أنس الرشيد - حانوت الأعشى

أُقيمت في مدينة الرياض فعالية للأعشى، الشاعر الذي ولد ومات في (منفوحة)؛ وقد كانت حقيقةُ تلك الفعالية (لغويةً)، أعني أنَّ استلهام حكايةَ خمريات الأعشى كان من خلال اللغة، لجعل الحضور يُحس بحياة الأعشى، ويتذكر أنَّ في الرياض/منفوحة حياةً مغايرة، وأنَّ العربَ لم تتوقف عن التعاملِ مع الخمرِ كظاهرةٍ حَيّة ومهمة.فمما يُروى أن للأعشى في الخمر ما يوازي مجموع ما روي لغيره في الخمر من شعراء ما قبل الإسلام؛ وهذا يُصَوِّر: لِمَ كانت الفعاليةُ تُحيل بالضرورةِ على خمريّاته. وهُنا أؤكد أنَّ مِن أفعالِ الأعشى خَطًّا مُغايرًا لعَمْرو بن كلثوم؛ أي أنَّ الأعشى -كشاربٍ- كان متمردًا على مجالس القهوة الكلثومية تلك التي تجري كأعرافٍ تقليدية = (وكان الكأس مجراها اليمينا). ومن ثم فإنَّ العربَ كانت تتعامل مع الخمرِ كتقاليد مجلسيّة من جهةٍ، وأفعالٍ سُكريّة من جهة أخرى، وكِلا الفعلين لهما امتداد في واقعنا الحاضر، كطقوسٍ روحية، وأنماطٍ اجتماعيةٍ مختلفة، ومسوغاتٍ اقتصادية نراها في دول العالم. ومن الدلالات اللغوية للفعاليّة، أنَّ الإسلامَ لما جاء بنصوصٍ تُناقش الخمر، لم يمتنع العربُ -بصورةٍ قاطعة- عن شربه، وهنا يحضر أبو جندلٍ لما أجازَ لنفسه الخمرَ بناءً على نص (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا...) أي أنَّ النصوص في الخمر لم يتجاوز بها كثيرٌ من العرب مجالَ اللغة إلى الاصطلاحات والتطبيقات الحياتية؛ وذلك لأنَّ الإسلامَ لم يكن دينًا محضًا، بل كان دنيويًا، -وهذا من الفروقات بين فعل العلمانية في المسيحية والإسلام- ومن هنا تعامل-الإسلام- مع الخمر كشأنٍ دنيوي لا ديني، وهنا نستحضر الفرقَ بين خمرة العرب لذاتها، وخمرتهم لغيرها من جهة، وبين محاولة نهيهم عنها -في الإسلام- فقط؛ كي تتقدم الجيوش في غزواتها، من جهة أخرى. أي أنَّ قولَ حسانِ بنِ ثابتٍ مثلًا -قبل تكوين الجيوش الإسلامية- "إنّ التي ناوَلتَني فرددتُها/ قُتِلتْ - قُتِلْتَ - فهاتها لم تُقتَلِ. زُجاجة رقصتْ بما في قعرها/ رَقصَ القَلوصِ براكبٍ مستعجلِ" لم يكن إلا صدى حياتيًا للُّغَةِ وفعلِ الكأسِ بالرأس، وأما قوله" "وَنَشرَبُها فَتَترُكُنا مُلوكًا/ وَأُسدًا ما يُنَهنِهُنا اللِقاءُ" فإنه صدى حياتيًا للواقع الذي بدأ به تمدد نفوذ المعتقد الإسلامي. وفي كلا المشهدين حضرَ الخمرُ لدى حسان، أي أنَّ الخمر -في النص الإسلامي- لم يُنهَ عنه إلا لهدفٍ مرصود مُعاين، ولهذا عادَ الخمرُ في قوانين العصر الأموي كبدايةٍ، ومن ثم العباسي بجلاءٍ ووضوحٍ لا عصيانًا، بل لأنه لا إشكال فيه لذاته، ومن هنا رأى قَباوةُ أنَّ الأخطلَ في العصر الأموي ابتكر خَطًّا في الغزل وهو جَعل إناء الخمر موضوعًا للتغزل، أسماه قباوة (الغزل الخمري)، ومن المعلوم أنَّ الأخطل لم يكن مسلما، وكان يشرب الخمر في ظل دولة الأمويين. أي كما يقال الآن في ظل قانونٍ مَدني. وفعل الأخطل الشعري كان نُواته أعشى منفوحة/الرياض. ومن هنا كان دارسو الشعر العربي ابتداءً من القرن الثاني الهجري يُصنفون الشعرَ الخمري كبابٍ مُستقل، حتى وصل على يد أبي نواس إلى ذروته. وأما النثر فقد كتب الجاحظ-مثلا- رسالة في مدح النبيذ وصفةِ أصحابه. وهذا الحضور للنص الإسلامي عن الخمر أشبه ما يكون بقصة امرئ القيس مع قتلة أبيه: "اليوم خمر، وغدا أمر". والغدُ -في أول الإسلام- لم يكن له أجلٌ معلوم؛ لهذا وُعِدوا بخمرٍ في الجنة. إنَّ هذا النوع من التماس مع النصوص هو ما أنتج -مما يُنتج- رأيًا فقهيًا يُجيز شربَ النبيذ بشروطه، وهذا الرأي معقودٌ بمقولات كــ: "اشربوا ولا تسكروا" و" كانت السقاية للعباس مكرمة، يسقي الناسَ نبيذَ التمر" و"إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء" أي إذا شككتم بتغير النبيذ إما إلى حموضة، وإما إلى إسكار تام، فاكسروه بالماء قبل تغييره إلى ذلك. وليس المراد هنا مناقشة الأقوال في الخمر، بل القبض على المسكوت عنه في النص، فهذه الحالة بين السكر والصحو، لا يميزها إلا أهلُ الخمر-والعرب كانوا أهله- أي أنَّ صناعة لحظةٍ واقعيةٍ تكون حلًا بين الشربِ المطلق والتركِ المطلق، هي لحظةٌ تعضد كون النصوص الدينية الأولية لم تتعاطَ مع إيقاف الخمر إلا كظاهرةٍ يُرصد من خلالها تقدم حياة العرب إلى فضاءات جغرافيةٍ مختلفة. بل إنَّ هذه الحالة بين السكر والصحو، لها طقوسها الخاصة في تنفيذِ مهماتِ الحياة -يعرفها أهلها-، مما يجعلها طقسًا ثالثًا من طقوس الشرب عند العرب. بل إنَّ الطقسَ الخمري متفرعٌ من اللحظات التعبدية، وهنا تكون مفارقة حين نتأمل دينًا يوقفها تماما، إلا إن كانت لديه أغراضًا دنيوية محضة؛ لهذا وعد القرانُ الناسَ -حين يتوقفون عن التجلي باللحظات الخمرية- بأنهارٍ من خمر في الجنة، وكأنَّ الجنة هي معنى الدين المحض. ولا أدلَّ على ذلك من انبثاق مذهب التصوف من الأديان، وتفاعله حين يقابلون السُكر والصحو بالغيبة والشهود، أي أنَّ الفعلَ الصوفي لم يستطع أن يشرح ما يَشعرُ به في النظر والذوق الإلهي إلا من خلال إحساس الفعل الخمري، والجامع بين الخمري والصوفي أنهما أرباب أحوالٍ لا أقوال؛ لهذا صنع التصوفُ معجمَه اللغوي من بساتين تعود جميعها إلى حقل السُكر والإسكار، يقول الششتري: "ولكنها راحٌ تقادم عهدها/ فما وُصِفت بعدُ ولا عُرفت قبلا" هنا نجد الششتري يقتبس مفهومَ الخمر ومفعوله في النفس، إلا أنه يُعطيه معنى متعاليًا معقودًا بالإله في لحظةِ الخلق، يَشرحه أكثر قولُ عبدالغني النابلسي: "معتقة ورثناها ففزنا/ بها من عهد آدم عن أبينا".

وأخيرا:
أما وقد صار -الآن- ما يَضبطُ مسيرةَ: (اليوم خمر وغدا أمر) قانونيًا، فهل يعود حانوت الأعشى لوطنه الرياض؛ ليقضي على السوق السوداء، و يحقق به المجتمع قِسطًا من حرية أفراده بلا تَعدٍ؟

أنس الرشيد
13 كانون الثاني 2022م

مقال مُنع من النشر في جميع صحفٍ السعودية، وموقع كويتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى