إذا كان المشهد الأدبي يعج بما يشبه الانفجار في ميدان الرواية بما تتيحه من مساحة أكبر في السرد وعرض الأفكار من خلال تعدد الشخصيات والأحداث، فقليل من الروايات الجديدة يستحضر التاريخ وأقل القليل بل النادر منها يفعل ذلك في قصصه القصيرة.
ويمثل محمود سلطان حالة خاصة فهو يسائل التاريخ، ويحاول بعث كائناته وأزمنته من جديد، وإعادة بنائها من خلال حفرياته في مشاهد تاريخية تتناص مع الحاضر وتجعلنا أمام ثنائيات: الماضي/الحاضر، المتخيل/الواقع، والمفقود/ المأمول!
ولكي نفكك ذلك البعد التاريخي فإنه يتوجب علينا أن نقوم بما يوازي تلك الحفريات نفسها في بنى المتن السردي، بوصفها معادلًا للواقع الذي تشتغل عليه القصة.
فالمشهد القصة: العسس ومعهم متولي الحسبة/زوار الفجر، والمفكر!
ودائما العسس أقل ذكاءا ممن يعلوهم في الرتبة فهمهم المال والمتولي يبحث عن الأهم/الكتب.
هم يرون الكتب مصدرا للتدفئة بإحراقها لنستحضر تاريخا يمتد من عصور ما قبل الميلاد (330 ق.م.)حيث أحرق جنود الإسكندر الأكبر مكتبة برسيبوليس، فاحترق عدد من الكتابات الزرادشتية والمحفوظات الملكية الفارسية إلى إحرق وتدمير بيت الحكمة خلال الغزو المغولي لبغداد، وحديثا بنهب وتدمير المكتبات الأثرية في العراق من قبل الأمريكان إبان حرب الخليج الثانية.
و متولي الحسبة/أمن الفكر لا يهمه إلا كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" فهو ليس حكايات عن الأمراء والملوك ولكنه كتاب تشريح لأسباب المجاعات الاقتصادية والسياسية وخطة لمنعها والسيطرة عليها، وفيه كال الانتقاد وكشف فساد الإدارة وسوء تصرفاتها وظلمها الذي عم البلاد والعباد.
فكان الكتاب جديرا بأن يكون لائحة اتهام " بشق عصا الطاعة، والخروج على حكم مولانا المعظّم، والتعريض به، والتحريض عليه".
وهنا فنحن أمام ثنائية المصلح/ المستبد تذكرنا بالعقاد حين اتهم بالعيب في الذات الملكية وبأحمد حسين في "رعاياك يا مولاي" وكذلك ب"عيش حرية عدالة اجتماعية"!
ولا يفوت المبدع سلطان أن تحضر المرأة في المشهد: جماعة "أرملة الأمير جعفر بن هشام"، وهي شخصية حقيقية أشار إليها المقريزي في كتابه ب"امرأة من أرباب البيوتات.... والتي نادت بأعلى صوتها : يا أهل القاهرة .. ادعوا لمولانا المستنصر الذى أسعد الله الناس بأيامه ، وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقوَّمت على هذه القُرصة بألف دينار ".
وإن كانت هذه المرأة أيام الخليفة المستنصر فالمحتسب يعدها حاضرة في وقت استجواب المقريزي في "تداخل زمني" يكشف عن استحضار الماضي في الحاضر والذي يتكرر بصورة مباشرة عندما يصرخ المحتسب/المحقق/الحاكم:
زاعقا:
ـ مَن قال لك إنَّ المستنصر مات؟!.. المستنصر لم يمُت.. المستنصر باقٍ خالدٌ فينا!
ولقد ابتعد فيها الكاتب عن ما يفعله كاتبي "ما بعد الحداثة" من استحضار التاريخ بطريقة ساخرة، أو مختلفة عن صورة الشخصيّة النمطيّة.
فالمقريزي هنا يمثل ضمير الأمة العالم الفاعل المحرك لها بما يستدعي صورة د. عبد الوهاب المسيري في مسيرة "كفاية" والتي كانت التمهيد وفجر ثورة يناير.
وبالرغم من عدم تعرض المقريزي الحقيقي لمثل ذلك التحقيق ولكن الصورة تتماهي مع رمزيته وشاهده الحاضر.
وفي الختام فالقصة تقول الكثير والكثير وكأني بالمقريزي يصرح بما قاله اسبارتكوس في كلماته الأخيرة:
معلّقٌ أنا على مشانق الصباحْ
و جبهتي – بالموت – محنيّةْ
لأنّني لم أحنها .. حيّةْ !
ويجيبه الواقع الساخر الجالد لنا فيقول:
يا إخوتي الذين يعبرونَ في الميدان في انحناءْ
منحدرين في نهاية المساءْ
لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ ..
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديدْ.
المراجع:
- إغاثة الأمة بكشف الغمة، تقي الدين المقريزي، دراسة وتحقيق د.كرم حلمي فرحات طبعة عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاحتماعية،2007.
-حرق الكتب.. تاريخ طويل لقمع الآراء المخالفة، makkahnewspaper.com/Article/1104947
-الأبيات من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل.
النص:
====
استجواب!
محمود سلطان
شاهدوه يخرج فجرًا من داره في حارة برجوان، غادر مسجد السلطان حسن، يسوق بغلته محمَّلة بكومة من الكتب، استوقفوه عند باب زويلة.. استجوبه متولي الحسبة، أمَرهم بتفتيش متاعه، تحسسوا جيوب جلبابه ومعطفه، شخط فيهم:
ـــ أغبياء! .. أريد كتبه لا ماله.
رمقوه بدهشة:
ــ أكوام من الورق لا فائدة منها، إلا إذا شئت تدفئة المكان!.
انبعجت عروق وجهه من الغيظ، وعلا صوته: أريد ما تحمله بغلته من متاع.
نهض بنفسه ودسَّ يده في الأجولة، يستل منها الكتب، كتابًا من وراء كتاب، يبحث عن ضالته، يقرأ العنوان ثم يلقيه بفظاظة على الأرض.. امتد الوقت، ولم يبق إلا القليل من الكتب، يقضم اليأس عزيمته، ويبتلع همته في أحشائه، يرتجف جسده من الغيظ وتصطك أسنانه من التوتر، فالصبح قد تنفس وشوارع باب الفتوح وأمير الجيوش والنحاسين وبين القصرين، بدأت تكتظ بالناس وصخب الباعة بالأسواق.
فجأة تسمّرت عيناه أمام كتابٍ صغير، وانفرجت أساريره، وضجّت صفحة وجهه بسعادة صاخبة: ها ذا ما كنا نبحث عنه.
أجلسوه على حصيرٍ ويداه مقيدتان من الخلف، دفعوه من مؤخرة رأسه نحو الكتاب الملقى على الأرض:
ــــ هذا كتابك؟!
اقترب إليه حتى كاد يلامس وجهه الغلاف وقرأ بصعوبة "إغاثة الأمة بكشف الغمة".
وكز طرف خنجره في عظم صدره الناتئة، ثم قبض بيديه الغليظتين على منكبيه الضعيفين وهزه بعنف: أنت متهمٌ بشق عصا الطاعة، والخروج على حكم مولانا المعظّم، والتعريض به، والتحريض عليه، والانضمام إلى جماعة "أرملة الأمير جعفر بن هشام".
أنكَر التهمة! دفع بدليل براءته: عملت مع الملك الظاهر برقوق ودخلت دمشق مع ولده الناصر وعُرض علىَ قضاؤها!
نهره.. جذبه من لحيته. طالبه هازئًا بأن يوقر شيبته ولا يكذب، واجهه بتقرير العسس والبصاصين ثم سأله: ألست الذي دوّن في كتابه أن سبب خراب البلاد وضياع العباد: "ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الإقليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصّل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطّى لأجل ذلك كل جاهل ومُفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة".
ـــ نعم هذا كتابي وذاك كلامي!
ـــ هذا تعريض بالباب العالي!
ـ ولكني كتبته عن أيام المستنصر.. وقد هلك المستنصر وبات عظامًا ورفاتًا
باغتته صفعة على قفاه من يدٍ غليظة، ودوى المكان بصوت أجش يصرخ وقسمات وجهه تنتفض من الذعر، يتلفت يمنة ويسرة، ويتطاير رذاذ لعابه مثل زخات المطر، من فم سقطت نصف أسنانه من التسوس.. زاعقا:
ـ مَن قال لك إنَّ المستنصر مات؟!.. المستنصر لم يمُت.. المستنصر باقٍ خالدٌ فينا.
** نشر بموقع "الكتابة الثقافي" يوم 2 يناير 2022
ويمثل محمود سلطان حالة خاصة فهو يسائل التاريخ، ويحاول بعث كائناته وأزمنته من جديد، وإعادة بنائها من خلال حفرياته في مشاهد تاريخية تتناص مع الحاضر وتجعلنا أمام ثنائيات: الماضي/الحاضر، المتخيل/الواقع، والمفقود/ المأمول!
ولكي نفكك ذلك البعد التاريخي فإنه يتوجب علينا أن نقوم بما يوازي تلك الحفريات نفسها في بنى المتن السردي، بوصفها معادلًا للواقع الذي تشتغل عليه القصة.
فالمشهد القصة: العسس ومعهم متولي الحسبة/زوار الفجر، والمفكر!
ودائما العسس أقل ذكاءا ممن يعلوهم في الرتبة فهمهم المال والمتولي يبحث عن الأهم/الكتب.
هم يرون الكتب مصدرا للتدفئة بإحراقها لنستحضر تاريخا يمتد من عصور ما قبل الميلاد (330 ق.م.)حيث أحرق جنود الإسكندر الأكبر مكتبة برسيبوليس، فاحترق عدد من الكتابات الزرادشتية والمحفوظات الملكية الفارسية إلى إحرق وتدمير بيت الحكمة خلال الغزو المغولي لبغداد، وحديثا بنهب وتدمير المكتبات الأثرية في العراق من قبل الأمريكان إبان حرب الخليج الثانية.
و متولي الحسبة/أمن الفكر لا يهمه إلا كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" فهو ليس حكايات عن الأمراء والملوك ولكنه كتاب تشريح لأسباب المجاعات الاقتصادية والسياسية وخطة لمنعها والسيطرة عليها، وفيه كال الانتقاد وكشف فساد الإدارة وسوء تصرفاتها وظلمها الذي عم البلاد والعباد.
فكان الكتاب جديرا بأن يكون لائحة اتهام " بشق عصا الطاعة، والخروج على حكم مولانا المعظّم، والتعريض به، والتحريض عليه".
وهنا فنحن أمام ثنائية المصلح/ المستبد تذكرنا بالعقاد حين اتهم بالعيب في الذات الملكية وبأحمد حسين في "رعاياك يا مولاي" وكذلك ب"عيش حرية عدالة اجتماعية"!
ولا يفوت المبدع سلطان أن تحضر المرأة في المشهد: جماعة "أرملة الأمير جعفر بن هشام"، وهي شخصية حقيقية أشار إليها المقريزي في كتابه ب"امرأة من أرباب البيوتات.... والتي نادت بأعلى صوتها : يا أهل القاهرة .. ادعوا لمولانا المستنصر الذى أسعد الله الناس بأيامه ، وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقوَّمت على هذه القُرصة بألف دينار ".
وإن كانت هذه المرأة أيام الخليفة المستنصر فالمحتسب يعدها حاضرة في وقت استجواب المقريزي في "تداخل زمني" يكشف عن استحضار الماضي في الحاضر والذي يتكرر بصورة مباشرة عندما يصرخ المحتسب/المحقق/الحاكم:
زاعقا:
ـ مَن قال لك إنَّ المستنصر مات؟!.. المستنصر لم يمُت.. المستنصر باقٍ خالدٌ فينا!
ولقد ابتعد فيها الكاتب عن ما يفعله كاتبي "ما بعد الحداثة" من استحضار التاريخ بطريقة ساخرة، أو مختلفة عن صورة الشخصيّة النمطيّة.
فالمقريزي هنا يمثل ضمير الأمة العالم الفاعل المحرك لها بما يستدعي صورة د. عبد الوهاب المسيري في مسيرة "كفاية" والتي كانت التمهيد وفجر ثورة يناير.
وبالرغم من عدم تعرض المقريزي الحقيقي لمثل ذلك التحقيق ولكن الصورة تتماهي مع رمزيته وشاهده الحاضر.
وفي الختام فالقصة تقول الكثير والكثير وكأني بالمقريزي يصرح بما قاله اسبارتكوس في كلماته الأخيرة:
معلّقٌ أنا على مشانق الصباحْ
و جبهتي – بالموت – محنيّةْ
لأنّني لم أحنها .. حيّةْ !
ويجيبه الواقع الساخر الجالد لنا فيقول:
يا إخوتي الذين يعبرونَ في الميدان في انحناءْ
منحدرين في نهاية المساءْ
لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ ..
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديدْ.
المراجع:
- إغاثة الأمة بكشف الغمة، تقي الدين المقريزي، دراسة وتحقيق د.كرم حلمي فرحات طبعة عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاحتماعية،2007.
-حرق الكتب.. تاريخ طويل لقمع الآراء المخالفة، makkahnewspaper.com/Article/1104947
-الأبيات من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل.
النص:
====
استجواب!
محمود سلطان
شاهدوه يخرج فجرًا من داره في حارة برجوان، غادر مسجد السلطان حسن، يسوق بغلته محمَّلة بكومة من الكتب، استوقفوه عند باب زويلة.. استجوبه متولي الحسبة، أمَرهم بتفتيش متاعه، تحسسوا جيوب جلبابه ومعطفه، شخط فيهم:
ـــ أغبياء! .. أريد كتبه لا ماله.
رمقوه بدهشة:
ــ أكوام من الورق لا فائدة منها، إلا إذا شئت تدفئة المكان!.
انبعجت عروق وجهه من الغيظ، وعلا صوته: أريد ما تحمله بغلته من متاع.
نهض بنفسه ودسَّ يده في الأجولة، يستل منها الكتب، كتابًا من وراء كتاب، يبحث عن ضالته، يقرأ العنوان ثم يلقيه بفظاظة على الأرض.. امتد الوقت، ولم يبق إلا القليل من الكتب، يقضم اليأس عزيمته، ويبتلع همته في أحشائه، يرتجف جسده من الغيظ وتصطك أسنانه من التوتر، فالصبح قد تنفس وشوارع باب الفتوح وأمير الجيوش والنحاسين وبين القصرين، بدأت تكتظ بالناس وصخب الباعة بالأسواق.
فجأة تسمّرت عيناه أمام كتابٍ صغير، وانفرجت أساريره، وضجّت صفحة وجهه بسعادة صاخبة: ها ذا ما كنا نبحث عنه.
أجلسوه على حصيرٍ ويداه مقيدتان من الخلف، دفعوه من مؤخرة رأسه نحو الكتاب الملقى على الأرض:
ــــ هذا كتابك؟!
اقترب إليه حتى كاد يلامس وجهه الغلاف وقرأ بصعوبة "إغاثة الأمة بكشف الغمة".
وكز طرف خنجره في عظم صدره الناتئة، ثم قبض بيديه الغليظتين على منكبيه الضعيفين وهزه بعنف: أنت متهمٌ بشق عصا الطاعة، والخروج على حكم مولانا المعظّم، والتعريض به، والتحريض عليه، والانضمام إلى جماعة "أرملة الأمير جعفر بن هشام".
أنكَر التهمة! دفع بدليل براءته: عملت مع الملك الظاهر برقوق ودخلت دمشق مع ولده الناصر وعُرض علىَ قضاؤها!
نهره.. جذبه من لحيته. طالبه هازئًا بأن يوقر شيبته ولا يكذب، واجهه بتقرير العسس والبصاصين ثم سأله: ألست الذي دوّن في كتابه أن سبب خراب البلاد وضياع العباد: "ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الإقليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصّل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطّى لأجل ذلك كل جاهل ومُفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة".
ـــ نعم هذا كتابي وذاك كلامي!
ـــ هذا تعريض بالباب العالي!
ـ ولكني كتبته عن أيام المستنصر.. وقد هلك المستنصر وبات عظامًا ورفاتًا
باغتته صفعة على قفاه من يدٍ غليظة، ودوى المكان بصوت أجش يصرخ وقسمات وجهه تنتفض من الذعر، يتلفت يمنة ويسرة، ويتطاير رذاذ لعابه مثل زخات المطر، من فم سقطت نصف أسنانه من التسوس.. زاعقا:
ـ مَن قال لك إنَّ المستنصر مات؟!.. المستنصر لم يمُت.. المستنصر باقٍ خالدٌ فينا.
** نشر بموقع "الكتابة الثقافي" يوم 2 يناير 2022