يذهب العديد من الباحثين والنقاد إلى عدٍّ الإرهاصات ريادة لظهور جنس ما أو نوع ما ، كما يحاول البعض منهم البحث في المنجز التراثي العربي عن محاولات الخروج على الأنماط أو وجود نصوص تشير إلى الأجناس والانواع الأدبية خاصة تلك التي وفدت إلى البنية الثقافية العربية من البنية الثقافية للٱخر والأوروبية تحديداً ، كالرواية والقصة والقصة القصيرة جدا والشعر الحر وقصيدة النثر ، إذ أن الشكلين الوحيدين الشعريين اللذين يجدان امتدادها بالثقافة العربية هما الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة فقط ، وماعدا ذلك فإن جميع الأشكال التعبيرية التي يتم تداولها في المشهد الثقافي العربي شعرا ونثراً قد وردت الينا من الٱخر ، ولانعدُّ ذلك عيباً ثقافياً في البنية الثقافية العربية التي شهدت تعالقاً وتحاوراً مع المنجز الثقافي للٱخر ، إذ أبدع الكتاب العرب في الإضافة والتجريب على تلك الٱجناس والأشكال وبما يتناسب وحركة الواقع الاجتماعي والثقافي العربي بكل تحولاته ، ولعلَّ دوافع تلك المحاولات التي تجعل الارهاصات هي محض ريادات أو محاولات ايجاد جذور لبعض الأشكال الأدبية المعاصرة في التراث العربي ، إنما هي سعيٌ من قبل النقد العربي للمساهمة في صيرورات الأجناس والانواع الأدبية التي يشهدها النقد العالمي ، وإذا كانت الارهاصات _وكما أجمعت المعاجم _ تعني الأمر الخارق للعادة يظهر للنبيّ قبل بعثته ، يكون من مقدمات النبوة ، كان ذلك إرهاصاً النبوة ، وتأتي بمعنى التمهيد والمقدمة والبداية ، المقدمة التي تشير إلى قرب وقوع الشيء ، فإن الريادة هي مجمل الخصائص والسلوكيات المرتبطة بقدرات إبداعية وتجديدية ، والرائد هو من يأخذ روح المبادرة والتحرك ، وبمعنى ٱخر فإنها - الريادة- تنهض على تلك المقدمات/الإرهاصات لتصوغ قوانينها وظهورها كحركة طليعية قائدة في مجالها بعد توفر ثلاثة إجراءات الأول /القصدية ، الثاني /التكرار ، الثالث /التجاوز ، لذلك فإن كل الأجناس والانواع الأدبية المتداولة قد سبق ظهورها ارهاصات عدّت مقدمات لتكسب ريادتها عبر الإجراءات التي أشرت إليها ٱنفا ، والأمثلة كثيرة على ذلك ، ولعل أقربها قصيدة التفعيلة التي سبق ظهورها وفق قواعد توصلت إليها نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر) جملة من المقدمات تمثلت في عدد من النصوص التي شكّلت خروجا على قوانين الشعر العمودي على يد شعراء عرب منهم علي احمد باكثير ، فعدّت قصيدة التفعيلة رائدة في حركة الشعر العربي المعاصر لتوفر القصدية والتكرار والتجاوز في كتابتها ، وكذلك بقية الأجناس والانواع الأدبية ، أما الادعاء بوجود اشكال أدبية قديمة تعد جذرا لأشكال معاصرة كما يتداوله بعض الباحثين ، مثل اعتبار الشعر السومري والملاحم العراقية القديمة والاشراقات الصوفية قصائد نثر،فهو أمر يثير إشكالات عديدة لامجال لمناقشتها في هذا الحيز ، ولكني أشير فقط إلى حقيقة معرفية تقوّضُ هذا الزعم ، وهي أن الأجناس الأدبية تظهر كحاجة واستجابة للمتغير الاجتماعي في زمن معين كما في قصيدة النثر التي ولدت نتيجة لظروف تاريخية واجتماعية وفكرية سادت في أواخر القرن التاسع عشر على يد بودلير الذي اعتمد هو الآخر على مجموعة من الارهاصات لكتابة هذا النمط كما وجده عند لوتريامون وباترن وسواه من الشعراء الفرنسيين الذين جربوا الخروج على النمط الكلاسيكي للشعر الفرنسي ، إلا انهاكانت تفتقد إلى القصدية والتكرار والتجاوز في كتابة قصيدة النثر التي توفر للجنس والشكل الجديد فواعل ظهوره كريادة في زمنها الذي استدعاها كما أراد لها بودلير ومالماريه ورامبو وغيرهم ، وكذا الأمر إذا أردنا التمثيل لظهور الرواية العالمية والعربية والقصة القصيرة ، فكل هذه الأجناس والأشكال ظهرت كاشكال ريادية مستوفية لقوانين تكوينها الداخلية بعد بنائها على ارهاصات سابقة ، كما أن هنالك ظروف تاريخية واجتماعية وفكرية استدعت ظهورها .
عبد علي حسن
24/1/2022
عبد علي حسن
24/1/2022