سفيان صلاح هلال - حين يحضر الشعر ليواسى شاعره في ديوان ِالشاعر حسني الأتلاتي (الأبيض يفرض سطوته)

صدر ديوان (الأبيض يفرض سطوته) للشاعر حسني الأتلاتي عن مركز عماد قطري للتنمية الثقافية، والديوان هو الإصدار الرابع للشاعر، ومن البداية يضعنا العنوان في عدة افتراضات عن مقاصده الدلالية، فالأبيض هو لون يعبر به عن الصفاء والنقاء وقمة الحسن تارة كما في قوله: قلبه أبيض، أو تاريخه ناصع البياض، وفي أحيان أخرى يعبر عن الفراغ والإفلاس مثل قولنا: عقله صفحة بيضاء، أو تعبيرنا الشهير "أبيض يا ورد" كناية عن الإفلاس، فأي معنى يقصد شاعرنا؟ ربما أجابت قراءتنا للديوان... ولكن الديوان لم يقتصر علي اللون الأبيض فقط، بل هناك حضور للونين الأخضر والأحمر في عنوانين آخرين من عناوين أقسام الديوان الخمسة التي قسمها الشاعر، ووضع لكل قسم منها عنوانا يشمل عدة قصائد وهي: دخول أخضر، تراتيل، دخول أحمر، أحزان مصرية، مشاهدات. وأظن أن هذا التقسيم كان له دلالته التي تقول رغم وجود كل هذه الألون والمشاهدات والأحداث فإن الأبيض يفرض سطوته كرؤية خاصة للشاعر.
ونستطيع القول أن الشاعر يرى الحياة من منظور دلالات الألوان في نفسه؛ فكلما لامس الواقع فرض عليه رؤيا مأساوية، منحنا المعنى السلبي للأبيض وهو الإفلاس "تلك أقدام أبي /الرجل الكريم /خافيا إلا من الحزن". فالأب ليس فقيرا كما صورته الصورة الشعرية حد الحفاء فقط، بل هو حزين، ومعنى حزنه أنه لا يرى أملا يغير من واقعه وهذا ما عبر عنه الشاعر أيضا "ورائي اغتراب لحد السما /أمامي هزائمي الحلوة المرة الباقية".. والشاعر يفقد الأمل ليس من ذات مكتئبة اكتئابا مرضيا، بل يفتقد الأمل لأن حصاده من نتائج كده وصراعه الدائم غالبا ما يكون اللاشيء "ذهبت للبحار /قلت: يا بحار /لست بحارا عريقا /بل غريقا /غير أني عاشق /فبرب هذا الماء /-وكان عرشه عليه- /أسألكم لؤلؤة /أنا لا أريد غيرها /لصدرها الوثير /لم أجد لم أجد"
والشاعر كما ذهب في سعيه للبحار ذهب للشمس وذهب للصحراء لكنه يقول: "عدت خائبا /وخابيا /ومتعبا لقلبي الصغير)
بالطبع أن يحضر الأبيض بدلالته السلبية ليس غريبا على ديوان اعتبر الشاعر ما سطره فيه مشاهدات ومكابدات كما أعلن في الإهداء.....
إن الواقع في أحسن حالاته يراه الشاعر واقعا مراوغا "وسيسحبها لفضاء لزج /بكلام سيسيح إذا طلع الصبح". لكن الشاعر فجأة يكتشف القصيدة في قمة اليأس و شدة السؤال لتكون حضورا بديلا عن الواقع المرير وكأن من الأبيض في شدة تجلياته السلبية يولد الأبيض بتجلياته الإيجابية
"هل تاه قلبي ضائعا/ أمْ ضاع قلبي تائها /وبعدها !/ما بعدها أميرتي ؟ /يا غرامي الأخير/ هل /تسكنين قصيدتي؟ /هي وحدها /التي لم تُلوَّث/ وحدها /قالت: لها/ قالت: لها" وهو يضع القصيدة النقية التي يؤكد عدم تلوثها مقابل كل شيء ويراه قد تلوث " هي وحدها /التي لم تُلوَّث/ وحدها"
ولكن القصيدة تفرد أشرعتها على مشاهد كثيرة في الواقع لتصنع للشاعر حضورا أعمق من حضور الواقع هو حضور المعنى لا حضور الحدث وهنا تندمج الحكمة مع حساسية الشاعر لتقلب له كل تصوراته عن الملموس والمشاهد بالمحسوسس والمرئي..حتى أننا نجد الشاعر حين تغيب القصيدة عنه يصبح مثل نبي انقطع عنه الوحي ويستجدي حضورها في شوق كالصلاة
"حُضُورُكِ يمنحني مُلكَ كسرى /بئر أيوبَ /يمنحني العصا الموسَويِّةْ /حُضُورُكِ أُحْيي بِهِ الميِّتين َ / حُضُورُك /يفعلُ بي كلُّ هذا /لِماذا.../لِماذا إذَنْ/كلُّ هذا الغيابْ ؟!" إن الشاعر كأنه يعيش بالقصيدة كما يعيش الجسد بالروح، ليس هذا فقط بل تصير القصيدة هي الطاقة التي تعادل حضوره حسب تغير المواقف. وكأن القصيدة وِرْد الرب الذي منحه للشاعر يتلوه في كل المواقف فتضعه حيثما يحب.
وهكذا يصير الشعر شغل الشاعر كما يصير الشاعر ربيب الشعر يلتقط له من مفردات الحياة ما يربيه بها؛ فيريه الجمال في القبح "لا ذنبَ جنيتُ ... /دمامةُ وجْهي لا تَمنعُ /لا تَمنَعُ رُوحي من تحليقْ /سوف تنسى /عربةَ خبزِ أبيها /ضربَ الحُقنةِ بِالبيضةِ /والقرشينِ /ستنسى /بقع الزيتِ على ثوبِ الأُمّ /الأمُّ التي /تصحو من فجرٍ /لترشَ الشَّارع من أملٍ/ وتبيعُ الخُبزَ" فمهما كانت رؤية عين الحياة فإن للشعر الذي ينفذ إلى جوهر الأرواح رؤية أخرى رؤيا تترجم ما وراء الأحداث والأفعال وما يدور في مخيلة الكائنات من جماليات الوجود. ومن الملاحظ في القطعة السابقة حضور الأبوين يستمد منهما الشاعر نموذجا لمقاومة الواقع بالعمل أحيانا، وبالأمل أحيانا، وبالفن والإبداع أحيانا "وأنا كذلكَ يا صديق كنتُ أطمعُ في دقائقَ/ كي أرتِّب /بعض أشْياءٍ لروحي:
مثلا آخذُ صُورتين /آخذُ وجْهَه المنحوت في صدري /أحضن قلبه المَوجُوع /أشحنُ هاتفَ الرُّوحِ قليلا/ بِابتسامته النَّبيلة /من مواويلَ يُغنِّيها فأبكي /ضِحكه الباكي /وحكمتهُ الجليلةْ"
ومن أبدع الصور في الديوان تلك الصورة التي رسمها الشاعر للأم وهي تصنع لأبيه عالما بديلا عن عالمه الواقعي المرير( إلى أمّي التي كانتْ تردّ البابَ خلف أبي /وتظل على نار حتى يرجع /يحمل بعض التين والزيتون والعرقِ /فتمسحُ عنه غربته ببسمتها
و(تَندَهُنا) نحيط به كجلبابهْ. /وَنأكل خبزها المصنوع من قمحٍ على نار اشتعال (البوصِ) /والأيامِ /والقسوةْ)
إن حضور الشعر البديل عن الشاعر، أو عن الذين في خاطره من الناس، أو عن عالمه المتخيل، أو ضد عالم ينكره الشاعر لقسوته، أو قصور نظرته، يتجلى في الديوان دائما في أشكال شتى لتكون دواء له مقابل مرضه بواقع مرير وهكذا بينما يتسائل "يا أيها الكون الشديد الاتساع / لمَ تضيق بمهجة الولد اليتيم؟" يرد على نفسه "سألت عنك البحر
قال : هنا .. هنا /كانتْ تَرُشُّ العِطرَ /وَردًا للنَّسيمْ)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى