يرصد جيمس ميلر في كتابه "شغف فوكو" انتقال ميشيل فوكو من كتاب "تاريخ الجنون" إلى تكون عوالمه المزاجية واهتمامه باللغة كمبتدأ لبحوث كتابه "الكلمات والأشياء". ويفطن ميلر إلى افتتان
فوكو البالغ برائد تيار الرواية الجديدة "نوفو رومان" الروائي الان روب غرييه 1922-2008.
يؤرخ لروب غرييه إضافة إلى الروائية ناتالي ساروت وميشيل بوتور تقديمهم من باريس لتيار الرواية الجديدة في نهاية الخمسينات المنصرمة. يخص غرييه باعتباره "المتحدث الرسمي" باسم المجموعة ولعب هذا الدور لتقديم محاضرات ذات حضور كبير في مدرجات الجامعات الامريكية المختلفة. وله عدة روايات منها في المتاهة والغيرة التي اعتبرها رولان بارت بأنها الرواية التي اتجهت إلى الموضوع بعيدا عن الذاتية. ولروب غرييه مقالات تحت عنوان: "نحو رواية جديدة" وهو يقدم التنظير للاتجاه الجديد وله كذلك سيرة ذاتية باسم "اشباح المرآة" وترجمت إلى العربية تحت عنوان "المرايا العائدة". وحصل غرييه قبل وفاته بأربع سنوات على مقعد في الاكاديمية الفرنسية أو مجمع الخالدين كما يسمى، ولكن لم يلتحق بها عمليا لضيقه ذرعا بشكلياتها القديمة والغارقة في التقليدية الجوفاء.
ساهم فوكو وبعد كتابه الأول تاريخ الجنون في تحرير مجلة "تيل كيل" النقدية التي راجت في ستينات القرن الماضي إلى جانب أقلام كبيرة فيها مثل جورج باتاي وموريس بلانشو وبارت ومجموعة من الأسماء اللامعة في سماء باريس حينها. أشاد فوكو بإتاحة روب غرييه لممكنات اللغة في التبدي كلغة "سيدة ومسكونة" وتأكيده أن المشترك بينهما هو أن كليهما وجد "متاهته".
الغربة ثم الفجاءة وطريقة استخدام العالم:
يحمل تنظير روب غرييه للرواية الجديدة على محمل الجد، لأنه يعتبر الناطق باسم المجموعة الرائدة في هذه الرواية كما أسلفنا. ويحدد روب غرييه وظيفة الأدب بكونه: "اوديسة حياتية من أجل اختراع الذات واكتشافها، وليس هو، أي الأدب، مجرد ابتداع من أجل المتعة. يأتي ذلك بعد اقتباس ميلر في كتابه لتصريح غرييه الشهير: " الانسان غريب على العالم؛ كما هو غريب على نفسه."
يحيل تصريح روب غرييه إلى تلميح إلى عنصر حدوث الغربة فجأة؛ أي ما يمكن تسميته بفجاءة الغربة وما يستدعيه ذلك من حاجة لإرشادات "استخدام العالم"
أو Mode d’emploi ويحيل كذلك إلى أن غربة "ابن آدم" السيد والمجاز كشفها غراب، أقدم وأكثر دراية "بأمور العالم". طريقة استخدام العالم ترجح أقدمية واسبقية وجود الغراب، وإن كانت الوظيفة المرسومة له ذات بعد رسولي.
تبدأ غربة "ابن آدم" من كونه ينتسب إلى عالم آخر علوي لا علاقة له ولا يشبه عالم الغراب، ويكون وجوده في أوله عبارة "انبتات"، بينما سيرورة وجوده يحكمها الحنين بالعودة إلى الفردوس، وهي سيرورة يحكمها اللون الأخضر، أو "حنين سندسي" للعالم الذي فقده "بالهبوط" أو "الحنين إلى الغابة". إن روب غرييه عندما نطق بعبارته هذه لم يدر في خلده أي بعد من أبعاد هذه الغربة وأنينها، وهي غربة خاص بإنسان الدين Homo Religious مقابل إنسان داروين: Homo Erectus وصولا إلى إنسان الاغتراب التام.
فإنسان داروين في تدرجه حتى التعقد البيولوجي يجب ألا يشعر بغربة في هذا العالم لسبيين الأول هو مادته المصنوع منها وهي مادة ذات طبيعة سفلية مرتبطة بهذا العالم؛ ولأن تدرجه الحيوي هو أوديسا ميكانيكية في الوجود وليس حنينا إلى الفردوس، وربما بحكم التكوين المفترض لن يحتاج إلى الغراب كمرشد بسبب اندماج خبرته بالعالم في تكوينه الخلوي: في هذه الحالة تكون عملية الدفن ذات بعد بيولوجي أكثر منها ممارسة ثقافية. ويفاوت بين شعور الانسان الهابط من الفردوس وإنسان داروين إن الأخير يشعر بأنه في موطنه: ويحيل، بدوره، إلى سؤال هايدغري نحو افتراض روب غرييه: من أين، ولأي سبب يشعر هذا الانسان بالغربة؟ ولكأنما الغربة تيار بارد يسرى في جسد وجود هذا الإنسان.
المعنى بين الانفصال والاتصال:
ضمن أوديسا الوجود يبدو مطلب المعنى مدرسيا "وظيفة مدرسية"، قد يراه البعض، في تحوير ما، وبمنظار الوعورة باعتباره فرض كفاية: إذا قام به المفكرون سقط عن غيرهم: "ومن هنا تأتي معالجة الميتافيزيقا كتخصص فلسفي حصري"، وأن الإحالة إلى ثنائية الإنسان الفردوسي والإنسان المنتصب تعطي المعنى أبعادا هي مختلفة بالضرورة. حالة الغربة تشير إلى "اجتراح" المعنى وربما يندرج هذا في ممارسة صادقة بين الفكر والممارسة عند روب غرييه ذاته حيث يمارس الكتابة بأسلوب جديد ومغاير في مسعى حدده سلفا باختراع الذات او إعادة اكتشافها، وهي وظيفة يمجدها فوكو بأنها تحتاج إلى لغة سيدة ومسكونة.
فبينما تشير غربة إنسان الفردوس إلى وجود سابق يصبح المعنى هنا محاولة للاتصال، بينما يعارك الإنسان المنتصب في بعده البروميثيوسي إلى خلق معناه المنفصل والذي يؤسس إلى الطريقة المثلى في "استخدام العالم".
جزء كبير من متاهة المعنى يستغلق لسبب أنه يتم داخل اللغة، بينما تتعرج ذات المتاهة في تلافيف الشعور عند الإنسان الفردوسي.
يقع تحديد روب غرييه لوظيفة الأدب، كاجتراح جرئي، مدعم بشكل جديد للراوية في مسافة وسطى لإعطاء معنى للذات. هذه المنطقة الوسطي نجسرها عبر متابعة اجابتين لمعنى الحياة: الأول عند المهاتما غاندي، وذلك في معرض رده على سؤال الكاتب الأمريكي ويل ديورانت عن معنى الحياة: إذ يقول: " إن الحياة بالنسبة لي شرارة من الإلهي، وأن الهدف محدد سلفا. وأن الدين والأخلاق لا ينفصلان."
وبينما يفرش المهاتما غاندي إجابته على بساط سندسي، يقدم الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل اجابته على نفس السؤال برد يقوي الانفصال ولا ينشغل بالحنين إلى الفردوس: " آسف لقولي بأن منشغل في هذه اللحظة عن أكون مقتنعا بوجود معنى للحياة، بما أنه لا معنى للحياة إطلاقا."
هامش:
انظر كتاب جيمس ميلر:
James Miller, 1994, The Passion of Michel Foucault, (Anchor Books, New York)
John Little, (editor),2005, Will Durant: On the Meaning of Life, (Promethean Press, Texas)
فوكو البالغ برائد تيار الرواية الجديدة "نوفو رومان" الروائي الان روب غرييه 1922-2008.
يؤرخ لروب غرييه إضافة إلى الروائية ناتالي ساروت وميشيل بوتور تقديمهم من باريس لتيار الرواية الجديدة في نهاية الخمسينات المنصرمة. يخص غرييه باعتباره "المتحدث الرسمي" باسم المجموعة ولعب هذا الدور لتقديم محاضرات ذات حضور كبير في مدرجات الجامعات الامريكية المختلفة. وله عدة روايات منها في المتاهة والغيرة التي اعتبرها رولان بارت بأنها الرواية التي اتجهت إلى الموضوع بعيدا عن الذاتية. ولروب غرييه مقالات تحت عنوان: "نحو رواية جديدة" وهو يقدم التنظير للاتجاه الجديد وله كذلك سيرة ذاتية باسم "اشباح المرآة" وترجمت إلى العربية تحت عنوان "المرايا العائدة". وحصل غرييه قبل وفاته بأربع سنوات على مقعد في الاكاديمية الفرنسية أو مجمع الخالدين كما يسمى، ولكن لم يلتحق بها عمليا لضيقه ذرعا بشكلياتها القديمة والغارقة في التقليدية الجوفاء.
ساهم فوكو وبعد كتابه الأول تاريخ الجنون في تحرير مجلة "تيل كيل" النقدية التي راجت في ستينات القرن الماضي إلى جانب أقلام كبيرة فيها مثل جورج باتاي وموريس بلانشو وبارت ومجموعة من الأسماء اللامعة في سماء باريس حينها. أشاد فوكو بإتاحة روب غرييه لممكنات اللغة في التبدي كلغة "سيدة ومسكونة" وتأكيده أن المشترك بينهما هو أن كليهما وجد "متاهته".
الغربة ثم الفجاءة وطريقة استخدام العالم:
يحمل تنظير روب غرييه للرواية الجديدة على محمل الجد، لأنه يعتبر الناطق باسم المجموعة الرائدة في هذه الرواية كما أسلفنا. ويحدد روب غرييه وظيفة الأدب بكونه: "اوديسة حياتية من أجل اختراع الذات واكتشافها، وليس هو، أي الأدب، مجرد ابتداع من أجل المتعة. يأتي ذلك بعد اقتباس ميلر في كتابه لتصريح غرييه الشهير: " الانسان غريب على العالم؛ كما هو غريب على نفسه."
يحيل تصريح روب غرييه إلى تلميح إلى عنصر حدوث الغربة فجأة؛ أي ما يمكن تسميته بفجاءة الغربة وما يستدعيه ذلك من حاجة لإرشادات "استخدام العالم"
أو Mode d’emploi ويحيل كذلك إلى أن غربة "ابن آدم" السيد والمجاز كشفها غراب، أقدم وأكثر دراية "بأمور العالم". طريقة استخدام العالم ترجح أقدمية واسبقية وجود الغراب، وإن كانت الوظيفة المرسومة له ذات بعد رسولي.
تبدأ غربة "ابن آدم" من كونه ينتسب إلى عالم آخر علوي لا علاقة له ولا يشبه عالم الغراب، ويكون وجوده في أوله عبارة "انبتات"، بينما سيرورة وجوده يحكمها الحنين بالعودة إلى الفردوس، وهي سيرورة يحكمها اللون الأخضر، أو "حنين سندسي" للعالم الذي فقده "بالهبوط" أو "الحنين إلى الغابة". إن روب غرييه عندما نطق بعبارته هذه لم يدر في خلده أي بعد من أبعاد هذه الغربة وأنينها، وهي غربة خاص بإنسان الدين Homo Religious مقابل إنسان داروين: Homo Erectus وصولا إلى إنسان الاغتراب التام.
فإنسان داروين في تدرجه حتى التعقد البيولوجي يجب ألا يشعر بغربة في هذا العالم لسبيين الأول هو مادته المصنوع منها وهي مادة ذات طبيعة سفلية مرتبطة بهذا العالم؛ ولأن تدرجه الحيوي هو أوديسا ميكانيكية في الوجود وليس حنينا إلى الفردوس، وربما بحكم التكوين المفترض لن يحتاج إلى الغراب كمرشد بسبب اندماج خبرته بالعالم في تكوينه الخلوي: في هذه الحالة تكون عملية الدفن ذات بعد بيولوجي أكثر منها ممارسة ثقافية. ويفاوت بين شعور الانسان الهابط من الفردوس وإنسان داروين إن الأخير يشعر بأنه في موطنه: ويحيل، بدوره، إلى سؤال هايدغري نحو افتراض روب غرييه: من أين، ولأي سبب يشعر هذا الانسان بالغربة؟ ولكأنما الغربة تيار بارد يسرى في جسد وجود هذا الإنسان.
المعنى بين الانفصال والاتصال:
ضمن أوديسا الوجود يبدو مطلب المعنى مدرسيا "وظيفة مدرسية"، قد يراه البعض، في تحوير ما، وبمنظار الوعورة باعتباره فرض كفاية: إذا قام به المفكرون سقط عن غيرهم: "ومن هنا تأتي معالجة الميتافيزيقا كتخصص فلسفي حصري"، وأن الإحالة إلى ثنائية الإنسان الفردوسي والإنسان المنتصب تعطي المعنى أبعادا هي مختلفة بالضرورة. حالة الغربة تشير إلى "اجتراح" المعنى وربما يندرج هذا في ممارسة صادقة بين الفكر والممارسة عند روب غرييه ذاته حيث يمارس الكتابة بأسلوب جديد ومغاير في مسعى حدده سلفا باختراع الذات او إعادة اكتشافها، وهي وظيفة يمجدها فوكو بأنها تحتاج إلى لغة سيدة ومسكونة.
فبينما تشير غربة إنسان الفردوس إلى وجود سابق يصبح المعنى هنا محاولة للاتصال، بينما يعارك الإنسان المنتصب في بعده البروميثيوسي إلى خلق معناه المنفصل والذي يؤسس إلى الطريقة المثلى في "استخدام العالم".
جزء كبير من متاهة المعنى يستغلق لسبب أنه يتم داخل اللغة، بينما تتعرج ذات المتاهة في تلافيف الشعور عند الإنسان الفردوسي.
يقع تحديد روب غرييه لوظيفة الأدب، كاجتراح جرئي، مدعم بشكل جديد للراوية في مسافة وسطى لإعطاء معنى للذات. هذه المنطقة الوسطي نجسرها عبر متابعة اجابتين لمعنى الحياة: الأول عند المهاتما غاندي، وذلك في معرض رده على سؤال الكاتب الأمريكي ويل ديورانت عن معنى الحياة: إذ يقول: " إن الحياة بالنسبة لي شرارة من الإلهي، وأن الهدف محدد سلفا. وأن الدين والأخلاق لا ينفصلان."
وبينما يفرش المهاتما غاندي إجابته على بساط سندسي، يقدم الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل اجابته على نفس السؤال برد يقوي الانفصال ولا ينشغل بالحنين إلى الفردوس: " آسف لقولي بأن منشغل في هذه اللحظة عن أكون مقتنعا بوجود معنى للحياة، بما أنه لا معنى للحياة إطلاقا."
هامش:
انظر كتاب جيمس ميلر:
James Miller, 1994, The Passion of Michel Foucault, (Anchor Books, New York)
John Little, (editor),2005, Will Durant: On the Meaning of Life, (Promethean Press, Texas)