خيرى حسن - تبقى السيرة.. وتستمر المسيرة[2] الله.. عليك يا ست

" أتارى فيها وعود/ وعهود
عهود مع اللى مالوش أمان
وعود لا تصدق ولا تنصان
هو صحيح الهوى غلاب"
(القاهرة- 1969)

«الأمل: هو فلسطين، والعدو: هو إسرائيل»! 77 عاماً عاشتها الست العظيمة، الأصيلة، الأميرة، سيدة الغناء العربى أم كلثوم. وهى تعلم أن العدو هو إسرائيل! وأن الأمل هو عودة فلسطين!
وبعد مرور 47 عاماً على رحيلها ومازال هذا علمها، وهذا رأيها، وهذا فكرها، وهذا قولها الذى يخرج علينا من بين شقوق الأرض حتى يصعد للسماء بالموسيقى وبالغناء. ورغم أن الموت غيبها إلى دار الحق ودار البقاء، إلا أن صوتها فى الصباح وفى المساء تنادينا وتناجينا ويبعث الحلم فينا.. لكن كيف تقول ذلك؟ حسناً.. هذا سؤال طيب فى زمن ليس كذلك! تقوله بكل بساطة وهى تغنى (الحب كله.. وفات الميعاد.. وهسيبك للزمن.. وأنت عمرى.. والأطلال.. وللصبر حدود.. وفكرونى) وفى غيرها من الرسالات/ أو الوصلات الغنائية التى هى بطبيعة الحال رسائل للحب، والعدل، والخير، والجمال، والأرض، والوطن، والإنسان فى كل زمان وفى أى مكان من وطننا العربى الكبير.
ذات يوم وهى تجلس بجوار الكاتب الراحل محمود عوض فى سيارته- ماركة فيات 128- فى الطريق من منزلها على نيل الزمالك إلى استوديو 47 بالتليفزيون. سألها: «ماذا تقرئين الآن يا ست؟ ردت: قصيدة شعر لنزار قبانى يا محمود. يقول فى أحد أبياتها: «إلى فلسطين طريق واحد/ يمر من فوهة بندقية».. إذن كان هذا فكرها، قولها، ورأيها قبل 50 سنة، وقبل 60 سنة، وقبل 70 سنة، وقبل 100 سنة، وقبل الميلاد بألف سنة! غير أنه كلما جاء نهار يوم (3 فبراير/ شباط) ـ مثل هذا اليوم ـ من كل عام نجدها تجدد لنا قولها، ورأيها الذى أعلنته لمحمود عوض وسجله فى كتابه (أم كلثوم التى لا يعرفها أحد) قائلة: «إن العدو هو إسرائيل؟ وإن الأمل هو فلسطين؟!» إن هذا الكتاب الذى لا قبله ولا بعده عن حياة الست ونفدت طبعته (4) طبعات فور صدورها ولا تتم إعادة طبعه منذ 30 سنة تقريباً.. ولماذا لا تتم إعادة طبعه؟ حسناً.. هذا سؤال طيب فى زمن ليس كذلك! الإجابة: لا تعليق!
***
«بعد ما صدقت إنى قدرت أنسى
بعد ما قلبى قدر يسلاك ويأسي
جم بهمسة وغيرونى.. كانوا ليه بيفكرونى»
(محافظة الدقهلية 1898)
وعندما نتذكر (ونفتكر) أم كلثوم نجدها لست فتاة ريفية عادية جاءت من ريف قرية الزهايره/ مدينة السنبلاوين تبعد عن القاهرة 140كم بدلتا مصر مرتدية العقال والبالطو الأسود لتغنى: (أوعى تكلمنى بابا جاى ورايا) وليست صيتة ـ أى مطربة ـ وقفت وسط الجماهير من أجل الشهرة والجاه والمال (اشترت 50 فدانًا عام 1935 تبرعت بها مع باقى أملاكها بالكامل إلى أسرتها وأهلها)! وليست امرأة عادية جاءت للحياة من أجل فستان سهرة (سواريه) وعش زوجية تأكل من مطبخه ما لذ وطاب كباقى النساء«كانت تستيقظ فى الثامنة صباحاً.. لا إفطار. مجرد فنجان شاى. الغداء حسب الظروف، أما الوجبة الرئيسية فهى العشاء»! وليست مواطناً عادياً جاء للحياة ثم رحل كما يرحل غيره من البشر بعيداً عن قضايا وطنه دون أن يترك أثرًا.(تبرعت عام 1968 للمجهود الحربى بعد هزيمة يونيو/ حزيران 67 بما يساوى 5 ملايين دولار (بقيمة اليوم = 75 مليون جنيه مصرى)!
أم كلثوم.. حتى وأنت تسمعها فى شرفة منزلك وقت العصارى وأمامك فنجان شاى وعلبة سجائر نصف فارغة وهى تغنى: «الحب كله حبيته فيك/ الحب كله/ وزمانى كله أنا عشته ليك/ زمانى كله» تذكرك بالمصرى القديم وهو يبنى الأهرامات، وهو يعمل تحت وطأة السخرة فى حفر قناة السويس، وهو جندى من جنود عرابى أمام قصر عابدين. وهو صوت يهتف بين جماهير ثورة 1919 (الاستقلال التام أو الموت الزؤام)، وهو منشور من بيانات الضباط الأحرار، وهو حرف فى صحيفة يحررها عبدالله النديم، وهو كلمة فى موسوعة جمال حمدان، وهو غنوة من ألحان سيد درويش، وهو فصل من رواية لنجيب محفوظ.
***
«وبعد حبى/ شغلت قلبى/ وقسيت عليه
وكان منايا/ يدوم هنايا/ ما دمش ليه؟
أروح لمين/ وأقول يا مين»
(القاهرة المستشفى العسكرى)
إن صوت أم كلثوم.. كان وطناً! وكان زمناً! وكان حلماً وكان قولاً وسيظل كذلك.. وسيظل رأيها وفكرها وقولها: «الأمل: هو فلسطين.. والعدو: هو إسرائيل» راسخاً وثابتاً وشاهداً وساكناً بداخل وجداننا وضمائرنا حتى ونحن نسمع صوتها يغنى «هو صحيح الهوى غلاب».. إن هذا الصدق فى القول والعمل يجعلنا نهتف ونحن نصفق لها ـ كما حدث عام 1964 من أحد أشهر معجبيها الحاج سعيد الطحان ـ ونقول لها فى كل مرة «عظمة على عظمة على عظمة يا ست»! وكلما حلت ذكراها سنزحف بأحاسيسنا، ومشاعرنا، ودموعنا ونصعد إلى الدور الثالث بمستشفى المعادى العسكرى مثلما حدث من مريض علم بنبأ وفاتها وهو يُعالج فى المستشفى فترك غرفته محمولاً فوق كرسى متحرك ووقف أمام غرفتها رقم (334) ـ غرفة الإنعاش ـ يبكى قائلاً: «سمعانى يا ست.. يا خسارة يا ست.. الله يرحمك.. يا ست»!
***
«دا مفيش فى الدنيا غرام
بيعيش كده على الأوهام
والحب الصادق عمره
عمره ما يحتاج لكلام
للصبر حدود»
(القاهرة فبراير 1975)
اليوم هو الخميس، الساعة الآن السابعة صباحاً، أخبار القاهرة عادية جداً.. تقول: «ابتداء من الأسبوع القادم سنستمع من ميكروفون الإذاعة إلى صوت ثعلب كرة القدم الكابتن حمادة إمام وهو يُعلق للمرة الأولى على مباريات كرة القدم. بعد 5 أيام ستعرض فرقة الفنانين المتحدين مسرحية (شاهد ما شافش حاجة) بطولة عادل إمام وإخراج هانى مطاوع. الهيئة المصرية العامة للكتاب تعلن عن استمرار فعاليات معرض الكتاب حتى 7 فبراير بأرض المعارض بالجزيرة. تركيا تعلن أنها لن تشترك فى محادثات قبرص.. قوات إثيوبيا تتدفق على إريتريا. اتساع الخلاف فى التحالف اليسارى بين الشوعيين والاشتراكيين فى فرنسا. الرئيس الأمريكى فورد يقدم ميزانية حكومته للكونجرس متضمنة مبلغ 659 مليون دولار تحت مسمى مساعدة طوارئ لإسرائيل! الرئيس السادات يرسل رسالة لرئيس مجلس الشعب سيد مرعى وإلى الدكتور عبد العزيز حجازى رئيس مجلس الوزراء يشدد فيها على عملية تحقيق العدل الاجتماعى وتعديل النظام الضرائبى لتذويب الفوارق بين الطبقات وتوفير متطلبات الحياة الكريمة للجماهير!.. سينما بالاس بمصر الجديدة تعرض فيلم (لقاء مع الماضى) بطولة ميرفت أمين وعادل أدهم. الملحن سيد مكاوى مريض ويلازم الفراش. مواطن اسمه عبدالله أبوالعنيين عثر على شيك باسم المواطن عبدالرحمن حسنين محمد- بنك الإسكندرية - به ملبغ كبير ويبحث عن صاحبه.أسعار الذهب وصلت إلى عيار 21 يساوى- 330 قرشاً.. شركة أوليمبك تعلن عن سخان سعة 30 لترًا بسعر 50 جنيهًا.. درجة الحرارة فى القاهرة الكبرى 19 والصغرى 10 درجات) الزمالك يفوز على الأولمبيى 4/ صفر وأحرز على خليل 3 أهداف (على خليل أحد أفضل مواهبنا الكروية الذى هاجر خارج الوطن بسبب ضعاف النفوس والموهبة)! كانت هذه أخبار القاهرة والعالم فى هذا الصباح.
***
( القاهرةـ حى الزمالك)
أما أخبار منزل الست أم كلثوم فكانت كالتالى: «عند الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم شعرت أم كلثوم بصداع شديد فتم استدعاء الدكتور زكريا الباز الذى وصل بأقصى سرعة ممكنة غير أنه وجدها دخلت فى غيبوبة تامة، وبالفحص وجد نزيفًا فى المخ أدى لاضطرابات فى نبضات القلب ويجب نقلها بسرعة مع كافة الاستعدادات الطبية العاجلة إلى مستشفى المعادى العسكرى الذى أدخلها فوراً إلى غرفة الإنعاش.. وجاء التقرير المبدئى (ارتفاع مفاجئ فى الضغط أثر على المخ والقلب وظلت فى غيبوبة حتى صباح اليوم التالى).. فى مساء الجمعة حدث تحسن فى الوضع ببطء واستعاد القلب بعض نشاطه.. ثم حدث انخفاض مفاجئ فى عمل الكلى نتيجة ضعف وأنيميا حادة أدى إلى انخفاض عدد صفائح الدم بصورة كبيرة. وصباح السبت دخلت فى غيبوبة تامة استمرت لليوم الثالث.
***
(المستشفى بعد مرور 72 ساعة)
عند منتصف ليلة الأحد بدأ الاضطراب فى القلب يظهر على الشاشة وتم دفع المساعدات الطبية للقلب الذى عاد إلى طبيعته بعد 30 دقيقة.. بعد فترة قصيرة حدث تدهور كبير فى الكلى ثم توقفت تمامًا وزادت نسبة البولينا فى الدم.. والضغط 135/ 90.. الآن بجوارها 15 طبيبًا من كافة التخصصات يجتمعون فى حجرتها بصورة دائمة.. (الأطباء قالوا مقاومتها للمرض غير طبيعية.. وما يجرى فى غرفة الإنعاش هو صراع بين العلم والموت).
***
«وكان الحب بينا كبير
صغر لما ابتدينا نغير
وبردت نار وقادت نار
وبرضه مشينا فى التيار»
(المستشفى صباح اليوم التالى)
الساعة الآن التاسعة صباحاً:
القلب منتظم.. ولكن مراكز الأعصاب فى المخ لا تستجيب للعلاج.
الساعة 11 صباحاً:
الغيبوبة مستمرة دون تحسن على الإطلاق، وذلك لأن مراكز بالمخ قد أصيبت بالشلل التام.، وكافة مراكز المخ ليس لها وجود على شاشات رسم المخ، ومعنى ذلك أن المخ قد توقف عن إصدار أى إشارات للجسم.
الساعة الثالثة بعد الظهر:
الغيبوبة مستمرة والجسد لا يتحرك ولا يصدر عنه أى صوت منذ 72 ساعة.
الساعة الرابعة عصراً:
اضطراب فى نبضات القلب.. والدكتور مصطفى المنيلاوى يقوم الآن بعمل تدليك سريع للقلب وإعطاء حقنة منشطة للجسم.. بعد دقائق تم استدعاء زوجها الدكتور مصطفى الحفناوى (كان يجلس بجوارها بالغرفة 501) مع محمد دسوقى ابن شقيقتها.. الآن كل شىء فى جسدها توقف تماماً.
الساعة الرابعة والنصف:
بجوارها فى غرفة الإنعاش الممرضة ملازم أول نادية عبدالسلام، تبكى بمرارة شديدة، بينما الممرضة الرائد محروسة على، تقرأ القرآن ثم الشهادتين.. فى هذه الساعة وهذه الدقيقة بالضبط خرج الدكتورعاطف السباعى المسئول الأول عن غرفة الإنعاش ليُعلن للصحفيين الذين يتواجدون منذ أيام حول حجرتها: «القلب توقف تماماً.. الآن أم كلثوم ماتت»! بعد إعلان نبأ الوفاة تم تعزيز قوات الشرطة العسكرية حول منطقة مستشفى المعادى بالكامل بصورة مشددة.. فى ممر الدور الثالث أمام غرفتها يقف طاقم حراسة منذ وصولها عدده 6 أفراد، ورغم ذلك الطوق الأمنى اخترقه مواطن كان يعالج بالمستشفى بعدما علم بالنبأ، وكان يجلس فوق كرسى متحرك وجاء مسرعاً يبكى وهو يقترب من حجرته قائلاً بصوت مسموع: «سمعانى يا ست.. يا خسارة يا ست.. الله يرحمك.. يا ست»! فيما كانت على مقربة منه فتاة شابة عشرينية تقف بالممر ومعها جهاز تسجيل تتسرب منه نغمات وصوت أم كلثوم وهى تغنى:
«يا حبيبى كل شىء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعد ما عز اللقاء»
***
وفى النهاية ماتت أم كلثوم .. لتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة.. و.. و.. و إلى اللقاء يا ست.


خيرى حسن




<< الأحداث حقيقية.. السيناريو من خيال الكاتب.
<< الشعر المصاحب للكتابة للشعراء:
عبدالمنعم السباعى
مرسى جميل عزيز
عبدالوهاب محمد
إبراهيم ناجى.

الصور:
أم كلثوم بريشة الفنان الكبير: سامى أمين.
المصادر:
كتاب: أم كلثوم التى لا يعرفها أحد، محمود عوض، طبعة أخبار اليوم / 1969
كتاب: شخصيات.. محمود عوض، طبعة دار المعارف- 2006
كتاب: أم كلثوم، عصر من الفن. الدكتورة نعمات أحمد فؤاد/ طبعة دار الهلال / 2000
الصحف:
الأهرام / الأخبار / الجمهورية.
المجلات:
الكواكب / آخر ساعة / الإذاعة والتليفزيون.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى