواية باللون الأحمر، خلافاً للون اسم المؤلف حيث هو الأسود، وعلى الزاوية اليمنى/ أعلاها إشارة الى الطبعة والجائزة، وأما أسفل صفحة الغلاف فاسم دار النشر ونوع الجنس الأدبي. أمعن النظر في اللوحة: الأزرق السماوي والغيوم البيض وشاطئ البحر، وفي الوسط ما يشبه الصخرة هابطة من السماء، أعلى الصخرة قصر أو قلعة. هل أجدت الوصف؟
تجري أحداث الرواية في أحد أحياء جدة، في حي الحفرة، وفي القصر الذي أقيم الى جانب الحي على شاطئ البحر، ليغدو بعض أبناء الحي موظفين في القصر الذي يحيا سكانه حياة بذخ وترف وفسوق - وفسوق كلمة ترد على لسان طارق راوي الرواية والشخصية المحورية فيها، وفسوق أيضاً عنوان رواية سابقة لعبده خال -. وهكذا سنجد أنفسنا ونحن نقرأ الرواية أمام عالمين؛ عالم جدة القديم ممثلاً في حي الحفرة، وعالم جدة الجديد ممثلاً في القصر، وما بين هذين العالمين نلحظ التغيرات التي طرأت على المجتمع السعودي مع اكتشاف النفط وما نجم عنه. كأن عالم القصر عالم خيالي أسطوري. كأنه من عوالم ألف ليلة وليلة.
من قبل قرأنا، هنا في الأرض المحتلة، لروائيات سعوديات أكثر مما قرأنا لروائيين سعوديين، قرأنا "بنات الرياض" لرجاء الصانع، و"الآخرون" لصبا الحرز، و"الأوبة" لوردة عبد الملك، و"نساء المنكر" لسمر المقرن، فقد أعيدت طباعة بعض هذه الروايات، وكنا لاحظنا جرأة الكاتبات في مقاربتهن الممنوعات والمحرمات. هل صدمنا يومها أم دهشنا؟ وهل اختلفت رواية "ترمي بشرر" عن "الآخرون" لصبا الحرز في جرأتها؟
كان لي صديق عمل في أوساط السبعينيات في السعودية، وما إن غاب سنوات قليلة حتى عاد ينعم بريالاتها، اشترى أرضاً وأقام عليها بناءً، واشترى سيارة عمومي وأخرى خصوصي، وكان يحدثني عن حياته هناك. ولم يكتف بالحديث عن حياته، وإنما قص عليّ قصص بعض معارفه. هل ما كان يقوله لي كان حقيقة أم أنه كان من نسج خياله؟ وحين التقيت بصديقي قبل أيام، على دوار المدينة في نابلس قلت له: كنت أظنك تخترع أحاديثك يوم كنت في السبعينيات تحدثني عن حياتك وحياة بعض أصحابك، فإذا بي أقرأ أفظع مما كنت تقول. وقد عادت الذاكرة بصديقي إلى أيامه تلك وأخذ يقص عليّ ما يتذكره. ومع ذلك سأقول له: إن "ترمي بشرر" تقول أكثر مما تقول.
"ترمي بشرر" رواية بطلها طارق من حي الحفرة، يقص أيضاً قصته وقصصه على عبده خال، فاسم المؤلف يرد في نهاية الرواية ليفصح لنا عبده خال أنه لا يكتب عن تجربته هو، وإنما عن تجربة شخص قص عليه ما قص وطلب منه أن يكتب حكايته حين علم منه أنه كاتب روائي. وربما فعل عبده خال ما فعل ليقول للنقاد: لست بطل روايتي ولست راويها. أنا كاتبها فقط أكتب ما رواه لي طارق، كأنما طارق هو المؤلف الضمني. كأنما أراد عبده خال أن يكون حذراً، فبطل روايته إنسان معطوب وسكير وحشاش ولوطي وبلا ضمير، يتحول إلى سجان سادي تقريباً، يمارس مع الذكور ما يطلبه منه سيد القصر الثري المستبد الذي لا ذمة له ولا ضمير، فما يهمه هو المتعة والتفنن فيها، والسيادة والسيطرة وإذلال الخصوم، وكل شيء أمام هذا مباح، والويل لمن لا يصون أسرار القصر. وكل ما يجري داخل القصر مصوّر، حيث لا يغيب عن سيده أي سلوك. إنه يعرف كل صغيرة وكبيرة عمن يعيش في القصر.
وأنا أقرأ "ترمي بشرر" تذكرت رواية "امرأة للفصول الخمسة" لليلى الأطرش، فعالم الروايتين يجري في دولة نفطية، والدعارة وتبادل النساء والديوث عوالم مشتركة لأبطالهما. لكنني وأنا أقرأها تذكرت أكثر رواية الكاتب اليهودي الحائز على نوبل اسحق سنجر: "التائب" (Der Busser)، وكنت قرأتها قبل عشرين عاماً بالألمانية. وللأسف لا أمتلك نسختي لأعود إليها فقد أهديتها إلى (فرانسيسكا) طالبة الاستشراق التي أقمت في منزل أهلها في (بون). ولكني ما زلت أتذكر اسم بطل الرواية (يوسف شابيرا)، وقد كتبت عنه مقالة في جريدة نابلس في أوساط التسعينيات من ق02. يمارس (يوسف شابيرا) في أميركا حياة بوهيمية: يسكر ويزني ويفسق ويمارس المحرمات، وحين يمل يقرر مغادرة أميركا إلى القدس، وفي الأخيرة يعلن توبته، ويحيا حياة هادئة مستقرة. هل اختلف حال طارق في رواية ترمي بشرر؟ يكاد يقترب طارق من هذا، لكنه لا يستطيع، فالرواية تنتهي بخروجه من القصر وعودته الى حي الحفرة، حيث أخوه ابراهيم، وفي بيت أخيه يتعرف على أبناء أخيه وابن أخته مريم، ويتعرف على أفراد عائلته التي أحياه أخوه، فقد سمى ابراهيم أبناءه باسم أبيه وجده وأخيه أيضاً. ويصطحب ابراهيم أخاه طارق إلى المسجد ليصلي عله يجد الهدوء بعد سنوات طويلة تبلغ الثلاثين من الضياع، من الخمر والنساء والقتل واللواط الذي يقر به طارق، ويعترف به حين يحدث عبده خال عن قصته.
حين نشأ طارق في حي الحفرة كان أمام طريقين لا بديل عنهما، إما أن يقتنص الغلمان، أو أن يقتنصه من يقتنصون الغلمان، ويختار الطريق الأول، فقد نجا من الثاني بأعجوبة. ولا يهتك أعراض الأطفال فقط، وإنما يسلب محبوبته عذريتها، فتذبح، لتظل قصتها تؤرقه وتؤرق من أراد أن يخطبها ويتزوج منها.
الرواية رواية اعترافات. كأنها اعترافات جان جاك روسو. ص832 فقرة مهمة كأنها مفتاح الرواية: "انهيارات نفسية تجتاحني"، وفي كل مرة أستند إلى الإيمان بقدريتها، وذات ليلة طاعنة في الحزن كان جوزيف عصام يسندني. خلته يقوم بدور الطبيب النفسي، فإذا به يحدثني عن أهمية التطهر من خلال الاعترافات، كنت رخواً حيال أفكاره الدينية، فبذر في داخلي كثيراً من المعتقدات المسيحية طمعاً في تنصيري.
وتبدو الصفحات المضيئة في الرواية الصفحات 326 و327 و823328 على أن ثمة فقرة مهمة لدراسة الرواية تقع في 268ص، حيث تفصح لنا عن أسلوب التشظي في السرد، وتقول لنا إن الخلل فيه لا يعود إلى ضعف المؤلف في بناء روايته، وإنما إلى تناسب هذا مع حالة الراوي/ طارق:
"وكلما عدت لترتيب أحداث حياتي، وجدت نفسي عاجزاً عن فعل ذلك، حياتي بقع من الأحداث تومض في ذاكرتي، فأخلط أزمانها ومواقعها، كل الذي أذكره أنني غدوت عبداً حينما فتحت لي بوابة القصر، لأدلف منه إلى حياة متبخرة".
وسيرى الحياة كما كانت في عصور سابقة: أسياد وعبيد، وسيتساءل إن كان زمن العبودية اختفى، وما يراه داخل القصر يجعله يتشكك في أن زمن العبيد ولى:
"زمن العبودية لن ينتهي، هو زمن زئبقي، يتخفى في ملابس وهيئات مختلفة، آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آه كم اشتقت لامتلاك مقومات السيادة: المال والسلطة. هاتان الصفتان ظلتا طوال الأزمان هما الوسيلتين لصوغ التصنيف، تصنيف السادة والعبيد، ومن لا يمتلكهما فهو عبد، حتى وإن لم يشعر بعبوديته" (ص269).
والنار التي يذيقها عيسى عرام يتذوق منها هو. بل إن النار التي أذاقها عيسى لآخرين ستكويه، وسيرمى بشرر. يتهم عيسى زوج خالته سلوى بالجنون، وسيجرده من أمواله، ولن يختلف مصير عيسى عن مصير زوج خالته. وإذا كان عيسى أذل مرام، فسيأتي يوم تصبح فيه، هي التي حولها إلى بغي في القصر، سيأتي يوم تصبح فيه الآمر الناهي وستذل عيسى وتذيقه ما أذاقها، وسيلخص طارق حياته في القصر حين يخرج منه:
"ومنذ دخولي للقصر، وأنا أحمل دناستي. لم أتطهر منها يوماً." ص376.
قلت إن (يوسف شابيرا) في رواية (سنجر): "التائب"، لا يحصل على الطمأنينة إلا حين يعود إلى القدس ويكف عن حياة المتعة وارتكاب الموبقات - لاحظوا العنوان: "التائب". وفي نهاية سرد طارق، وفي الحوار بينه وبين أخيه ابراهيم يرد على لسان الأخير: "- الصلاة تخلق للطمأنينة يا طارق" (ص376).
و"ابراهيم يجذبني لداخل المسجد يعمق خطواته ليصل إلى المحراب، ويوقفني في الصف الأول خلفه تماماً، وأنا أرغب في الهرب" (ص378). و"حينما كبر ابراهيم للسجود سجد المصلون، خرت كل الرقاب، ورقبتي المتطاولة في فضاء المسجد، تلوب بحثاً عن جحر أندس به، كانت عينا أغيد - ابن أخيه - تراقبني، فألمح مرام كعمود ملح يذوب، استرخت الطمأنينة في سجود المصلين، وكان عليّ أن أستقر في سقوطي بعيداً عن أعينهم، فقفزت من على رقابهم بحثاً عن هرب أبدي."(ص379).
وأنا أقرأ الرواية تساءلت: هل سمح بتوزيع هذه الرواية في السعودية؟ وسأحاول أن أجد إجابة ومسوغاً أيضاً. ولعل المسوغ إن وزعت يكمن في أنها في الوقت الذي تبرز فيه عالماً قد لا يروق للمحافظين، حيث تقدم صورة سلبية للمجتمع السعودي في 90% من صفحاتها إن لم يكن أكثر، في أنها في أربع صفحات تقول لنا: هذا هو السير في طريق الرذيلة، ولا بد من السير في طريق آخر: الصلاة والجامع ففيهما الطمأنينة؟! ولعلني لست مخطئاً في استنتاجي!.



أ. د. عادل الأسطة
2010-06-13



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى