مسعد بدر - كيف يرى إبراهيم فايد القصيدة؟

إبراهيم فايد واحد من شعراء بادية سيناء الذين (فقهوا) أسرار إنتاج القصيدة؛ فهو قادر على أن يخرج علينا بقصيدة جيدة مترابطة محكمة في زمن (اللازمن)، كما حدث في هذه القصيدة التي جاءت ردًا فوريا على قصيدة لأحد الشعراء أرسلتها إليه؛ فلم يرضَ عنها، بل أغضبته. وهو قادر في اللازمن أن يعبّر تعبيرا سريعا دقيقا عن طبيعة الشعر وعن مصادره النفسية العميقة.
أما أن القصيدة محكمة مترابطة؛ فقد خرجت في إطار بناء مُحكَم جعل النص كأنه دائرة مغلقة تنتهي من حيث تبدأ. وما بين البداية والنهاية المتّصلتين تنساب أفكار جزئية متنوعة لكنها تصنع نسيجا واحدا متضافرًا من ألوان شتى متآلفة.
وهذه الأفكار تدور حول محور واحد هو: صعوبة إنتاج القصيدة، هذه الصعوبة التي إذا اجتازها الشاعر فإن قصيدته سوف تصل به وبالمتلقي إلى الكشف عن أعماق النفس البشرية وما يعتمل فيها من أحاسيس وعواطف. وهذه فضيلة بارزة بين فضائل الشعر الكثيرة.
يرى إبراهيم أن هناك شروطا يجب تحققها لإنتاج نص جيد، منها أن يتمهل الشاعر وأن يصطنع الصبر والأناة في مراجعة قصيدته وتثقيفها (رغم أن تدفّق انفعاله لم يأذن له أن يتمهّل هذه المرة)! صحيح أن الشعر موهبة، لكن هذه الموهبة تحتاج إلى الصقل والصنعة احتياجا حيويا. وموقفه هذا يترجمه الشاعر القديم:
لا تعرضَنَّ على الرواة قصيدة
ما لم تكن بالغتَ في تهذيبها
وإذا عرضتَ الشعر غير مهذَّبٍ
عَدُّوه منك وساوسا تهذي بها
كما يحسُن بالشاعر أن (يرعوي)، وألا يتجرأ على القول أو يستهين به؛ فإن للشعر منزلة سامية تستحق أن نرجو لمقامها وقارًا. كيف لا وهو وسيلة الشاعر للتحرر من الانفعالات الخفية التي تؤلمه وتسبب له التوتر وهي (الصامتة) من حيث لا يعانيها ولا يُكوَى بضرامها إلا هو! وكيف لا وهو يأخذ بيدنا للاطلاع على مكنون النفس البشرية الثري الغني الذي لا يُحسِن التعبير عنه إلا (شاعر) يصلنا بالحياة الكبرى، ويجعل الحالة الفردية حالة وجودية نشعر بها كلنا أجمعون.
والشعر - يقول إبراهيم - نور. نور قوي يسلّطه المبدع على الجوانب الخفية من نفسه، ويتحسس على هديه مناحي قلبه وما يختلج فيه من انفعالات؛ فإذا آمن الشاعر بذلك فإنه سيصبر ويتأنى ويعرف للشعر قدره ومقداره، وسيعزف عن إنتاج قصيدة هزيلة يُخرجها للناس مخرجا دميما ذميما تعوزه العناية الكافية ويفتقر إلى الإحساس بالمسئولية الفنية، وتلك أفة خطيرة، لو يعلمون!
حبر وورق! ومحاولات وتجاريب، وتصحيح وتنقيح، وتهذيب وإعادة ترتيب، كل أولئك شروط لازمة ينبغي لها أن تتحقق؛ حتى يستقيم للشاعر طريق الإبداع الوعر (الملتوي)، وحتى يسلس له قياد ناصية القصيدة إلى غاية يرضى عنها الشاعر والمتلقي على السواء، وإن الشعر لجموح عنيد، وإن (الحطيئة) لصادقٌ حين قال:
فالشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُه
زَلَّت به إلى الحَضيضِ قدمُه
والشِعرُ لا يَسطيعُهُ مَن يَظلِمُه
فالذي (يتهاون) بالشعر - يقول إبراهيم - يظلمه، كما يقول الحطيئة. ومن تهاون وظلم؛ فإنه يعجز؛ فلا يستطيع بلوغ قامة الشعر السامقة. ولسوف يظل الشعر في منزل علٍ لا يتسامى إليه إلا من أخذ الطريق إلى الوصول مأخذ جد وتقدير، وفهم ووعي.
ولا نزال نتتبع إبراهيم وهو يحبك ويقرن الفكرة بالفكرة في سياق واحد هو صعوبة الخوض في غمار الشعر، وأهمية أن يكون الصدق الفني أساسا من الأسس التي تعصم الشاعر من الضياع في (تيه) القصيد، أو أن تزل إلى الحضيض قدمه - لا نزال معه في ذلك حتى نصل إلى البيت الرابع الذي يشير إلى سر عميق من أسرار الشعر فقد صفة السريّة منذ زمن ليس بقريب، إلا أن طائفة من الشعراء - المبتدئين منهم، والأدعياء أيضا - يغفلون عنه، ذلك أن الشعر الجيد لا يصدر إلا عن عاطفة جياشة وانفعال قوي؛ فالقصيدة شُعلة يقوى ضوؤها أو يخفت قليلا أو يخبو تماما وَفق ما تُمدّ به من وقود، وإنما وَقودها الإحساس المضطرم والانفعال الصادق. وصدق الانفعال - في رأي شاعرنا - ربما عوّض قوته؛ فإن الشاعر يستطيع بُحسن أدائه وإتقان أدواته أن يركّز على إبراز عواطفه بحيث يبدو سناها شاملا المدى كله، شريطة أن تكون عواطف حقيقية صادقة.
ثم يعمد إبراهيم إلى هذه الصورة (المكتظّة) في البيت الخامس؛ فإذا القصيدة الجيدة بحر، بحر عذب كما شاء له الشاعر (أم هو يتلاعب باللفظ ويحمّله معنى البحر الشعري؟)، تشرب منه المحبة وترتوي، وتسقي شُداة الشعر ومتذوّقيه صنوفا من شراب الفن والإبداع. ثم نجد القصيدة سفينة حائرة في بحر لجّي، يوجهها شراعها وَفق ما تجد قريحة الشاعر من فيض ووحي، وكأن السفينة والشراع كليهما يتطلعان إلى الشاعر المنقذ الهادي ويتعلقان به؛ فلا عجب في أن يكون هذا الشراع (التمنّي خامته)!
ولا ينفك شاعرنا يصوّر معاناة الإبداع، ويترجم هذا التوتر بينه وبين القصيدة؛ فهي ريح تبعثره، ثم تحتويه، وهي مساء وظلام، وشعور بالأسى أمام غطرسة القصيدة التي تتلاعب به "كما شاءت وشاء لها الهوى". وهنا - في البيت السابع - ينتقل الشاعر نقلة بعيدة جدًا، قريبة جدًا أيضا؛ فإن جدلية الشاعر والقصيدة لا تلبث أن تستحيل جدلية غرام بين فتى عاشق وفتاة معشوقة، بين شاعر مفتون وقصيدة فاتنة. هذا التغزّل بالقصيدة لم يخرج بنا قيد أنملة عن مسار القصيدة وجوها العام، بل أضاف إلى هذا المسار إضافة تثريه وتزيده عمقا وخصوبة؛ لأنه متجانس معه ومتوّلد منه.
إن العلاقة بين العاشقَين هي صورة رمزية للعلاقة بين الشاعر والقصيدة، المحبوبة تعانده وتلقي بعشقه في جبّ الإهمال، وهو يسائلها عن جدوى ذلك وبواعثه، وعن رجائه الذي طالما رجاه. وهي تسدد له سهام الجفاء، معذّب هو يتعلق بها كما يتعلق بأمه طفل صغير لا يكاد يخطو بعد. إلى أن يصل الهجر أقصاه ومنتهاه إذ تُلقي به حيث آرام (حجارة في جبال نائية) الحنين المكبوت في مكنون النفس، والمتطلع إلى شاعر يتمهّل ويفتح له نوافذ التعبير الفني؛ لتنطلق شحنة الانفعال الداخلي الخفي الصامت الذي عذّب الذات وأحرقها وأرّقها، وقديما قال قيس:
وما أُنشدُ الأشعار إلا تداويا
وهكذا، بوساطة هذا الإطار البنائي الدائري المحكم، وصلنا إلى نقطة النهاية (مشاعر الحنين المكبوتة) التي تصبو إلى الانطلاق، وهي نفسها نقطة البداية (المشاعر الخفية الصامتة) التي لا تظهر إلا في تعبير شعري ممتع ومقنع، كهذه القصيدة التي نحسبها في ميزان إبداع إبراهيم.
*************
القصيدة:
1- يا أيها الشاعر تمهّل وارعَوي
وافتح نوافذ للخفايا الصامتة
2- ما دام نور الشعر بالخافق قوي
خلّ الهزيل وخلّي عنك آفته
3- حبر وْورق والدرب فيها ملتوي
واللي يْتهاون ما يطاول قامته
4- اسرج لنا فتلة مشاعرها ضِوِي
تفرش سناها بالمدى لو خافِتة
5- من بحرها صدر المحبة يرتوي
وشراعها فيض ، وتمنّي خامته
6- والريح إن بعثر ورقها يحتوي
فيها المسا غطرس على كَتّابَته
7- يا مودعة صبر الفتى في ذا الطُوي
من يسقي فروع الرجاء النابتة؟!
8- طرفك رمى واللي انرمى ما هو غوي
والسهم يرجع بالجفا لنشّابته
9- يا بنت قلبي في هواكي مكتوي
طفل بيمينك ما يخطّى ، دابِتَه
10- اعشق جمالك كم عبث بي فوضوي
يشرف بي آرام الحنين الكابتة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى