عُرف عن العرب المتقدمين -والذين عاصروا فترة الجاهلية والبعثة المحمدية- أن دهاة العرب هم الأربعة بداية بالثلاث الأكثر شهرة : معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة .. أمّا رابعهم فهو زياد بن سمية أو زياد ابن ابيه المتأخر قليلاً عنهم ، والذي رجّح الأغلب أنّه ابن ابي سفيان بن حرب وقد قيل أنّه -أي ابا سفيان- كان يتردد على جارية في الجاهلية وهي سمية أم زياد .. والواقع أن الدهاة كثر فأبو سفيان بن حرب نفسه كان أحد الدهاة وإن كان أقل من هؤلاء الأربعة مرتبةً ، وقد يكون ما ينسب زياد لأبي سفيان هو أنه -أي أبا سفيان- داهية وابنه معاوية من الدهاة إذن فالمنطق يقول أن زياد الداهية الآخر هو الأقرب لعائلة الدهاة هذه .
الواقع أن هذا الحديث لا يعني شيئًا إذا ما علمنا أن الداهية الأكبر والأعظم في التاريخ الإسلامي والجاهلي ليس من هؤلاء الأربع ، وليس خامسهم الأقل مرتبة في الدهاء -أبو سفيان- بل هو أشدّهم ورعًا وأكثرهم تقوى وأصدقهم إيمانًا وأعظمهم هيبةً وأبسطهم منطقًا .. عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي .. الرجل الثاني في الإسلام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام .. نعم إنه عمر .. أكثر العرب دهاءً من هؤلاء و أصدقهم دهاءً .. والحقيقة أن لفظ "دهاء" قد لا يتناسب مع شخصية إسلامية إذا ما أُخِذَ على أنّه "مكر وخديعة" ، ولذلك يقول الصحابي الجليل قيس بن سعد "لولا الإسلام لمكرت مكرًا" بمعنى أن الإسلام ينهى عن ذلك .. لكن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلخّص الموضوع ببساطة وبلاغة فيقول : "لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني" .. فهو يبيّن هنا بمعرض حديثه عن نفسه : أنني لست بالماكر المخادع ، ومع ذلك لا يستطيع أي ماكر أن ينال مني بدهائه.
ولو رأينا مواقف عمر مع هؤلاء الدهاة لاستنتجنا أن دهاءه فاق دهاءهم ، وعلمه تعدى علمهم ، وفراسته تجلّت في حين خانتهم فراستهم.
سنتحدث اليوم عن دهاء عمرو بن العاص
اشتهر الصحابي الجليل عمرو بن العاص بالدهاء والحيلة وحسن التصرف في المواقف ، حيث كانت العرب تقول : "معاوية للحلم والأناة وعمرو للبديهة ، والمغيرة بن شعبة للأمر العظيم ، وزياد بن أبيه لكل صغيرة وكبيرة".
كان عمرو بن العاص بن وائل السهمي كان بضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم هاجر الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلما في أوائل سنة ثمان للهجرة .. بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات السلاسل و أرسله عمر بن الخطاب على رأس جيش لفتح بيت المقدس و كان في الرملة جمعا عظيما من جند الروم عليهم الأرطبون وهو أدهى الروم فكتب عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب بالخبر فلما جاء الكتاب الى عمر بن الخطاب قال : قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ( يقصد عمرو بن العاص ) .. وكان الفاروق عمر بن الخطاب يحبه ويعجبه منطقه ، وعندما كان يري رجلا لا يحسن الكلام كان يصكّ فاه ، ويقول : “سبحان الله إن الذي خلق هذا خلق عمرو بن العاص”.
كان عمرو بارعا في القتال ويحسن المراوغة والخداع اللذين لا يخلوان من الذكاء وابتكار الحيل في فن المعارك .. وهذه بعض القصص التي تبين دهاءه وفطنته وذكاءه ، خاصة في المواقف الحرجة التي تتطلب حلولا فورية.
القصة الأولى : داء قطّاع الطرق
يحكى أنه في أحد الأيام بينما كان عمرو بن العاص في الطريق إلى المدينة لوحده اعترضه جماعة من قطاع طرق ، وأمسك زعيمهم بتلابيبه .. لم يكن قطاع الطرق يعرفون هوية الرجل الأسير ، بل كانوا يهمون بسلبه وقتله كائنا من يكن ، لكن عمرو استوقفهم قائلا : “توقفوا .. إن قتلتموني بالسيف متنا جميعا” .. استغرب قطاع الطرق ، وسألوه : “لماذا؟” أجابهم عمرو : “إن بي داء ، فإن انتشر دمي ، يموت كل من حولي” .. توقفوا متبادلين نظرات حائرة ، فأردف قائلا : “وما أتى بي وحدي إلى هنا إلا أني أردت الذهاب لمكان لا يكون فيه أحد ، فأموت وحيدا وأوقف المرض اللعين عن العرب” .. ثم سأل : “من أمسكني منكم بيده؟” فأشاروا إلى زعيمهم وقالوا : “هو زعيمنا” .. فقال عمرو : “لا أبرح مكاني حتى يذهب معي ، فقد مسه الداء” .. هنا ، توجس قطاع الطرق خيفة من زعيمهم الذي اقتنعوا أن عدوى المرض لا بد قد أصابته ، وكانوا يعرفون قسوته وبطشه ، ففروا منه هاربين ، تاركين إياه وحيدا مع الأسير .. هنا ، قال عمر بن العاص لزعيم قطاع الطرق : “الآن سأريك ما الداء ، ألا وهو الذكاء .. إني أخاف أن تصبح أذكى مني وأنت قاطع طريق ، فلا يستطيع الناس الخروج آمنين من ديارهم” . ثم هجم عليه وقتله.
القصة الثانية : حصن بابليون وفتح مصر
تروى قصة أخرى عن دهاء عمرو بن العاص في أثناء حربه مع الرومان في مصر ، إذ دعاه قائد “حصن بابليون” الروماني ليحادثه ويفاوضه ، بينما أعطى أمرا لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن ، وأعد كل شيء ليكون قتل ضيفه محتوما .. دخل عمرو على القائد الروماني ، وجرى اللقاء بينهما . حين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن ، لمح فوق الأسوار حركة مريبة أيقظت فيه حاسة الحذر ، وسرعان ما تصرف بشكل مفاجئ ، إذ عاد إلى داخل الحصن بخطوات وئيدة مطمئنة وملامح بشوشة واثقة ، كأنما لم يفزعه شيء ، ولم يثر شكوكه أمر .. دخل عمرو على القائد الروماني وقال له : “تذكرت أمرا ، وأردت أن أطلعك عليه .. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام ، لا يقطع أمير المؤمنين بأمر دون مشورتهم ، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتليه ، وقد رأيت أن آتيك بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة” .. هنا ، ظن قائد الروم أن عمرو بن العاص منحه بسذاجة وغباء فرصة العمر ، فصمم على أن يسايره ويوافقه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقادتهم أجهز عليهم جميعا بدلا من أن يجهز على عمرو بن العاص وحده .. أعطى القائد الروماني بإشارة خفية أمره بتأجيل الخطة التي كانت معدة لاغتيال عمرو ، وودعه بحرارة أكبر من السابق .. ابتسم داهية العرب وهو يغادر الحصن آمنا مطمئنا .. في الصباح ، عاد عمرو إلى الحصن ممتطيا صهوة جواده على رأس جيشه ، ثم قام بفتح مصر.
القصة الثالثة : النار وتفريق الجمع
بعد إسلام عمرو بن العاص أولى إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُهمة تفريق جمعاً لقضاعة ، حيث كانوا ينوون غزو المدينة ، فسار عمرو بسرية سُميت “ذات السلاسل” ، وقد استطاع عمرو تحقيق النصر في هذه المُهمّة وتدبير شؤون المقاتلين ، وخلال عودة الجيش الإسلاميّ كانوا قليلي العدد وكان الجو بارداً فأرادوا أن يوقدوا ناراً ، ولكن عمرو بن العاص منعهم من ذلك ، فشكوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمرو للرسول حينها أنّه خشي أن يلتفت العدوّ لقلة عدد المُسلمين العائدين معه فيقومون بعمل كمين لقتالهم ، ولهذا منعهم من أن يوقدوا ناراً ، فما كان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا الإشادة بعمله هذا وبحُسن تدبيرة للسريّة.
القصة الرابعة : أمير المؤمنين ومتع الدنيا
كان سيدنا معاوية بن أب سفيان وسيدنا عمرو بن العاص يجلسان -في أخريات حياتهما- يتكلمان معاً ، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية : يا أمير المؤمنين : ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية : أما الطعام فقد سئمت أطيبه ، وأما اللباس فقد مللت ألينه ، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة .. وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون ، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال : حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف أي يريد راحة البال .. ثم قال معاوية لعمرو : وأنت يا عمرو.
ماذا بقي لك من متع الدنيا؟
قال عمرو بن العاص : بقي لي أرض خوارة -يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر- فيها عين خرارة .. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض ، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي ، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه (وردان) .. أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له : وأنت يا وردان ، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ ، فقال له : حظي يا أمير المؤمنين : صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي بل يرده عقبهم في عقبي.
القصة الخامسة : رسول الخليفة ينتظر
عند زيارة عمر بن الخطاب للشام ، حسن عمرو بن العاص للخليفة فتح مصر وبين له أهمية الفتح وفوائده ، فاقتنع الخليفة ورجع للمدينة ، بينما أسرع عمرو بن العاص يتجهيز أربعة آلاف مقاتل وتحرك بهم نحو مصر .. وعندما اقترب من دخول مصر ، قال له أصحابه : جاء رسول من الخليفة .. فطلب من الجيش سرعة التحرك ، فظل الجيش يمشي ورسول الخليفة يركض وراءه برسالته التي يريد تسليمها لعمرو بن العاص ، وعندما لحق الرسول بالجيش وطلب لقاء عمرو بن العاص اعتذر عمرو أكثر من مرة وهو لا يزال يسير بالجيش نحو مصر حتى دخل حدودها ، بعدها طلب لقاء رسول الخليفة ففتح الرسالة وكبار الجيش متعجبون من تصرفه ، فإذا بالرسالة تقول : إذا لم تدخل حدود مصر فارجع .. فأرسل عمرو بن العاص رسالة مع رسول الخليفة يقول فيها : لقد دخلنا مصر ونريد المدد .
- أثناء فترة خلافة عمر بن الخطاب ، تُوفي يزيد بن أبي سفيان الذي كان والياً على مصر وقتها ، اقترح عمرو بن العاص على الخليفة عُمر أن يذهب لمصر ليفتحها حتى يُؤمن جميع الحدود المُؤدية إلى بلاد الشام من الروم ، فوافق عمر وتولّى عمرو قيادة الجيش الذي ذهب فاتحاً لمصر ونجح في ذلك.
دهاء عمرو بن العاص يخونه في الحبشة
ربما لا يذكر التاريخ فشل دهاء عمرو بن العاص في أي حادثة تعرض لها سواء كان ذلك في الجاهلية أو في الإسلام ، فقد تمكن عمرو من الخروج من كل المآزق والمشكلات التي وقع بها بفضل حيلته وذكاءه .. لكن دهاء عمرو بن العاص خانه في موقف سجله التاريخ الإسلامي بكل تفاصيله ، ولا يزال هذا الموقف شاهدا على أن عمرو بن العاص الذي نجح في كل المهمات الصعبة التي أوكلت إليه قبل الإسلام وبعده ، حيث فشل في مهمة كلفه بها سادة قريش قبل إسلامه ، وهي عندما ذهب خلف مجموعة من المهاجرين المسلمين الذين لجؤوا إلى الحبشة ، حين أرسلته قريش لردهم إلى مكة .. حيث فشل -رضي الله عنه- في مهمته مع النجاشي أمام قوة و عظمة و صدق الإيمان .. كانت هذه الحادثة من أبرز مواقف عمرو بن العاص ضد المسلمين في جاهليته، حيث سافر إلى الحبشة ، معتمدا على ذكاءه ودهاءه ومحمَّلا بالهدايا إلى النجاشي (ملك الحبشة) ، ليقنعه بتسليمه أولئك المهاجرين المسلمين .. لكن النجاشي وبعد أن استمع للطرفين رفض أن يسلمهم إياه ، وقال : “انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا” .. لكن دهاء عمرو بن العاص كان يغلي في عروقه ، فعندما خرجا من بلاط الملك ، قال عمرو : “والله لأنبئنَّه غدًا عيبهم ، والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد” .. لكن النجاشي وبعد أن تلى على مسامعه أحد المهاجرين ، وكان جعفر بن أبي طالب ، ما جاء في القرآن الكريم عن سيدنا عيسى عليه السلام ومريم العذراء .. ضرب يده على الأرض وقال : “والله يا عمرو لن أسلمكم هؤلاء ولو بجبل من ذهب” ثم قال لعمرو بن العاص : “يا عمرو ، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فو الله إنه لرسول الله حقًا” ، قال عمرو : أنت تقول ذلك؟ قال : أي والله ، فأطعني” ، فخرج عمرو من الحبشة قاصدا المدينة ، وكان ذلك في شهر صفر سنة ثمان من الهجرة ، فقابله في الطريق خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ، وكانا في طريقهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فساروا جميعا إلى المدينة ، وأسلموا بين يدي رسول الله ، وكان النجاشي قد أعلن إسلامه هو الأخر.
وفاته :
توفّي عمرو بن العاص في مصر وقد بلغ ثمانية وثمانين عاما ، ودُفن هناك في منطقة “المقطم” وضريحه موجود بالقرب من ضريح الإمام الشافعيّ حسبما ورد في التاريخ.
وللحديث بقية مع باقى الدهاة : معاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد ابن ابيه ...
اللهم تقبل من أبى
صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
الواقع أن هذا الحديث لا يعني شيئًا إذا ما علمنا أن الداهية الأكبر والأعظم في التاريخ الإسلامي والجاهلي ليس من هؤلاء الأربع ، وليس خامسهم الأقل مرتبة في الدهاء -أبو سفيان- بل هو أشدّهم ورعًا وأكثرهم تقوى وأصدقهم إيمانًا وأعظمهم هيبةً وأبسطهم منطقًا .. عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي .. الرجل الثاني في الإسلام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام .. نعم إنه عمر .. أكثر العرب دهاءً من هؤلاء و أصدقهم دهاءً .. والحقيقة أن لفظ "دهاء" قد لا يتناسب مع شخصية إسلامية إذا ما أُخِذَ على أنّه "مكر وخديعة" ، ولذلك يقول الصحابي الجليل قيس بن سعد "لولا الإسلام لمكرت مكرًا" بمعنى أن الإسلام ينهى عن ذلك .. لكن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلخّص الموضوع ببساطة وبلاغة فيقول : "لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني" .. فهو يبيّن هنا بمعرض حديثه عن نفسه : أنني لست بالماكر المخادع ، ومع ذلك لا يستطيع أي ماكر أن ينال مني بدهائه.
ولو رأينا مواقف عمر مع هؤلاء الدهاة لاستنتجنا أن دهاءه فاق دهاءهم ، وعلمه تعدى علمهم ، وفراسته تجلّت في حين خانتهم فراستهم.
سنتحدث اليوم عن دهاء عمرو بن العاص
اشتهر الصحابي الجليل عمرو بن العاص بالدهاء والحيلة وحسن التصرف في المواقف ، حيث كانت العرب تقول : "معاوية للحلم والأناة وعمرو للبديهة ، والمغيرة بن شعبة للأمر العظيم ، وزياد بن أبيه لكل صغيرة وكبيرة".
كان عمرو بن العاص بن وائل السهمي كان بضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم هاجر الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلما في أوائل سنة ثمان للهجرة .. بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات السلاسل و أرسله عمر بن الخطاب على رأس جيش لفتح بيت المقدس و كان في الرملة جمعا عظيما من جند الروم عليهم الأرطبون وهو أدهى الروم فكتب عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب بالخبر فلما جاء الكتاب الى عمر بن الخطاب قال : قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ( يقصد عمرو بن العاص ) .. وكان الفاروق عمر بن الخطاب يحبه ويعجبه منطقه ، وعندما كان يري رجلا لا يحسن الكلام كان يصكّ فاه ، ويقول : “سبحان الله إن الذي خلق هذا خلق عمرو بن العاص”.
كان عمرو بارعا في القتال ويحسن المراوغة والخداع اللذين لا يخلوان من الذكاء وابتكار الحيل في فن المعارك .. وهذه بعض القصص التي تبين دهاءه وفطنته وذكاءه ، خاصة في المواقف الحرجة التي تتطلب حلولا فورية.
القصة الأولى : داء قطّاع الطرق
يحكى أنه في أحد الأيام بينما كان عمرو بن العاص في الطريق إلى المدينة لوحده اعترضه جماعة من قطاع طرق ، وأمسك زعيمهم بتلابيبه .. لم يكن قطاع الطرق يعرفون هوية الرجل الأسير ، بل كانوا يهمون بسلبه وقتله كائنا من يكن ، لكن عمرو استوقفهم قائلا : “توقفوا .. إن قتلتموني بالسيف متنا جميعا” .. استغرب قطاع الطرق ، وسألوه : “لماذا؟” أجابهم عمرو : “إن بي داء ، فإن انتشر دمي ، يموت كل من حولي” .. توقفوا متبادلين نظرات حائرة ، فأردف قائلا : “وما أتى بي وحدي إلى هنا إلا أني أردت الذهاب لمكان لا يكون فيه أحد ، فأموت وحيدا وأوقف المرض اللعين عن العرب” .. ثم سأل : “من أمسكني منكم بيده؟” فأشاروا إلى زعيمهم وقالوا : “هو زعيمنا” .. فقال عمرو : “لا أبرح مكاني حتى يذهب معي ، فقد مسه الداء” .. هنا ، توجس قطاع الطرق خيفة من زعيمهم الذي اقتنعوا أن عدوى المرض لا بد قد أصابته ، وكانوا يعرفون قسوته وبطشه ، ففروا منه هاربين ، تاركين إياه وحيدا مع الأسير .. هنا ، قال عمر بن العاص لزعيم قطاع الطرق : “الآن سأريك ما الداء ، ألا وهو الذكاء .. إني أخاف أن تصبح أذكى مني وأنت قاطع طريق ، فلا يستطيع الناس الخروج آمنين من ديارهم” . ثم هجم عليه وقتله.
القصة الثانية : حصن بابليون وفتح مصر
تروى قصة أخرى عن دهاء عمرو بن العاص في أثناء حربه مع الرومان في مصر ، إذ دعاه قائد “حصن بابليون” الروماني ليحادثه ويفاوضه ، بينما أعطى أمرا لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن ، وأعد كل شيء ليكون قتل ضيفه محتوما .. دخل عمرو على القائد الروماني ، وجرى اللقاء بينهما . حين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن ، لمح فوق الأسوار حركة مريبة أيقظت فيه حاسة الحذر ، وسرعان ما تصرف بشكل مفاجئ ، إذ عاد إلى داخل الحصن بخطوات وئيدة مطمئنة وملامح بشوشة واثقة ، كأنما لم يفزعه شيء ، ولم يثر شكوكه أمر .. دخل عمرو على القائد الروماني وقال له : “تذكرت أمرا ، وأردت أن أطلعك عليه .. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام ، لا يقطع أمير المؤمنين بأمر دون مشورتهم ، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتليه ، وقد رأيت أن آتيك بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة” .. هنا ، ظن قائد الروم أن عمرو بن العاص منحه بسذاجة وغباء فرصة العمر ، فصمم على أن يسايره ويوافقه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقادتهم أجهز عليهم جميعا بدلا من أن يجهز على عمرو بن العاص وحده .. أعطى القائد الروماني بإشارة خفية أمره بتأجيل الخطة التي كانت معدة لاغتيال عمرو ، وودعه بحرارة أكبر من السابق .. ابتسم داهية العرب وهو يغادر الحصن آمنا مطمئنا .. في الصباح ، عاد عمرو إلى الحصن ممتطيا صهوة جواده على رأس جيشه ، ثم قام بفتح مصر.
القصة الثالثة : النار وتفريق الجمع
بعد إسلام عمرو بن العاص أولى إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُهمة تفريق جمعاً لقضاعة ، حيث كانوا ينوون غزو المدينة ، فسار عمرو بسرية سُميت “ذات السلاسل” ، وقد استطاع عمرو تحقيق النصر في هذه المُهمّة وتدبير شؤون المقاتلين ، وخلال عودة الجيش الإسلاميّ كانوا قليلي العدد وكان الجو بارداً فأرادوا أن يوقدوا ناراً ، ولكن عمرو بن العاص منعهم من ذلك ، فشكوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمرو للرسول حينها أنّه خشي أن يلتفت العدوّ لقلة عدد المُسلمين العائدين معه فيقومون بعمل كمين لقتالهم ، ولهذا منعهم من أن يوقدوا ناراً ، فما كان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا الإشادة بعمله هذا وبحُسن تدبيرة للسريّة.
القصة الرابعة : أمير المؤمنين ومتع الدنيا
كان سيدنا معاوية بن أب سفيان وسيدنا عمرو بن العاص يجلسان -في أخريات حياتهما- يتكلمان معاً ، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية : يا أمير المؤمنين : ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية : أما الطعام فقد سئمت أطيبه ، وأما اللباس فقد مللت ألينه ، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة .. وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون ، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال : حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف أي يريد راحة البال .. ثم قال معاوية لعمرو : وأنت يا عمرو.
ماذا بقي لك من متع الدنيا؟
قال عمرو بن العاص : بقي لي أرض خوارة -يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر- فيها عين خرارة .. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض ، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي ، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه (وردان) .. أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له : وأنت يا وردان ، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ ، فقال له : حظي يا أمير المؤمنين : صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي بل يرده عقبهم في عقبي.
القصة الخامسة : رسول الخليفة ينتظر
عند زيارة عمر بن الخطاب للشام ، حسن عمرو بن العاص للخليفة فتح مصر وبين له أهمية الفتح وفوائده ، فاقتنع الخليفة ورجع للمدينة ، بينما أسرع عمرو بن العاص يتجهيز أربعة آلاف مقاتل وتحرك بهم نحو مصر .. وعندما اقترب من دخول مصر ، قال له أصحابه : جاء رسول من الخليفة .. فطلب من الجيش سرعة التحرك ، فظل الجيش يمشي ورسول الخليفة يركض وراءه برسالته التي يريد تسليمها لعمرو بن العاص ، وعندما لحق الرسول بالجيش وطلب لقاء عمرو بن العاص اعتذر عمرو أكثر من مرة وهو لا يزال يسير بالجيش نحو مصر حتى دخل حدودها ، بعدها طلب لقاء رسول الخليفة ففتح الرسالة وكبار الجيش متعجبون من تصرفه ، فإذا بالرسالة تقول : إذا لم تدخل حدود مصر فارجع .. فأرسل عمرو بن العاص رسالة مع رسول الخليفة يقول فيها : لقد دخلنا مصر ونريد المدد .
- أثناء فترة خلافة عمر بن الخطاب ، تُوفي يزيد بن أبي سفيان الذي كان والياً على مصر وقتها ، اقترح عمرو بن العاص على الخليفة عُمر أن يذهب لمصر ليفتحها حتى يُؤمن جميع الحدود المُؤدية إلى بلاد الشام من الروم ، فوافق عمر وتولّى عمرو قيادة الجيش الذي ذهب فاتحاً لمصر ونجح في ذلك.
دهاء عمرو بن العاص يخونه في الحبشة
ربما لا يذكر التاريخ فشل دهاء عمرو بن العاص في أي حادثة تعرض لها سواء كان ذلك في الجاهلية أو في الإسلام ، فقد تمكن عمرو من الخروج من كل المآزق والمشكلات التي وقع بها بفضل حيلته وذكاءه .. لكن دهاء عمرو بن العاص خانه في موقف سجله التاريخ الإسلامي بكل تفاصيله ، ولا يزال هذا الموقف شاهدا على أن عمرو بن العاص الذي نجح في كل المهمات الصعبة التي أوكلت إليه قبل الإسلام وبعده ، حيث فشل في مهمة كلفه بها سادة قريش قبل إسلامه ، وهي عندما ذهب خلف مجموعة من المهاجرين المسلمين الذين لجؤوا إلى الحبشة ، حين أرسلته قريش لردهم إلى مكة .. حيث فشل -رضي الله عنه- في مهمته مع النجاشي أمام قوة و عظمة و صدق الإيمان .. كانت هذه الحادثة من أبرز مواقف عمرو بن العاص ضد المسلمين في جاهليته، حيث سافر إلى الحبشة ، معتمدا على ذكاءه ودهاءه ومحمَّلا بالهدايا إلى النجاشي (ملك الحبشة) ، ليقنعه بتسليمه أولئك المهاجرين المسلمين .. لكن النجاشي وبعد أن استمع للطرفين رفض أن يسلمهم إياه ، وقال : “انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا” .. لكن دهاء عمرو بن العاص كان يغلي في عروقه ، فعندما خرجا من بلاط الملك ، قال عمرو : “والله لأنبئنَّه غدًا عيبهم ، والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد” .. لكن النجاشي وبعد أن تلى على مسامعه أحد المهاجرين ، وكان جعفر بن أبي طالب ، ما جاء في القرآن الكريم عن سيدنا عيسى عليه السلام ومريم العذراء .. ضرب يده على الأرض وقال : “والله يا عمرو لن أسلمكم هؤلاء ولو بجبل من ذهب” ثم قال لعمرو بن العاص : “يا عمرو ، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فو الله إنه لرسول الله حقًا” ، قال عمرو : أنت تقول ذلك؟ قال : أي والله ، فأطعني” ، فخرج عمرو من الحبشة قاصدا المدينة ، وكان ذلك في شهر صفر سنة ثمان من الهجرة ، فقابله في الطريق خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ، وكانا في طريقهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فساروا جميعا إلى المدينة ، وأسلموا بين يدي رسول الله ، وكان النجاشي قد أعلن إسلامه هو الأخر.
وفاته :
توفّي عمرو بن العاص في مصر وقد بلغ ثمانية وثمانين عاما ، ودُفن هناك في منطقة “المقطم” وضريحه موجود بالقرب من ضريح الإمام الشافعيّ حسبما ورد في التاريخ.
وللحديث بقية مع باقى الدهاة : معاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد ابن ابيه ...
اللهم تقبل من أبى
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com