أسلوب الكاتب أو الأديب من أهم العناصر الجاذبة للمتلقي، والتي - قبل أي شيء - تميِّز طريقته في التعبير والكتابة. ولما كانت لغة العلوم تقريرية، اهتم الباحثون بتحليل اللغة الأدبية وعلى رأسها لغة الشعر لأن الأخيرة قوامها الأساليب البيانية والتنميق البلاغي.
فيما مضى، اهتم علم البلاغة بالتركيز على الأساليب البيانية مثل الاستعارة والكناية والصور وغيرها من الأساليب. وفي حين أن علم الأسلوب يهتم بالطريقة التي يستخدم بها الكاتب أو المبدع الصور والتشبيه والاستعارة والكناية إلى ما شابه ذلك من أدوات تنميق النص، كل كاتب يستخدم نفس الأساليب، ولكن بالطريقة التي تعكس وجهة نظره الشخصية؛ أي أن الأسلوب هو انعكاس لشخصية الكاتب ومنه يستطيع القاريء معرفة البيئة التي نشأ بها وما يدور بها ويؤثر عليها من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية. فأسلوب الكاتب الذي يعكس شخصيته هو بالأساس وليد البيئة التي نشأ بها.
وبالنظر لظاهرة الانزياح، يلاحظ أنها واحدة من المفاهيم التي أكتسبت شهرة واسعة إلى أن صارت الأشهر. وارتبطت ظاهرة الانزياح بتيار الشعر الحديث الذي يعنى بالأسلوب. ولظاهرة الانزياح بعدان، أحدهما لغوي والآخر اصطلاحي. لغويًا، كلمة "انزياح" تعني زوال الشيء وتنحيه، بمعنى أن الشيء أو الأمر ذهب وتباعد. ومن هنا نستنتج أن المعنى اللغوي لكلمة انزياح يشير إلي تغيير حالة معينة وعدم الالتزام، كقول "أزاحه عن طريقه" أي باعده، وكقول "زاح عنه الهم" أي أزاله. والدلالة اللغوية هنا تؤكد أن عملية الانزياح تلك تعنى بالخروج عن المألوف والمتعارف عليه أو السائد، وهي بذلك تؤكد على أن المعنى الاصطلاحي لتلك الظاهرة يعنى بالخروج عن المعتاد والسائد من خلال اجتهاد المبدع في خلق إضافة جمالية غير مألوفة يتميَّز بها نصه من أجل نقل عمق تجربته الشعورية للمتلقي، وبذلك يستطيع التأثير عليه. ومن ثمَّ، وصفت تلك الظاهرة بعدة تعابير اصطلاحية، مثل: الجسارة اللغوية والشذوذ والابتكار والإزورار والاتساع؛ فمحل ظاهرة الانزياح هو رؤية ولغة وصياغة وتراكيب النص.
ومن الجدير بالذكر أن للانزياح الأسلوبي شروط وضوابط، أهمها أن يكون في حدود ما تسمح به اللغة، وأن يعود بالفائدة على النص ويرفع من قيمته. فالانحراف، أو "الانزياح" غايته ليست الخروج عن المألوف لتحقيق تميُّز منشأه عدم الاهتمام بقواعد اللغة وخرق كل ما هو متعارف عليه، ولكنه يعنى بالأساس إلى جذب انتباه المتلقي وإثارته وتحفيز خياله حتى يصير على أهبة الاستعداد لاكتشاف كل ما هو جديد وغريب في إطار رؤية الكاتب التي يعبر عنها بداخل النص. ومن ثم، يجاهد كل شاعر – على وجه الخصوص – أو كاتب أدبي – على وجه العموم – لخلق معجمًا لغويًا يعكس أسلوبه وشخصيته، ويتخذ منه وسيلة لجذب المتلقِّي من أجل نقل تجربته الشعورية في الأطر التي تبرزها. ومن أهم تجليات الانزياح هي الاستعارة وخاصة التشخيص، والتضاد، والتقديم والتأخير في التراكيب.
ولقد عكف الباحثون على دراسة ظاهرة الانزياح في النصوص الشعرية المكتوبة باللغة الفصحى، والتجديد هنا هو دراسة تلك الظاهرة في شعر العامية والشعر الحلمنتيشي حيث يعتقد المتشددون أنهما في حد ذاتهما انزياح عن الطريقة السائدة في نظم الشعر، وإن خلا كل منهما عن حرفية وتجليات النص الأدبي المكتوب باللغة الفصحى.
وبالنظر إلى شعر العامية، يلاحظ أن رائد شعر العامية منذ خمسينات القرن الماضي هو الشاعر الكبير "فؤاد حداد" الذي نمَّق القصيدة العامية بطريقة جعلها تخرج في أبهى صورها، وكان لجهوده عظيم الأثر في تشجيع ما تلاه من شعراء الفصحى والعامية على حد سواء. ولقد توَّجه الأدباء بلقب "أبو الشعر العامي" تقديرًا لجهوده.
عكف النقاد والباحثون على دراسة أشعار "فؤاد حداد"؛ لأنها وبالرغم صياغتها باللغة العامية إلا أنها زاخرة بجميع العناصر البيانية والأسلوبية من ألفاظ واستعارات وصور وكنايات وتراكيب لغوية وكذلك والموسيقى والوزن جعلت تلك القصائد تتشابه ونظم قصائد الفصحى مع اختلاف الاستخدام اللغوي. ومن ثمَّ، كان "فؤاد حداد" أول من نقل قصيدة العامية من مرحلة الزجل إلى مرحلة الشعر.
ومن أهم القضايا التي أثارها الناقد "محمد علي عزب" في كتابه " عن تحولات الشعر العامى بين التراث والمعاصرة" إثباته أن "فؤاد حداد" هو أول من كتب الشعر الحر سواء في العامية المصرية أو في اللهجات العربية، على عكس من ينسب ذاك اللون إلى "لويس عوض". فعادة ما يشير النقاد أن "لويس عوض" هو أول من قدم قصيدة العامية الحرة فى ديوانه "بلوتو لاند وقصائد من شعر الخاصة " الصادر عام 1947 حيث استخدم السطر الشعرى فى ثلاثة عشر نصًا بالعامية المصرية منها خمس نصوص قصيرة وثمانِ نصوص يسميها " سونتيات". لكن مع فارق أن "لويس عوض" سلك درب القدماء أمثال دانتي ألجيري في "الكوميديا الإلهية" وشكسبير في مسرحياته؛ حيث خصص اللهجة العامية للعوام في حين كان ينسب العربية الفصحى إلى السادة والطبقات العليا والنبلاء. تماما، مثل ما فعل "دانتي ألجيري" في كتابه الرائع "الكوميديا الإلهية" عندما اختص العوام باللغة الإيطالية الدارجة، وجعل السادة يتحدثون باللاتينية المقدسة. وبالنسبة لشكسبير، فكان النبلاء والطبقات العليا يتحدثون الإنجليزية الراقية المفعمة بالصور واالتي صيغت في هيئة شعر، أما العامة فكانوا يتحدثون في إطار نثري هزلي، وتستخدم مشاهدهم كفاصل فكاهي. ولهذا، كان "لويس عوض" مقلِّدًا وليس مجدِدًا.
وعلى صعيد آخر، يرى البعض أن "صلاح جاهين" هو أول من قدم قصيدة العامية، إلا أن صلاح جاهين نفسه في مقدمة أعماله الكاملة الصادرة عن هيئة الكتاب عام 1977 ، صفحة 5 قد أكَّد أنه عندما قرأ إحدى قصائد "فؤاد حداد" التي كتبها في عام 1951 كان قد بدأ هو الآخر بضعة محاولات بالعامية، أغلبها ظهر عليها تأثير "بيرم التونسى"، ولكنها لم تكن عالية الجودة مثل قصائد "فؤاد حداد" والتي كانت نظمًا له "طريقه الخاص"، كما أشار "صلاح جاهين" مؤكدًا.
وتعد قصيدة "مين قال" واحدة من أهم وأشهر قصائد "فؤاد حداد" والتي توضح أنه أبرز الشرط الشعري والجمالي من معطيات لغة الحياة اليومية، ومنها قدَّم الشعر الحر برؤية فنية وآليات جمالية خاصة.
ونص القصيدة كالتالي:
مين قال"
القمر يشوف ودنها يعمل حلق
يشوف حلقها يعمل ودان
مين اللي بيحس بالقلق
المروحة ولّا الفستان؟
مجنونه.. مين قال؟
باتكلم.. مين قال؟
باتحرك.. مين قال؟
أنا عاقلة أنا قاعدة
بس سايبة من النهارده
قلبي عند ابن الحلال
مجنونة.. مين قال؟
والعجيبة الناس يجوني
والعوازل يسألوني
اللي بينور عيوني
هي دي عايزة سؤال
مجنونة مين قال؟
واللي ساب قلبه معايا
خبروني يا صبايا
كنت شفته في المراية
ولا شفته في الخيال
مجنونة.. مين قال؟
كل شوق الدنيا عندي
حط إيدي على خدي
راح يجيب ولّا يودي
الفراق ولّا الوصال
مجنونة.. مين قال؟..
والعرايس رايحة جاية
تسأل الدنيا عليّا
والغريب شاف في عينيه
بنت عم وبنت خال
مجنونة.. مين قال؟
كل يوم شمسه تغيب
والقمر ساكن قريب
كل مولد وأنت طيب
وافتكر حسي اللي قال
مجنونة.. مين قال؟
وبتحليل القصيدة، نجد أن الانزياح الأسلوبي على كل مستوياته قد انبلج حينما استخدم الشاعراستعارات قائمة على التشخيص، والتقديم والتأخير، وأضاف إليها أسلوب التكرار المغلف بالتضاد. وهناك أيضًا أسلوب الحوار الذي يعزز رؤية الشاعر ويبرز استعاراته.
فعلى سبيل المثال، عنوان القصيدة "مين قال؟"، وتكرار نفس السؤال لعدة مرات داخل القصيدة أكد على أسلوب الحوار، بالرغم من أن التساؤل جمالي لا يحتاج إلى إجابة، لكنه يشعر المتلقي أن الشاعر يلح على وجهة نظره ويحاول أن يثبت صحتها بكل الوسائل.
وبتحليل السطر الأول والثاني من القصيدة " القمر يشوف ودنها يعمل حلق / يشوف حلقها يعمل ودان" نجد أن الشاعر قد قدَّم استعارة لصور ممتدة قائمة على التشخيص جعل فيها القمر بوصفه أيقونة الجمال يرى المحبوبة أنها تفوقه جمالًا بمراحل لدرجة أنه يجاهد في التودد إليها ويهديها "قرط" من صنعه عندما يرى جمالها، أما عندما يرى جمال القرط على أذنيها الرائعين يصاب بالغيرة ويصنع لنفسه أذنين.
وتزخر القصيدة بالتقديم والتأخير الذي يعنى بلفت انتباه المتلقي لتحضيره للفكرة التي يريد لشاعر أن يوصلها، كما في الأبيات التالية :
"باتكلم.. مين قال؟
باتحرك.. مين قال؟"
أما أسلوب التساؤل والاستفهام فهو في حد ذاته انزياح واضح عن أسلوب نظم الشعر المتعارف عليه، ووغرضه دعوة المتلقي إلى مشاركة الشاعر في تجربته الشعرية من خلال تحفيز حواس المتلقي.
ثم يجنح الشاعر في القصيدة بأكملها إلى التكرار بأشكال متعددة والتي في كل مرة يزيد عليها فكرة جديدة إلى أن يتم تجربته الشعرية برؤياه الفريدة والتي يختمها أيضًا بصورة جمالية أخرى حينما يشبه محبوبته بأنها مجرة كاملة " كل يوم شمسه تغيب / والقمر ساكن قريب"، وتلك المجرة لها شموس بالرغم من كونها جميلة كالقمر وتسكن بالقرب منه. وبذلك يكون ضمن أنه قد جعل المتلقي يشاركه إحساسه بشوق متجدد ولغة سريعة متدفقة كالمطر الغزير، لا تسكن إلا بختام القصيدة.
وعلى هذا، فإن "فؤاد حداد" قد أمسك بتلابيب آليات الشعر الحر وجمالياته التي جعلت قصيدته أنموذجًا مثاليًا للإنزياح.
أما الشعر الحلمنتيشي، فعند قياسه على شروط وآليات وتجليات ظاهرة الإنزياح الأسلوبي، يلاحظ أنه إنزياح متكامل؛ لأنه يشذّ عن جميع قواعد المألوف سواء من الشعر أو حتى النثر.
فالشعر الحلمنتيشي سجل أول ظهور له في مصر وانتقل إلى السودان، واستمر وجوده بهما حتى الآن. وكان أول من كتب الشعر الحلمنتيشي هو الشاعر "حسين شفيق المصري" ثم تلاه بيرم التونسي. ولقد سمى بذلك نسبة إلى فرقة "حلمنتيش" التي اشتهرت بتقديمه.
والشعر الحلمنتيشي هو شعر فكاهي ساخر يمزج به الشاعر الفصحى بالعامية، وكثيرًا ما يجنح إلى المعارضات الشعرية؛ فمثلًا كتب "حسين شفيق المصري" أشعار أطلق عليها "المشعلقات" وهي قائمة على معارضة "المعلقات" المكتوبة في الشعر الجاهلي.
وأغلب قصائد ذلك اللون من الشعر لا تعتمد علي قافية أو وزن، ولا يتم تقسيمها إلي أبيات مثل الشعر العادي. ويجنح بعض النقاد وصفها بأنها مجرد جمل متراصة يحاول الشاعر تغليفها بنغمة موسيقية بسيطة من أجل توضيح المعنى وتوصيله للمتلقي.
ومن أهم شعراء ذلك اللون الشعري" أحمد قنديل" و"شوقي أبو ناجي" و"عبد العليم القباني" و "مصطفى رجب" و"ياسر قطامش".
ويعد الشاعر "ياسر قطامش" من أهم شعراء اللون الحلمنتيشي المعاصرين، و جاهدًا يحاول أن ينأى في أشعاره عن إطار الجمل المتراصة التي تفتقر للموسيقى الغنية، والوزن والأساليب الجمالية، وإن أشعل حدة الإطار الفكاهي الساخر الذي يغلف قصائده عندما يزجيه بكلمات عامية صادمة، أغلبها وليدة الحياة الحديثة المعاصرة والتي تعكس مجريات العصر وما يسوده من عوار. وبذلك يسخر من سلبيات المجتمع وينقده نقد لاذع لن يتقبله العامة إلا من خلال أسلوب شديد الفكاهة يضاهي الروح المصرية التي تعمد إلى الضحك عندما يشتدّ الألم.
ويميل الشاعر الحلمنتيشي" ياسر قطامش" إلى المعارضات الشعرية التي تجعله يلم بجميع أطر سلبيات المجتمع المعاصر في دفقة مركَّزة تعطيه الحرية لينتقل بين قضايا عدَّة، مع الحفاظ على كم هائل من المفردات شديدة العامية التي تتناقض وأسلوبه الفصيح بشكل صادم.
وتعد قصيدة "رسالة بالفاكس إلى المتنبي " من ديوان "القلب فى ورطة بين ليلى وبطة" خير دليل على الانزياح الأسلوبي لدى الشاعر الحلمنتيشي " ياسر قطامش". وتقول القصيدة:
لشعرك ما يلقى الفؤاد وما لقي فرفقا بأعصابي ولا *تتمهزقِ
زمانك هذا قد ولى وهذا زماننا فأين بنو حمدان بل كيف نلتقي؟
سحابة أشعاري من الغيث أجدبت وفي الوحل أوهامي لقد غاص زورقي
سقى الله أياما بشعرك أثمرت بتين ورمان وورد وزنبقِ
أبا الطيب المتنبي الآن لم يعد من الشعر ما يغري بلوز وفستقِ
أرى الناس من حولي علي *تتريقوا يريدون شعرا *كاسترتش *محزقِ
وقالوا كفاك الآن شعرا مسبكا تعجل و*كنتكه سريعا أو *اسلقِ
ولا تلق بالا للخليل بن أحمد ولا سيبويه أو لعقل ومنطقِ
وهات لنا شعرا غريبا ومبهما ومن غير وزن كالصبيح المطبقِ
وكم ذا بلينا من حمار مثقف متى ننشد الأشعار يرفس وينهقِ
ركبنا حصان الشعر وهما محلقا ومن يركب الأوهام يتعب ويحزقِ
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى دهُلا لعلياء المنصب يرتقي
مفردات بعض الكلمات العامية الغريبة على القاموس الدارج لغير الناطقين بالعامية المصرية:
*تتمهزقِ : تسخر *تتريقوا: استهزأوا
*استرتش: نوع من الملابس ضيق على الجسم *محزَّق: شديد الالتصاق بالجسد
*كنتكه: من " كنتاكي " وهو مطعم الوجبات السريعة وكذلك عملية *سلق الطعام فهى سريعة
القصيدة في حد ذاتها انزياح عن المألوف عندما وجهت رسالة للمتننبي ذاته لتنبأه أن أشعاره صارت لا تتناسب ومجريات العصر الحديث الذي يجنح للشعر الرديء الصنعة والغير متقن النظم؛ لأن الزمن ذاته صار لا يعلي إلا من مقام الرديء ولا يلتفت للموهوبين. وحتى يعبر عن تلك الفكرة بدأ القصيدة بدلا من كلمة "لعمرك" استبدلها بكلمة "لشعرك" حتى يمهد للمتلقي أنه لسوف يثير قضية الشعر محورًا للقصيدة. وأما القصيدة في حد ذاتها فهي لا تقوم إلا على لفت انتباه المتلقي لما تزخر به من من كلمات عامية صادم وجودها في قصيدة باللغة العربية الفصحى؛ ومن تلك الكلمات: " تتمهزقِ" ، و " تتريقوا"، و"استرتش" و"محزَّق"، و"كنتكه"، و"حمار مثقف".
واستخدم الشاعر أسلوب الاستفهام في السطر الثاني من القصيدة للتعبير عن الانزياح بطريقة خاصة " زمانك هذا قد ولى وهذا زماننا / فأين بنو حمدان بل كيف نلتقي؟" حيث أن تساؤله "كيف نلتقي" تعبير عن السخرية التامة وتباعد زمن أشعار المتنب عن أشعار العصر الحالي. ومن ثم فالشاعر يؤكد استحالة مقارنة أشعار هذا الزمان بأشعار اليوم، وأن كل من يجنح لذلك لا يستحق إلا السخرية منه.
ثم يتجلى الانزياح في شكل جديد بالنسبة للشعر الحلمنتيشي مع استخدام الشاعر الاستعارات المركبة التي تزخر بها القصيدة؛ فعلى سبيل المثال، يقول الشاعر: " سحابة أشعاري من الغيث أجدبت" استعارة الشاعر المركبة قوامها تصوير الأشعار مثل السحابة، لكن تلك السحابة أجدبها مطر الأشعار المعاصرة، على عكس المألوف والذي يقضي بأن المواظبة على كتابة الشعر تمنح الكاتب حذق وتجعله يمسك بتلابيب النظم.
وفي نفس البيت الشعري، يذكر الشاعر في الشطر الثاني استعارة مركبة قائمة على التقديم والتأخير، فيقول: " وفي الوحل أوهامي لقد غاص زورقي" الشاعر يؤكد هنا أن أشعاره كانت مجرد أوهام، وذلك السبب أن سحابة شعره أجدبت. ولو كان يستخدم زورقًا للإبحار به في وقت الغيث، فإن مآل هذا الزورق حاليًا هو الغرق في الوحل. التقديم والتأخير هنا يتضح عند ترتيب الجملة هكذا "لقد غاص زورقي في الوحل."
ثم يقارن الشاعر الأشعار الرديئة المنتشرة حاليًا، بأشعار المتنبي الغراء في الشطر التالي بقوله: " سقى الله أيامًا بشعرك أثمرت" فلقد جعل هنا الأشعار كالمطر الذي يروي الزروع، وبهذا حول الاستعارة لصورة ممتدة لارتباطها بالمعنى في السطر السابق. وأما ما يسقيه غيث الشعر ليس النباتات بل الأيام، مما يجعل القاريء يتخيل أيام مزهرة وارفة تتناقض وصورة الأيام الحالية الموحلة التي يغوص فيها زورق الشاعر. ويكمن جمال الصور في هذه القصيدة في كونها شديدة التعقيد وإن بدت بسيطة التركيب؛ فكلما أمعن المتلقي فيها، يكتشف معان جديدة تنقل الحالية الشعرية لشاعر ينعي أشعار الماضي الجميلة التي تحولت لرداءة تتناسب مع الألفاظ الصادمة لمفردات حديثة ساقها الشاعر لتوضيح ما يروم له من معاني.
ولقد بلور الشاعر فكرته في قوله " حمار مثقف / متى ننشد الأشعار يرفس وينهقِ" ليوضح انتشار طبقة من مدعي الثقافة الذين لا يفقهون شيئا عنها، بل يمجون كل ما هو طيب من أجل إعلاء الخبيث. ولتصوير ذلك استخدم التشخيص الدارج بتشبيه الشخص الغبي بالحمار، أما التجديد فكان تماهي ردود أفعال مدعي الثقافة مع رد فعل أي حمار عندما يمج أمر ما.
وتحليل القصيدة يوضح أن الشاعر "ياسر قطامش" من أهم المجددين في ذلك اللون الشعري؛ حيث أن تعقيد تراكب استعاراته أطفى على أشعاره طابع فريد جعلها تبتعد عن السطحية والدونية.
ومع التمعن في قصائد الشعر العامي وقصائد الشعر الحلمنتيشي الجيدة، يلاحظ أن ظاهرة الإنزياح الأسلوبي لا تقتصر فقط على أشعار اللغة العربية الفصحى، بل أن الأشعار العامية قد تجعلها تفتح أبوابًا جديدة للتعبيير، وأما الشعر الحلمنتيشي فلسوف يجعل الإنزياح الأسلوبي يحلق في آفاق جديدة وفريدة لأنه يغوص في الأسلوب الأدبي باستخدامه الفصحى وفي نفس الوقت يعبر عن العامة ويعبر عن رؤى العصر باستخدامه العامية.
نعيمة عبد الجواد
فيما مضى، اهتم علم البلاغة بالتركيز على الأساليب البيانية مثل الاستعارة والكناية والصور وغيرها من الأساليب. وفي حين أن علم الأسلوب يهتم بالطريقة التي يستخدم بها الكاتب أو المبدع الصور والتشبيه والاستعارة والكناية إلى ما شابه ذلك من أدوات تنميق النص، كل كاتب يستخدم نفس الأساليب، ولكن بالطريقة التي تعكس وجهة نظره الشخصية؛ أي أن الأسلوب هو انعكاس لشخصية الكاتب ومنه يستطيع القاريء معرفة البيئة التي نشأ بها وما يدور بها ويؤثر عليها من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية. فأسلوب الكاتب الذي يعكس شخصيته هو بالأساس وليد البيئة التي نشأ بها.
وبالنظر لظاهرة الانزياح، يلاحظ أنها واحدة من المفاهيم التي أكتسبت شهرة واسعة إلى أن صارت الأشهر. وارتبطت ظاهرة الانزياح بتيار الشعر الحديث الذي يعنى بالأسلوب. ولظاهرة الانزياح بعدان، أحدهما لغوي والآخر اصطلاحي. لغويًا، كلمة "انزياح" تعني زوال الشيء وتنحيه، بمعنى أن الشيء أو الأمر ذهب وتباعد. ومن هنا نستنتج أن المعنى اللغوي لكلمة انزياح يشير إلي تغيير حالة معينة وعدم الالتزام، كقول "أزاحه عن طريقه" أي باعده، وكقول "زاح عنه الهم" أي أزاله. والدلالة اللغوية هنا تؤكد أن عملية الانزياح تلك تعنى بالخروج عن المألوف والمتعارف عليه أو السائد، وهي بذلك تؤكد على أن المعنى الاصطلاحي لتلك الظاهرة يعنى بالخروج عن المعتاد والسائد من خلال اجتهاد المبدع في خلق إضافة جمالية غير مألوفة يتميَّز بها نصه من أجل نقل عمق تجربته الشعورية للمتلقي، وبذلك يستطيع التأثير عليه. ومن ثمَّ، وصفت تلك الظاهرة بعدة تعابير اصطلاحية، مثل: الجسارة اللغوية والشذوذ والابتكار والإزورار والاتساع؛ فمحل ظاهرة الانزياح هو رؤية ولغة وصياغة وتراكيب النص.
ومن الجدير بالذكر أن للانزياح الأسلوبي شروط وضوابط، أهمها أن يكون في حدود ما تسمح به اللغة، وأن يعود بالفائدة على النص ويرفع من قيمته. فالانحراف، أو "الانزياح" غايته ليست الخروج عن المألوف لتحقيق تميُّز منشأه عدم الاهتمام بقواعد اللغة وخرق كل ما هو متعارف عليه، ولكنه يعنى بالأساس إلى جذب انتباه المتلقي وإثارته وتحفيز خياله حتى يصير على أهبة الاستعداد لاكتشاف كل ما هو جديد وغريب في إطار رؤية الكاتب التي يعبر عنها بداخل النص. ومن ثم، يجاهد كل شاعر – على وجه الخصوص – أو كاتب أدبي – على وجه العموم – لخلق معجمًا لغويًا يعكس أسلوبه وشخصيته، ويتخذ منه وسيلة لجذب المتلقِّي من أجل نقل تجربته الشعورية في الأطر التي تبرزها. ومن أهم تجليات الانزياح هي الاستعارة وخاصة التشخيص، والتضاد، والتقديم والتأخير في التراكيب.
ولقد عكف الباحثون على دراسة ظاهرة الانزياح في النصوص الشعرية المكتوبة باللغة الفصحى، والتجديد هنا هو دراسة تلك الظاهرة في شعر العامية والشعر الحلمنتيشي حيث يعتقد المتشددون أنهما في حد ذاتهما انزياح عن الطريقة السائدة في نظم الشعر، وإن خلا كل منهما عن حرفية وتجليات النص الأدبي المكتوب باللغة الفصحى.
وبالنظر إلى شعر العامية، يلاحظ أن رائد شعر العامية منذ خمسينات القرن الماضي هو الشاعر الكبير "فؤاد حداد" الذي نمَّق القصيدة العامية بطريقة جعلها تخرج في أبهى صورها، وكان لجهوده عظيم الأثر في تشجيع ما تلاه من شعراء الفصحى والعامية على حد سواء. ولقد توَّجه الأدباء بلقب "أبو الشعر العامي" تقديرًا لجهوده.
عكف النقاد والباحثون على دراسة أشعار "فؤاد حداد"؛ لأنها وبالرغم صياغتها باللغة العامية إلا أنها زاخرة بجميع العناصر البيانية والأسلوبية من ألفاظ واستعارات وصور وكنايات وتراكيب لغوية وكذلك والموسيقى والوزن جعلت تلك القصائد تتشابه ونظم قصائد الفصحى مع اختلاف الاستخدام اللغوي. ومن ثمَّ، كان "فؤاد حداد" أول من نقل قصيدة العامية من مرحلة الزجل إلى مرحلة الشعر.
ومن أهم القضايا التي أثارها الناقد "محمد علي عزب" في كتابه " عن تحولات الشعر العامى بين التراث والمعاصرة" إثباته أن "فؤاد حداد" هو أول من كتب الشعر الحر سواء في العامية المصرية أو في اللهجات العربية، على عكس من ينسب ذاك اللون إلى "لويس عوض". فعادة ما يشير النقاد أن "لويس عوض" هو أول من قدم قصيدة العامية الحرة فى ديوانه "بلوتو لاند وقصائد من شعر الخاصة " الصادر عام 1947 حيث استخدم السطر الشعرى فى ثلاثة عشر نصًا بالعامية المصرية منها خمس نصوص قصيرة وثمانِ نصوص يسميها " سونتيات". لكن مع فارق أن "لويس عوض" سلك درب القدماء أمثال دانتي ألجيري في "الكوميديا الإلهية" وشكسبير في مسرحياته؛ حيث خصص اللهجة العامية للعوام في حين كان ينسب العربية الفصحى إلى السادة والطبقات العليا والنبلاء. تماما، مثل ما فعل "دانتي ألجيري" في كتابه الرائع "الكوميديا الإلهية" عندما اختص العوام باللغة الإيطالية الدارجة، وجعل السادة يتحدثون باللاتينية المقدسة. وبالنسبة لشكسبير، فكان النبلاء والطبقات العليا يتحدثون الإنجليزية الراقية المفعمة بالصور واالتي صيغت في هيئة شعر، أما العامة فكانوا يتحدثون في إطار نثري هزلي، وتستخدم مشاهدهم كفاصل فكاهي. ولهذا، كان "لويس عوض" مقلِّدًا وليس مجدِدًا.
وعلى صعيد آخر، يرى البعض أن "صلاح جاهين" هو أول من قدم قصيدة العامية، إلا أن صلاح جاهين نفسه في مقدمة أعماله الكاملة الصادرة عن هيئة الكتاب عام 1977 ، صفحة 5 قد أكَّد أنه عندما قرأ إحدى قصائد "فؤاد حداد" التي كتبها في عام 1951 كان قد بدأ هو الآخر بضعة محاولات بالعامية، أغلبها ظهر عليها تأثير "بيرم التونسى"، ولكنها لم تكن عالية الجودة مثل قصائد "فؤاد حداد" والتي كانت نظمًا له "طريقه الخاص"، كما أشار "صلاح جاهين" مؤكدًا.
وتعد قصيدة "مين قال" واحدة من أهم وأشهر قصائد "فؤاد حداد" والتي توضح أنه أبرز الشرط الشعري والجمالي من معطيات لغة الحياة اليومية، ومنها قدَّم الشعر الحر برؤية فنية وآليات جمالية خاصة.
ونص القصيدة كالتالي:
مين قال"
القمر يشوف ودنها يعمل حلق
يشوف حلقها يعمل ودان
مين اللي بيحس بالقلق
المروحة ولّا الفستان؟
مجنونه.. مين قال؟
باتكلم.. مين قال؟
باتحرك.. مين قال؟
أنا عاقلة أنا قاعدة
بس سايبة من النهارده
قلبي عند ابن الحلال
مجنونة.. مين قال؟
والعجيبة الناس يجوني
والعوازل يسألوني
اللي بينور عيوني
هي دي عايزة سؤال
مجنونة مين قال؟
واللي ساب قلبه معايا
خبروني يا صبايا
كنت شفته في المراية
ولا شفته في الخيال
مجنونة.. مين قال؟
كل شوق الدنيا عندي
حط إيدي على خدي
راح يجيب ولّا يودي
الفراق ولّا الوصال
مجنونة.. مين قال؟..
والعرايس رايحة جاية
تسأل الدنيا عليّا
والغريب شاف في عينيه
بنت عم وبنت خال
مجنونة.. مين قال؟
كل يوم شمسه تغيب
والقمر ساكن قريب
كل مولد وأنت طيب
وافتكر حسي اللي قال
مجنونة.. مين قال؟
وبتحليل القصيدة، نجد أن الانزياح الأسلوبي على كل مستوياته قد انبلج حينما استخدم الشاعراستعارات قائمة على التشخيص، والتقديم والتأخير، وأضاف إليها أسلوب التكرار المغلف بالتضاد. وهناك أيضًا أسلوب الحوار الذي يعزز رؤية الشاعر ويبرز استعاراته.
فعلى سبيل المثال، عنوان القصيدة "مين قال؟"، وتكرار نفس السؤال لعدة مرات داخل القصيدة أكد على أسلوب الحوار، بالرغم من أن التساؤل جمالي لا يحتاج إلى إجابة، لكنه يشعر المتلقي أن الشاعر يلح على وجهة نظره ويحاول أن يثبت صحتها بكل الوسائل.
وبتحليل السطر الأول والثاني من القصيدة " القمر يشوف ودنها يعمل حلق / يشوف حلقها يعمل ودان" نجد أن الشاعر قد قدَّم استعارة لصور ممتدة قائمة على التشخيص جعل فيها القمر بوصفه أيقونة الجمال يرى المحبوبة أنها تفوقه جمالًا بمراحل لدرجة أنه يجاهد في التودد إليها ويهديها "قرط" من صنعه عندما يرى جمالها، أما عندما يرى جمال القرط على أذنيها الرائعين يصاب بالغيرة ويصنع لنفسه أذنين.
وتزخر القصيدة بالتقديم والتأخير الذي يعنى بلفت انتباه المتلقي لتحضيره للفكرة التي يريد لشاعر أن يوصلها، كما في الأبيات التالية :
"باتكلم.. مين قال؟
باتحرك.. مين قال؟"
أما أسلوب التساؤل والاستفهام فهو في حد ذاته انزياح واضح عن أسلوب نظم الشعر المتعارف عليه، ووغرضه دعوة المتلقي إلى مشاركة الشاعر في تجربته الشعرية من خلال تحفيز حواس المتلقي.
ثم يجنح الشاعر في القصيدة بأكملها إلى التكرار بأشكال متعددة والتي في كل مرة يزيد عليها فكرة جديدة إلى أن يتم تجربته الشعرية برؤياه الفريدة والتي يختمها أيضًا بصورة جمالية أخرى حينما يشبه محبوبته بأنها مجرة كاملة " كل يوم شمسه تغيب / والقمر ساكن قريب"، وتلك المجرة لها شموس بالرغم من كونها جميلة كالقمر وتسكن بالقرب منه. وبذلك يكون ضمن أنه قد جعل المتلقي يشاركه إحساسه بشوق متجدد ولغة سريعة متدفقة كالمطر الغزير، لا تسكن إلا بختام القصيدة.
وعلى هذا، فإن "فؤاد حداد" قد أمسك بتلابيب آليات الشعر الحر وجمالياته التي جعلت قصيدته أنموذجًا مثاليًا للإنزياح.
أما الشعر الحلمنتيشي، فعند قياسه على شروط وآليات وتجليات ظاهرة الإنزياح الأسلوبي، يلاحظ أنه إنزياح متكامل؛ لأنه يشذّ عن جميع قواعد المألوف سواء من الشعر أو حتى النثر.
فالشعر الحلمنتيشي سجل أول ظهور له في مصر وانتقل إلى السودان، واستمر وجوده بهما حتى الآن. وكان أول من كتب الشعر الحلمنتيشي هو الشاعر "حسين شفيق المصري" ثم تلاه بيرم التونسي. ولقد سمى بذلك نسبة إلى فرقة "حلمنتيش" التي اشتهرت بتقديمه.
والشعر الحلمنتيشي هو شعر فكاهي ساخر يمزج به الشاعر الفصحى بالعامية، وكثيرًا ما يجنح إلى المعارضات الشعرية؛ فمثلًا كتب "حسين شفيق المصري" أشعار أطلق عليها "المشعلقات" وهي قائمة على معارضة "المعلقات" المكتوبة في الشعر الجاهلي.
وأغلب قصائد ذلك اللون من الشعر لا تعتمد علي قافية أو وزن، ولا يتم تقسيمها إلي أبيات مثل الشعر العادي. ويجنح بعض النقاد وصفها بأنها مجرد جمل متراصة يحاول الشاعر تغليفها بنغمة موسيقية بسيطة من أجل توضيح المعنى وتوصيله للمتلقي.
ومن أهم شعراء ذلك اللون الشعري" أحمد قنديل" و"شوقي أبو ناجي" و"عبد العليم القباني" و "مصطفى رجب" و"ياسر قطامش".
ويعد الشاعر "ياسر قطامش" من أهم شعراء اللون الحلمنتيشي المعاصرين، و جاهدًا يحاول أن ينأى في أشعاره عن إطار الجمل المتراصة التي تفتقر للموسيقى الغنية، والوزن والأساليب الجمالية، وإن أشعل حدة الإطار الفكاهي الساخر الذي يغلف قصائده عندما يزجيه بكلمات عامية صادمة، أغلبها وليدة الحياة الحديثة المعاصرة والتي تعكس مجريات العصر وما يسوده من عوار. وبذلك يسخر من سلبيات المجتمع وينقده نقد لاذع لن يتقبله العامة إلا من خلال أسلوب شديد الفكاهة يضاهي الروح المصرية التي تعمد إلى الضحك عندما يشتدّ الألم.
ويميل الشاعر الحلمنتيشي" ياسر قطامش" إلى المعارضات الشعرية التي تجعله يلم بجميع أطر سلبيات المجتمع المعاصر في دفقة مركَّزة تعطيه الحرية لينتقل بين قضايا عدَّة، مع الحفاظ على كم هائل من المفردات شديدة العامية التي تتناقض وأسلوبه الفصيح بشكل صادم.
وتعد قصيدة "رسالة بالفاكس إلى المتنبي " من ديوان "القلب فى ورطة بين ليلى وبطة" خير دليل على الانزياح الأسلوبي لدى الشاعر الحلمنتيشي " ياسر قطامش". وتقول القصيدة:
لشعرك ما يلقى الفؤاد وما لقي فرفقا بأعصابي ولا *تتمهزقِ
زمانك هذا قد ولى وهذا زماننا فأين بنو حمدان بل كيف نلتقي؟
سحابة أشعاري من الغيث أجدبت وفي الوحل أوهامي لقد غاص زورقي
سقى الله أياما بشعرك أثمرت بتين ورمان وورد وزنبقِ
أبا الطيب المتنبي الآن لم يعد من الشعر ما يغري بلوز وفستقِ
أرى الناس من حولي علي *تتريقوا يريدون شعرا *كاسترتش *محزقِ
وقالوا كفاك الآن شعرا مسبكا تعجل و*كنتكه سريعا أو *اسلقِ
ولا تلق بالا للخليل بن أحمد ولا سيبويه أو لعقل ومنطقِ
وهات لنا شعرا غريبا ومبهما ومن غير وزن كالصبيح المطبقِ
وكم ذا بلينا من حمار مثقف متى ننشد الأشعار يرفس وينهقِ
ركبنا حصان الشعر وهما محلقا ومن يركب الأوهام يتعب ويحزقِ
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى دهُلا لعلياء المنصب يرتقي
مفردات بعض الكلمات العامية الغريبة على القاموس الدارج لغير الناطقين بالعامية المصرية:
*تتمهزقِ : تسخر *تتريقوا: استهزأوا
*استرتش: نوع من الملابس ضيق على الجسم *محزَّق: شديد الالتصاق بالجسد
*كنتكه: من " كنتاكي " وهو مطعم الوجبات السريعة وكذلك عملية *سلق الطعام فهى سريعة
القصيدة في حد ذاتها انزياح عن المألوف عندما وجهت رسالة للمتننبي ذاته لتنبأه أن أشعاره صارت لا تتناسب ومجريات العصر الحديث الذي يجنح للشعر الرديء الصنعة والغير متقن النظم؛ لأن الزمن ذاته صار لا يعلي إلا من مقام الرديء ولا يلتفت للموهوبين. وحتى يعبر عن تلك الفكرة بدأ القصيدة بدلا من كلمة "لعمرك" استبدلها بكلمة "لشعرك" حتى يمهد للمتلقي أنه لسوف يثير قضية الشعر محورًا للقصيدة. وأما القصيدة في حد ذاتها فهي لا تقوم إلا على لفت انتباه المتلقي لما تزخر به من من كلمات عامية صادم وجودها في قصيدة باللغة العربية الفصحى؛ ومن تلك الكلمات: " تتمهزقِ" ، و " تتريقوا"، و"استرتش" و"محزَّق"، و"كنتكه"، و"حمار مثقف".
واستخدم الشاعر أسلوب الاستفهام في السطر الثاني من القصيدة للتعبير عن الانزياح بطريقة خاصة " زمانك هذا قد ولى وهذا زماننا / فأين بنو حمدان بل كيف نلتقي؟" حيث أن تساؤله "كيف نلتقي" تعبير عن السخرية التامة وتباعد زمن أشعار المتنب عن أشعار العصر الحالي. ومن ثم فالشاعر يؤكد استحالة مقارنة أشعار هذا الزمان بأشعار اليوم، وأن كل من يجنح لذلك لا يستحق إلا السخرية منه.
ثم يتجلى الانزياح في شكل جديد بالنسبة للشعر الحلمنتيشي مع استخدام الشاعر الاستعارات المركبة التي تزخر بها القصيدة؛ فعلى سبيل المثال، يقول الشاعر: " سحابة أشعاري من الغيث أجدبت" استعارة الشاعر المركبة قوامها تصوير الأشعار مثل السحابة، لكن تلك السحابة أجدبها مطر الأشعار المعاصرة، على عكس المألوف والذي يقضي بأن المواظبة على كتابة الشعر تمنح الكاتب حذق وتجعله يمسك بتلابيب النظم.
وفي نفس البيت الشعري، يذكر الشاعر في الشطر الثاني استعارة مركبة قائمة على التقديم والتأخير، فيقول: " وفي الوحل أوهامي لقد غاص زورقي" الشاعر يؤكد هنا أن أشعاره كانت مجرد أوهام، وذلك السبب أن سحابة شعره أجدبت. ولو كان يستخدم زورقًا للإبحار به في وقت الغيث، فإن مآل هذا الزورق حاليًا هو الغرق في الوحل. التقديم والتأخير هنا يتضح عند ترتيب الجملة هكذا "لقد غاص زورقي في الوحل."
ثم يقارن الشاعر الأشعار الرديئة المنتشرة حاليًا، بأشعار المتنبي الغراء في الشطر التالي بقوله: " سقى الله أيامًا بشعرك أثمرت" فلقد جعل هنا الأشعار كالمطر الذي يروي الزروع، وبهذا حول الاستعارة لصورة ممتدة لارتباطها بالمعنى في السطر السابق. وأما ما يسقيه غيث الشعر ليس النباتات بل الأيام، مما يجعل القاريء يتخيل أيام مزهرة وارفة تتناقض وصورة الأيام الحالية الموحلة التي يغوص فيها زورق الشاعر. ويكمن جمال الصور في هذه القصيدة في كونها شديدة التعقيد وإن بدت بسيطة التركيب؛ فكلما أمعن المتلقي فيها، يكتشف معان جديدة تنقل الحالية الشعرية لشاعر ينعي أشعار الماضي الجميلة التي تحولت لرداءة تتناسب مع الألفاظ الصادمة لمفردات حديثة ساقها الشاعر لتوضيح ما يروم له من معاني.
ولقد بلور الشاعر فكرته في قوله " حمار مثقف / متى ننشد الأشعار يرفس وينهقِ" ليوضح انتشار طبقة من مدعي الثقافة الذين لا يفقهون شيئا عنها، بل يمجون كل ما هو طيب من أجل إعلاء الخبيث. ولتصوير ذلك استخدم التشخيص الدارج بتشبيه الشخص الغبي بالحمار، أما التجديد فكان تماهي ردود أفعال مدعي الثقافة مع رد فعل أي حمار عندما يمج أمر ما.
وتحليل القصيدة يوضح أن الشاعر "ياسر قطامش" من أهم المجددين في ذلك اللون الشعري؛ حيث أن تعقيد تراكب استعاراته أطفى على أشعاره طابع فريد جعلها تبتعد عن السطحية والدونية.
ومع التمعن في قصائد الشعر العامي وقصائد الشعر الحلمنتيشي الجيدة، يلاحظ أن ظاهرة الإنزياح الأسلوبي لا تقتصر فقط على أشعار اللغة العربية الفصحى، بل أن الأشعار العامية قد تجعلها تفتح أبوابًا جديدة للتعبيير، وأما الشعر الحلمنتيشي فلسوف يجعل الإنزياح الأسلوبي يحلق في آفاق جديدة وفريدة لأنه يغوص في الأسلوب الأدبي باستخدامه الفصحى وفي نفس الوقت يعبر عن العامة ويعبر عن رؤى العصر باستخدامه العامية.
نعيمة عبد الجواد