محمود سلطان - ياسمين عبد العزيز.. صوت شعري مفارق لاجترار "الصورة" و"المعنى"

اكتشفت، ربما في وقت متأخر، أن الكتابة "حرفة" ولكن الشعر "صنعة"، والاحتراف لا يعني "الموهبة" ولكن الاشتغال بمهنة، تدر رزقا حسنا.
ومع تنامي ظاهرة، المغامرة على اقتحام عالم السرد القصصي بنوعية "القصير والروائي"، بشكل قد يحيل إلى الاعتقاد بوجود ما يشبه "الهوس الجماعي" فإن هذه الظاهرة، أعادت، وبصمت، الهيبة إلى النص الشعري، الذي ضاق صدره، بإغداق الجوائز "المالية" على كتاب القصص، وعادة ما تستند إلى "فلاتر" لا علاقة لها بشروط العمل الإبداعي وإجازته.
ليس بوسع أحد إجادة كتابة الشعر، حتى لو كان في منزلة واضع علم العروض "الخليل بن أحمد ـ 718 م ـ 791 ".. ولكن القصة باتت مشاعا مباحا، سهلا ميسورا، بغض النظر عن إتقان اللغة بكل ثقلها من جمال ومجاز ورمز.. وما تطلبه القصة من "فني" معماري لا يكاد يكون موجودا بين ظهراني كُتًاب القصة في وقتنا الراهن.
ياسمين عبد العزيز، في ديوانها الجديد "قضى الحب الذي فيه تستفتيان" والصادر عن دار المصرية السودانية الإماراتية "، أدارت جدل العلاقة بين "المعنى" و"المبنى" بشكل مدهش وشديد الوعي، وبمسطرة الإحساس بأجواء النص، وبميزان لا يغمض حق أحدهما على الآخر، بل ربما تجمع بين الاثنين بمهارة دقيقة وعادلة.
تقول في قصيدتها "قضى الحب الذي فيه تستفتيان" التي تعتبر درة الديوان:

جاي لي وحروفة وارمة
والدموع عاملة التباس

تأملوا كلمة "وارمة".. في سياق الشطر: من سبق ياسمين عبد العزيز، في إبداع هذه الصورة لـ"الحروف"؟!.. وحمولتها من المعنى ودلالته الافتعالية.. والمبنى (جمال الصورة) وكيف غزلت منهما ضفيرة ناعمة تحمل حملا على تمايل رأس المتلقي مجذوبا في حضرة النص وغوايته.
في صدر القصيدة:

انتو عاوزين فتاوى ومهرجان؟!
انتو ليه عاملين لي دوشة من جنان
كل واحد منكو عارف
إن موج البحر جارف
والمحيط مليان حيتان
هي دي عاوزة فتاوي؟
عاوزة شيخ ياخد اتاوة
والا عضو في برلمان
احنا ليه دايما نعقد كل حاجة
رغم ان الحق واضح
ليه نجادل في سماجة
والدليل فخارة واضح
والحكاية فصحى جدا
ليه نروح للترجمان

هنا النص "تقريري" خال من "المبنى/ الجمال" وهذه لضروة المعنى الذي تريد ياسمين تثبيته في عقل المتلقي وإقصاء شوشرة المبني.. لمقتضيات الرسالة "النقد" و"السخرية" من هذا الواقع وتعريته وفضحه.
ومع ذلك لفت انتباهي الجمال في هذا الشطر:
"والدليل فخاره ناضح"
سياق شعري اختزل المثل "كل إناء ينضح بما فيه" باستدعاء صورة مغايرة ومفارقة تجنبت بها ياسمين السقوط في شرك "الاجترار" لمعاني ابتذلت وفقدت رحيقها وعبقها مع الاستخدام المتكرر بكل ما يعنيه من كسل وتثاؤب في إعمال القريحة والبحث عن "بديل" تلمع به الدهشة في عيون المتلقي.
اختفى "المبنى" هنا لصالح "المعني" كترتيب أولويات وترتيب "صفوف" بحسب مقتضيات الحالة الوجدانية.
في نصها "ماذا عساك".. تقول ياسمين:
ولا حد شايف لون اساك
ولا حد عارف صوت مساك
الكل عايش قصته
وانت الحروف متكرمشة جوه رؤاك
ماذا عساك

يا فتى
ماذا عساك
وحدك تحل المسالة
وحدك تعيش المشكلة
اوعاك
تراعي في دمعتك
لون المناديل الجميلة
ما يهمناش
غير انها تمسح دموعك
ما يهمناش لون الورق
ما كفاية خيبتنا الثقيلة
والليل يوزع في القلق
ما يهمناش الروج ولا المكياج

اصحى وفوق
وارشق على جبين الحياة
كل الحروق
عمال تفكر في الصور
اصحى .. وفوق
اكسر براويز القمر
واياك
تفكر في البشر
النص هنا من أشد نصوصها حميمية في مضمونه الإنساني، فضلا عن صدمة الصورة وجمالها :
" الكل عايش قصته
وانت الحروف متكرمشة جوه رؤاك
ماذا عساك"
وهو من النصوص التي تستدعي الصورة والمعاني المتدثرة بدفء المشاعر وينقل ضجيج وصخب الألم داخل حنايا نفوس تكتم الوجع وعتاب هامس للتجاهل والاتكاء إلى المجهول ريثما يأتي من يلقي بقاربه إلى يابسة النجاة.
الديوان يضج بشقاوة الحرف.. والسخرية اللاذعة، من شقاء الحب ومن واقع تتلبسه "المنظرة" والادعاء بالطهر الديني والنقاء الاجتماعي.
انطلقت ياسمين عبد العزيز، في صوغ نصوصها على إيقاع "الخبب" وبحور "الرمل" و"الوافر" و"الكامل" .. ولذا جاء ديوانها بموسيقى عالية سهلة الولوج إلى لوحة، استدعاء الدهشة وإنعاش الرغبة في الإنصات والسفر على غيماتها إلى حيث تريد وتنتظر.
اختيار البحور الأربعة ـ الخبب يعتبره النقاد إيقاعا وليس بحرا لخلوه من الأوتاد ـ جاء استجابة للتحول الحاد في ذائقة الجيل الذي تحمل ياسمين جيناته المزاجية، في ميله إلى إيقاع يناسب ما أصاب الحياة من سرعة وركض لا ينقطع مع عالمي النت والسوشيال ميديا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى