د. السيد إبراهيم أحمد - "اللغة العربية الخامسة": رؤية لغوية للدكتور محمد تقي جون..

لقد وضع لنا الدكتور محمد تقي جون مفتاح شخصيته، وخبرته، وتمكنه اللغوي في إهدائه الذي صدَّر به أحدث مصنفاته العلمية وهو كتابه المعنون: " اللغة العربية الخامسة: الفصحى الهجينة"، حيث يقول: (إلى أبي رحمه الله: الذي غرسَ فـيَّ حبَّ العربية وإتقانها حبَّ واتقانَ الفصحاء والبلغاء الأوائل)، وهو ما كان منه حقا؛ فهو الباحث المتخصص المتقن والأكاديمي المهني الذي يدرِّس اللغة العربية في جامعة واسط بالعراق، والذي عاشها متعلما فأكمل البكالوريوس في دراسة اللغة العربية، انتهاءً بالدكتوراه عام 2005 حتى حصل على لقب الأستاذية عام 2016، ثم أصبح أستاذًا للأدب العباسي وهو تخصصه الدقيق، إلى جانب تدريس العروض، ويشغل الآن منصب أمين مجلس جامعة واسط بالعراق.

ليس هذا فحسب بل هو شاعر فذ، وقد وضعه الدكتور صالح الطائي في كتابه: "أنا وصورهم الشعرية" على رأس من اختار قصائدهم ومقطوعاتهم، كما تشهد كتبه ودراساته ومقالاته بالتنوع، والغزارة، والعمق وأبدأ بكتابه: "سلامة اللغة العربية في الكتب الإدارية ـ الجامعة أنموذجا"، الذي صدر عن جامعة واسط، وعالج فيه الأخطاء المتكررة في خطابات الجامعة المختلفة وصنَّفها إلى سبعة أنواع وهي: إدارية، وشائعة، ونحوية، وعددية، وإملائية، وترقيمية، وأسلوبية، وكتابه: "أنا الشعر: دراسة في أساسات الشعر الجاهلي وصلاحيتها لعصور الشعر العربي"، الذي صدر عن دار ومكتبة البصائر/المركز العلمى العراقى، وكتابه الذي بسَّط ويسر فيه علم العروض: "العروض الرقمي"، وعن مركز البحوث والدراسات والنشر بكلية الكوت صدر كتابه: "رؤساء جامعة واسط كما عرفتهم"، ثم كتابه: "قصة الكرد الفيليين محنة الولاء وإعادة البناء"، هذا عدا بحوثه التي تناولت: "تفسير لقب المتنبي من خلال شعره ـ د دراسة تاريخية، لغوية باراسايكولوجية"، "تناصات المتنبي مع الثقافة العالمية"، ومن أشهر مقالاته: "وللمرأة التطليق".

سيصل من يطالع أعمال دكتور تقي جون إلى حقيقتين هامتين عنه، وهما: اتكائه على التاريخ في كثير من أعماله ولو كان لغويا أو عروضيا، وكان يكفيه اللجوء للبراهين والأدلة العلمية بالاستنباط أو الاستقراء، وربما كان هذا مرده دراسته لنيل درجة الدكتوراه في معهد التاريخ بقسميه: التاريخ والتراث، أما الحقيقة الثانية أنه ينتصر للرأي الذي توصل إليه مهما فتح عليه من بوابات المواجهة والنقد وربما الهجوم الشديد؛ فهو على الرغم من تصنيفه للعروض إلا أنه عارض الخليل بن أحمد وعروضه وتفعيلاته بلا هوادة، وآرائه التي ساقها في كتابه عن الكرد الفيليين وخالف فيها آراء بعض من سبقوه في الموضوع.

لذا فلم يكن صعبا أو جديدا على الدكتور تقي جون أن يخوض غمار تأليف كتاب هو حصيلة سنوات من القراءة والتفكير يتناول لغتنا المعاصرة، وأسماه: "اللغة العربية الخامسة - الفصحى الهجينة" يقلب المفاهيم عن حقيقة وحيثيات اللغة العربية المعاصرة، موضحا هيمنة اللغة الانكليزية عليها بشكل مخيف في الألفاظ والمعاني والقواعد، كما أخبرني بهذا، وهو الذي يقع في نحو 460 صفحة، يتكون من مقدمة وثلاثة فصول: تناول في الفصل الأول: الألفاظ، وفي الفصل الثاني: المعاني، وفي الفصل الثالث: القواعد.

وفي مقدمة طويلة يأخذ الكاتب فيها قارئه إلى الموضوع مباشرة بلا ممهدات أو مقدمات ليوقفه على الحقيقة التي توصل إليها وهي أننا نتكلم اليوم: ("لغة اصطلاح" أو "لغة عُرف" وليس اللغة العربية الفصيحة والبليغة التي تكلمها وكتب بها أجدادنا؛ فغالب المفردات والجمل والقواعد والتعابير والأساليب في لغتنا هي ليست عربية ولا فصيحة، بل وضع وتصرَّف في أكثرها المترجمون نقلاً أو ترجمة في مطلع العصر الحديث لمواكبة الحياة المتطورة في العالم، والعرب في أشد حالات التخلف بعد سلاسل الاحتلالات، واللغة العربية في أشد مراحل التراجع، وقد خفيت على المعاصرين وتقبلوها ووضعوا فيها القواميس، وسموها تطورا أو أي تسميات أخرى مسوغة لانحرافها، وكونها نوعا أقسى من الهيمنة الانكليزية ومسخ الهوية، قطعتنا عن فهم القرآن وتراثنا القديم الذي يمثل الشخصية والذاكرة العربية).

وقد بين الدكتور تقي جون المعنى الذي يقف خلف "اللغة الخامسة" الذي يجليه بشكل تاريخي تراتبي ينبئ عن دراسة علمية دقيقة وفق منهج، والتي سأذكرها دون الأمثلة التي قرنها معها:

اللغة العربية الأولى "الفصيحة": وهي التي تكلمها العرب الأقحاح في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، وهذه اللغة لم تدون فضاع أكثرها بعد الإسلام، وسبب عدم تدوينها أن العرب عاشوا حياة بداوة، ولم يمتلكوا تفكيراً حضارياً.. وتميزت العربية الأولى بكثرة ألفاظها وتعابيرها.

اللغة العربية الثانية "المختارة" وهي عربية القرآن: وتعد أول لغة عربية دوّنت، وتدوينها ليس لأسباب لغوية بل دينية لحفظ القرآن واستمرار تداوله. والقرآن لم يستعمل اللغة العربية كلها ... وساعدت هذه اللغة على نسيان المفردات العربية التي لم تستعملها، فهجرها الناس.

اللغة العربية الثالثة "المولَّدة": وهي التي صنعها العباسيون بتأثير العجم وادخلوا إليها "المعرّب والدخيل والمتَرجم" فاختلطت بالعجمة فتراجعت فصاحتها، وصارت شأن اللغات غير العربية تهتم بـ "جمال اللفظ وعمق المعنى ورشاقة التعبير" أي تجعل الاهتمام بالمعنى أكثر من اللفظ وتقدم الجمال على الفصاحة. وهذه هي "البلاغة" التي روجوا لها.

اللغة العربية الرابعة "المختلطة بالعامية: وهي لغة القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. فبتتابع المحتلين ولاسيما بعد مرحلة المغول ومن جاء بعدهم من أمم محتلة أعجمية ألحقت تكملات غريبة للمعجمات العربية "الفصيحة والبليغة"، أدخلت العرب في مرحلة فقدان هويتهم اللغوية تدريجياً حتى صاروا عرباً يتكلمون لغة عربية غير محضة، أو بنسبة أعجمية صارت تتزايد مع الاحتلالات الأجنبية وتفشي لغاتها، فضلا عن إهمال أبنائها لها، حتى وصلت إلى أعتاب حالة يُرثى لها من التناقص والانحراف.

أما اللغة العربية الخامسة فهي "الهجينة": وهي العربية المعاصرة صنعة ونتاج حركة إحياء التراث وبعث اللغة في مطلع العصر الحديث، والاحتلالات الغربية الحديثة التي نقلت حضارة الغرب. ويبين الدكتور تقي جون سبب سميتها هجينة، لكونها استنسخت الانگليزية في محاولتها لوضع مفردة أمام كل لفظ ومعنى غربي، ويرى أن العربية قد غرقت فعلا في بحر الانگليزية الطامي.

لقد بينتُ آنفا علم الرجل وتخصصه ومؤلفاته، ومحبته لتلك اللغة وجهاده فيها، وسأبين في التو الجهد المبذول من الدكتور محمد تقي جون حتى وضع مصنفه الهام موضع التنفيذ وتقديمه لأهل العلم والتخصص والمجامع اللغوية العربية، فيقول: (وقد بذلتُ جهدًا ضخما كان الهدف الأول من ورائه الدعوة إلى إحياء العربية الأصيلة وإعادتها إلى الوجود لأنها لغة القرآن الكريم وأمة العرب. ولا يمكن أن يفهم القرآن كما ينبغي والتراث الأدبي والفكري ما لم ترجع العربية التي كتب بها).

ولهذا فقد اعتمد في دراسته على عشرة معجمات، وراجع (265) كتاباً ودواوين (2300) شاعر وعشر معجمات قديمة ضمتها "الموسوعة الشعرية" في إصدارها الثالث، وموسوعة أهل البيت" التي ضمَّت (4709) كتب. وهذه الكتب متنوعة بين: معجمات، وكتب أدب، ولغة، ودين، وتاريخ، وفلسفة وغيرها. كما استعمل ثقافته العريضة في هذا المجال والمكتبات والورقية. كما اعتمد الانترنت، والكتب الانگليزية، ثم استشار المختصين باللغة الانگليزية.

ولا يسعني ـ في الختام ـ إلا أن أضم صوتي لندائه الصارخ الصادق الذي يبين فيه هدفه الأسمى، ومقصده الأسنى من وراء كتابه هذا، فيقول: (إنَّ إحياء لغة العرب واجب ديني أكثر من أي شيء آخر. وما من لغة في العالم استبيحت كما استبيحت اللغة العربية، ولا أهل لغة كالعرب لم يأبهوا لحال لغتهم. وأنا أدعو اللغويين والمثقفين والأكاديميين والمختصين فضلا عن الحكومات العربية إلى المشاركة في إعادة العربية الفصحى إلى الحياة ، وإعادة النظر في لغتنا المعاصرة "الخامسة" بإعادة الالفاظ الحيوية الميتة، والتخلص من الدخيل بما يعيد الوجه المشرق للغة العربية ويثبت اقتدارها على مواكبة العصر، فضلا عن تفوقها وأخذها الصدارة بين اللغات، ولتكون الهوية الحقيقية للعرب كحال الشعوب كلها في حفاظها على لغاتها).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى