هدى قزع - قراءة في قصيدة الخريمي في رثاء بغداد

تنبني قصيدة الخريمي في رثاء بغداد من عدة لوحات تراكمية، تتفاوت من حيث الامتداد، والزمان ، والشخوص .
ويمكن أن تندرج هذه القصيدة من حيث الأسلوب تحت باب (السرد القصصي) ،إذ يتخذ الشاعر جماعة من الناس يروون ويصفون ما حلّ ببغداد.
وتتراوح بنية القصيدة بين جدليتي (الغياب والحضور) ، والقص الوصفي الآلي تارة والمشهدي الدرامي تارة أخرى.
ويمكن تقسيم المشاهد في هذه القصيدة على عدد من اللوحات هي:
أ_ وصف حال بغداد قبل الفتنة:
تمتد من الأبيات ( 1_ 6).
تقوم هذه اللوحة على جدلية الغياب والحضور ، والتي تتمثل في غياب الشاعر، وحضور جماعة من قومه ليصفوا حال بغداد .
وتتعمق هذه الجدلية حينما يعتمد القاصون الزمن الماضي ،في مقابل الحاضر المأساوي لبغداد، إذ كانت بغداد جنة بكل ما تحتويه من نعيم ، يلتذ به أهلها على اختلافهم.
ويطغى الغياب على هذه اللوحة ويظللها منذ مطلع القصيدة إذ بدأها بقوله (قالوا) وهذا فعل ماض في الزمن ، ومقطوع من حيث الإسناد لمعين ، إذ نتساءل من الذين قالوا؟ وأين الشاعر منهم؟
ويمتد الغياب حينما يرتبط أمر بغداد بالزمان بقولهم( لم يلعبِ الزمان ببغداد) ، بل وحينما
تُغَيَب بغداد بالضمير بقولهم (إذ هي مثل العروس) .
ويعتمد القاصون الزمن الماضي في روايتهم للحدث ، ذلك أن الأمرَ مرتبط بذكرى وماضي بغداد لا حاضرها إذ (قالوا ، درت خلوفُ الدنيا لساكنها، انفرجت بالنعيم، انتجعت فيها ، قلّ معسورها وعاسرها) كلها أفعال ماضية ترتد انعكاسياً للزمان المشرق لبغداد.
أما الصور فتارة تقوم على التجسيد بقوله (لم يلعب الزمان ببغداد) ،إذ جعل من الزمان المجرد ،كائناً حياً أضفى عليه سمات إنسانية هي(اللعب) .
وتارة أخرى قد تقوم على التشخيص إذ يشبه بغداد (المكان ) بالكائن الحي(العروس) وذلك ليضفي الحياة والبهجة على تلك المدينة.
وقد تنسجم الصورة مع البيئة فتنبني وفقاً لها كقول الشاعر (درت خلوف الدنيا لساكنها) فهذه الصورة تتواءم مع البيئة البدوية .
وفي مقابل هذه الصورة نجد تصوير النعيم واللذة في حواضر بغداد بقوله (انفرجت بالنعيم، انتجعت فيها بلذاتها حواضرها، فالقوم منها في روضة أنف ).
أما الإيقاع الموسيقي فهو متنوع ،إذ نجد الإيقاع الداخلي حاضراً من خلال الجناس ( تعثر /عواثرها ، عاسرها /معسورها) .
والتضاد (باطنها /ظاهرها) .
والترادف( جنة خلد /دار مغبطة) .
وكذلك الإيقاع الخارجي إذ اعتمد وزن المنسرح ،وقافية موحدة ،تقوم على الامتداد والسكون (ها) .
أما الألفاظ من حيث الحقول المعجمية فهي تقوم على التفاؤل (عروس ،جنة خلد ،دار مغبطة، نعيم ، لذات، روضة أنف) ،لأن الأمر مرتبط بوصف حال بغداد إبان ازدهارها في الزمن الماضي.
إذن قامت هذه اللوحة على الوصف الفوتوغرافي لبغداد في الزمن الماضي ، وهذا الوصف ينبني على السرد القصصي على لسان مجموعة شهدت الماضي المشرق لبغداد ،واستدعتها الحوادث المريرة والتغير الذي حلّ ببغداد لاسترجاع ذكرى المكان الطيبة.
وأما غياب صوت الشاعر في هذه اللوحة فلا نجد له مخرجاً سوى ،أن الشاعر تعمد إخراج نفسه من دائرة المهتمين ببغداد ،وكأن الأمر لا يعنيه .
ولا يكتفي بهذا بل نراه يبطن نوعاً من الشك من خلال ابتدائه القصيدة ب(قالوا ) ، وكأن الذي تتحدث فيه الجماعة ليس أكيداً .
وقد تتخلل بعض اللوحات أبيات حِكَمية ،يظهر فيها الراوي كأنه واعظٌ ،مثل قوله في البيت السابع:
من غَرَّهُ العَيش في بُلَهنيةٍ لَو أَنَّ دنيا يَدوم عامرها
وهو بهذه الحكمة يقر بحتمية الفناء والزوال ،وأن لا لذة تدوم .
وكأني به يتخذ من الحكمة دليلاً على تعميق الغياب مقابل الحضور.
ب_ وصف الخلافة في بغداد:
وهذه اللوحة تنقسم إلى قسمين :
1_الخلافة في قوتها (قبل فتنة الأمين والمأمون) :
وهي ممتدة في الأبيات(8_10).
وهذه اللوحة تقوم على السرد في الزمن الماضي إذ كانت بغداد قد ( رست قواعدها، وقرت بها منابرها، وشدّ عراها لها أكابِرُها ).
ويصف الشاعر خلفاء بغداد إبان قوة الحاضرة بأنهم :
(أهل العلا)________كناية عن الرفعة وعلو منزلتهم وسموها.
و(أهل ندى)_______كناية عن كرمهم وجودهم.
و(أندية فخر)______دليل على عزهم وقوتهم وأمجادهم التي يفتخر بها.
لقد كانت بغداد موطناً للملوك ، وهذا المُلْك كان يقوم على دعامات وأسس ثابتة هي لشريعة الإسلامية يدل هلى هذا قوله قوله:( وقرت منابرها) .
وكان خلفاء بغداد الأوائل قد مكنوا لغيرهم سبل الخلافة أما من جاء بعدهم ،فقد رسم الشاعر لهم صورة ،قلل من شأنهم فيها حين قال:( كأفراخ نعمى) .
والنعامة طائر لا يفارق الأرض ، دلالة على دنو منزلتهم وضعتها ، وفي مقابل تقليل الشاعر من منزلة بعض الخلفاء أعني ( الأمين) .
فإنه انتصر لبعض الخلفاء ومنهم ( الرشيد ،والمأمون)،إذ وصفهم (بالأكابر) ،و(أهل العلا) ...إلخ.
2_الخلافة في ضعفها(بعد فتنة الأمين والمأمون):
وهي ممتدة في الأبيات( 11_21).
يقوم هذا القسم على السرد في زمنين هما :الحاضر و الماضي.
من خلال وصفه حاضر الخلافة والخلفاء بقوله :
(يقدح في ملكها أصاغرها) :واستخدام الفعل يقدح بصيغته المضارعة يدل على استمرارية الفتنة بل واشتعالها بين الأمين والمأمون) .
و( حتى تساقت كأساً مُثْمِّلَةً): وقوله تساقت يظهر نوعاً من الرفض للخضوع أمام هذا الفرض والجبر ،فبغداد تأبى تلك السقيا ولكنها تجرعتها وذاقت مرارتها مرغمة ،فالفتنة أسكرتها .
وقوله (فتنة لا يُقالُ عاثرها): دليل على طغيان واستبداد هؤلاء الخلفاء دون رادع يزجرهم عن فعلهم ببغداد.
وقد يقترن هذا الوصف لبغداد ،بوصف الخلفاء أنفسهم في الزمن الحاضر إذ قال :
(الأَملاكَ ... لَم يَرُعها بالنصح زاجرها)، (َلَم تسافك دِماء شيعَتِها) ،(ما زال حوض الأَملاك يحفِره مسجورها بالهَوى وَساجِرها) ،( تَبغي فُضول الدُنيا مكاثرةً )،( تَبيع ما جمع الأبوّة لل أَبناء ).
أما ماحلّ ببغداد وأهلِها فيصفه السارد بالزمن الماضي إذ قال:
(حتى تساقت كأساً مُثْمِّلَةً)،و(واِفتَرَقَت بعد أُلفة شيِعاً مَقطوعَةً بَينَها أَواصرها)( حَتّى أُبيحَت كَرهاً ذَخائرها).
وأما اختياره للزمن الماضي للحديث عن بغداد فهو يشير إلى حنينه لهذا الزمن المشرق، وتأسفه وحسرته على ما حلَ ببغداد في الزمن الحاضر، الذي حاول الشاعر الارتداد به إلى الماضي علّ العدوى تنقل إليه ويتغير.
لقد قامت هذه اللوحة على ثنائية ضدية تعمق التحول والتبدل في الحال ،مثال ذلك قوله:
واِفتَرَقَت بعد أُلفة شيِعاً مَقطوعَةً بَينَها أَواصرها
وكثيراً ما اعتمد السارد الزمن الحاضر، لوصف حاضر بغداد ،الذي جعله مرهوناً بالسلطة السياسية( قوة وضعفاً).
وأما الألفاظ والتراكيب المستخدمة في هذه اللوحة فيلاحظ فيها الجرأة والتمرد على الواقع السياسي بقوله معبراً عن بعض الخلفاء( الأصاغر/فتية /أفراخ نعمى) وقوله (أَورد أملاكُنا نفوسَهُم هُوَّةَ غيّ أَعيَت مَصادِرُها)، (ما ضَرَّها لَو وفت بموثقها واِستَحكَمَت في التُقى بَصائِرُها) و(ما زال حوض الأَملاك يحفِره مسجورها بالهَوى وَساجِرها)، (تَبغي فُضول الدُنيا مكاثرةً ).
ويمتد هذا التمرد على الواقع السياسي حينما يعتبر الخريمي أن ما فعله الأمين ببغداد كان

ضرباً من المراهنة التجارية التي كان يبتغي من خلالها الدنيا من هنا عدّ فعله تفريطاً بما جمع الأبوة إذ قال:
تَبيع ما جمع الأبوّة لل أَبناء لا أُربحت متاجرها
وخلال هذه اللوحة نرى نوعاً من الحوارية ، إذ يتوهم الشاعر مُخَاطَباً ليخاطبه بقوله :
ياهل رأيت الأَملاكَ ما صنعت إِذ لَم يَرعُها بالنصح زاجرها
وفي هذا تهويل وتعجب لما فعله الأمين من قبح ،الأمر الذي يستدعي ضرورة ردعه وزجره، ويظهر هذا التهويل لفعل الأمين من خلال استخدامه لصيغة الجمع (الأملاكَ ما صنعت) (أورد أملاكُنا) .
وقد عبر الشاعر عن امتداد الفتنة من خلال استخدامه للفعل المضارع ، وأيضاً من خلال استخدامه ل (حتى) بقوله :
(حتى تساقت كأساً مُثْمِّلَةً)،(حتى أبيحت كرهاً ذخائرها) .
وهذا الحرف يدل على انتهاء الغاية ، بمعنى أن بغداد أبيحت كرهاً ، ولم تجد من يحميها ويدافع عنها رغم طول الفتنة وامتدادها.
ج_عود على بدء:
1_وصف حال بغداد قبل الفتنة :
يمتد هذا الوصف على الأبيات ( 22_25).
ويبقى الحوار في هذه اللوحة مستمراً ،إذ يخاطب الشاعر مجدداً شخصاً وهمياً ،بقوله مكرراً :
يا هَل رأَيت الجِنانَ زاهِرَةً يَروق عَين البَصير زاهرها
وَهَل رَأَيت القُصور شارِعَةً تَكُنّ مثل الدُمى مقاصرها
وَهَل رأَيت القُرى الَّتي غرس ال أَملاكُ مخضرّةً دساكرها
في هذه اللازمة نجد أن الشاعر كان متعمداً تكرار فعل الرؤية بصيغته الماضية ،كنوع من الإلحاح على الذاكرة لتذكر الماضي المشرق لبغداد.
أو كنوع من السلوة (لنفس الخريمي) إذ كان الشاعر أعمى لا يبصر ،ولم يشاهد نعيم بغداد ،لذا قد يكون الأمر عنده سيان .
ويدل على ذلك تكراره للرؤية الحسية بالدرجة الأولى،مثل رؤية الجنان، والقصور ، والقرى المخضرة .
وقد أقر الشاعر بأزمته النفسية حينما قال :
يا هَل رأَيت الجِنانَ زاهِرَةً يَروق عَينَ البَصير زاهرُها
إذ قدم العين ، وأشار إلى أن التمتع بجنان بغداد الزاهرة محصور لدى المبصرين ، وهو بذلك يخرج نفسه مرة أخرى من دائرة الاهتمام بالقضية ، ونجده مضطربا دون القدرة على اتخاذ موقف محدد تجاهها.
أما الألفاظ المستخدمة في هذه اللوحة فهي محملة بدلالات إيجابية (جنان، قصور، قرى مخضرة) ، وذلك لأنها مرتبطة بماضي بغداد.
وقد تحول الشاعر في دلالة بعض الألفاظ ،فالأملاك في اللوحة السابقة كانت تحمل دلالات سلبة ،أما في هذه اللوحة فهي تحمل دلالات إيجابية بقوله :
وَهَل رأَيت القُرى الَّتي غرس ال أَملاكُ مخضرّةً دساكرها
مَحفوفَةً بالكروم وَالنخل وَالرَي حان ما يَستَقِلّ طائِرها
فالأملاك في هذه اللوحة هم الذين بنوا مجد بغداد وقصورها ،وثبتوا البنيان ،وأرسوا القواعد وغرسوا القرى،وقوله (مايستقل طائرها) يحيل بالدرجة الأولى إلى تعلق أهل بغداد بها ، وقد أشار لهذا التعلق من خلال دوام الطير فيها ، فالطائر لا يغادر المكان إلا إذا غادره أهله .
وقد أكثر الشاعر في هذه اللوحة من استخدام الألفاظ الدالة على العظمة والرفعة كقوله:
( قصور شارعة، القرى المخضرة، القرى العظيمة، القرى المحفوفة بالأشجار الممتدة كاكروم والنخل) .
وكل هذا دليل على عظمة بغداد في ماضيها وعلو شأنها عند أهلها.
2_وصف حال بغداد بعد الفتنة :
يمتد على الأبيات ( 26_ 31).
لقد انقطع الشاعر بالسرد إذ كان قد وصف بغداد حينما حلت بها الفتنة ،ثم وصفها قبل الفتنة ، ثم عاد مرة أخرى إلى وصف بغداد بعد الفتنة .
وهذا الانقطاع يشي بنوع من الاضطراب النفسي عند الخريمي ، بما يضفي اضطراباً تجاه موقفه من الأزمة .
واستخدم الشاعر في سرده القصصي الأفعال التي تعمق التحول والتبدل في المدينة بقوله :
(أصبحت خلايا) (أصبحت...قفراً) ،(أصبح البؤس ما يفارقُها إلفاً لها).
إضافة إلى استخدام الأفعال المضارعة لوصف حاضر بغداد المؤلم بقوله:
(تعوي الكلاب بها)___كناية عن خلو المكان ومفارقة أهله له ،والوحشة.
(ينكر منها الرسوم زائرُها)_____يشير إلى التغير الشديد الذي حلّ ببغداد ، لدرجة أن الزائر لا يعرفها وينكر أن تكون هذه بغداد التي عاش فيها وعاينها.
أما قوله (زائرها) فإن استخدامه لصيغة المفرد دليل على قلة الزوار لبغداد، وهذا يدل على أن الأمن فارق المكان ،وأن أهل بغداد قتلوا وتفرقوا شيعاً بعدما حلت الفتنة في ديارهم ويدل على هذا وصفه (أصبحت خلايا من الإنسان أدميت محاجرها) .

ويكمل الشاعر وصفه لحاضر بغداد بقوله :
وَأَصبَحَ البؤس ما يُفارِقُها إِلفا لَها وَالسُرور هاجرها
وفي هذا الوصف تعميق للأسى والحزن على حال بغداد ودلالة على الظلام والوحشة التي خيمت على المكان ، وقد اعتمد الشاعر المقابلة بين حالين :
(البؤس ما يفارقها /السرور هاجرها).
وهذا البؤس لم يطل بغداد وحدها ،وإنما امتد إلى أنحاء ذكرها الشاعر( الزَنْدَوَرْد) و(الياسرية) و(الشطين) و(الرحى) ،و(الخيزارنية) و(قصر عبدُوَيْه).
هـ_ الوقوف على أطلال بغداد:
تمتد هذه اللوحة من الأبيات ( 32_45) .
في هذه اللوحة يقف الخريمي على اطلال بغداد متسائلاً كما تساءل من قبله الشاعر الجاهلي حينما وقف على الأطلال بعد وحشة المكان ومغادرة أهله له ، فيتساءل مراراً وتكراراً دون مجيب ، يتساءل (عن حراسها وحارسها، ومجبورها وجابرها، وحشوتها ،وسكانها ،وعن الجيوش ، والنساء (الظباء الأبكار) ، وحبورها وحابرها، ورقاصها ، وزامرها).
بمعنى أنه تساءل عن المدينة وحضارتها العريقة التي بناها أهلها الأمجاد .
ويستحضر الخريمي في هذه اللوحة جميع فئات المجتمع البغدادي ،من (ملوك ،وخدم ،وجنود ،ونساء ،وفتية، ورجال) ،وهو بهذا الاستدعاء يحاول استنهاض همم أفراد المجتمع على اختلافهم .
وهو بعد ذلك يستدعي (قصة أصحاب الفيل) (وقصة قوم عاد) ، مؤكداً على ما حلَ بهم من عذاب جزاء طغيانهم وتمردهم ،وقد وفق باستخدامه لهذا التناص الذي يبطن خلفه حقداً على أهل بغداد الذين يوازيهم بالطغاة .
وقد أضفى التكرار للتساؤل بالأداة (أين) عن بغداد وأهلها وحضارتهم العميقة ،نوعاً من المشاركة الوجدانية من قبل الشاعر تجاه ما حلَ ببغداد ،على خلاف اللوحات السابقة التي وجدنا الشاعر فيها متجرداً عن أي مشاركة .
مع الاحتراس أن هذه المشاركة لم تظهر بشكل جلي ، وقد جاء الإيقاع في هذه اللوحة سريعاً من خلال التجانس بين الألفاظ بقوله :
(حراسها/وحارسها) و(مجبورها /وجابرها ) (حابرها /ومحبورها).
وقد يشير هذا إلى أن وقوف الشاعر ومشاركته النفسية لم تطل ،أو يدل على وحشة المكان بما لا يحفز البقاء فيه طويلاً.
وأما الصور التي استخدمت بهذه اللوحة فمنها:
_الصور الإشارية : من خلال استخدامه لأسلوب الكناية وهو يعبر عن النساء إذ قال الظباء الأبكار.
_الصور البيانية( التشبيهية) : يظهر هذا النوع من الصور حينما كان يصف الخريمي بغداد والتحول الذي طالها إذ قال :
(أمست كجوف الحمار...خالية) :فقد شبه الخريمي بغداد بعدما خلت من أهلها ،وأصبحت موحشة ينكرها أهلها بجوف الحمار ،ووجه الشبه هو (الظلام والوحشة) ،وقد تعمد الشاعر وهو يرسم الصورة أن تكون منفرة ليظهر التغير الذي حل بالمكان فقال (كجوف الحمار)، والذي عمق هذا التغير والوحشة قوله (أمست) فهو في تعبيره عن التحول في الأبيات السابقة كان يقول (أصبحت) إلا في بيت (44)فقد قال:
أَمسَت كَجَوفِ الحِمار خاليَةً يُسَعِّرها بالجَحيم ساعرها
وقد تخلل اللوحات أبيات حكمية تظهر ممتدة في الأبيات ( 45، 46، 47، 48)،ويركز الشاعر فيها على معنى هو :
_إن النفس لا تدري بالحوادث التي قد يباغتها الدهر بها .
وقد استخدم الشاهر أسلوب التضاد في التعبير عن هذا المعنى بقوله ( تضحي/ وتمسي) و(يبايتها ويباكرها) و(محنطها وباقرها).
وفي ذلك إشارة إلى سلطة الدهر ،وقدرته على التحويل والتبديل ،ويعمق هذه السلطة حينما يستعير الأسهم للدهر ، تلك الأسهم التي يصيب بها من يشاء من الأنفس.
و_ العقاب الإلهي لمدينة بغداد (الجزاء من جنس العمل):
تمتد هذه اللوحة من البيت (49) إلى البيت (57).
يظهر الخريمي في هذه اللوحة متجرداً من المسؤولية والشعور تجاه ما حلّ ببغداد ،ويقتصر دوره على مجرد الوصف لبغداد وأهلها ، وهذا الوصف يظن من يقرؤه للوهلة الأولى أنه قد جاء على لسان عدو ،لما يظهر فيه من التشفي من العرب والمسلمين، إذ يرى الخريمي أن الله أمهل بغداد ثم عاقبها لما أحاطت بها كبائرها .
ويقر بأن ما حلّ ببغداد هو عقاب إلهي ،جراء معاصي أهلها والسوء الذي طالع بغداد من مطالعها .
ولم يقتصر هذا التشفي على مجرد الوصف ،وإنما يظهر كذلك بقوله :
كَم قَد رَأَينا مِن المَعاصي بِبَغدا دَ فَهَل ذو الجَلال غافِرُها
وكأني به يقول إن ذنوب بغداد وأهلها لا تغتفر ،وأنها تستحق العقاب الذي حلّ بها ،وهو عندما قال(كم قد رأينا من المعاصي ببغداد) ،أراد الاستفزاز للمسلمين ، وقد حاول أن يكون هذا الاستفزاز مرتبطاً بالجانب الديني بالدرجة الأولى حيث قال :
(رقّ الدين) ،و( استخف بذي الفضل)، و (عزّ النساكَ فاجرُها) ،و(صار ربَّ الجيران فاسقُهم)، و(ابتز أمر الدروب ذاعرها).
وبالجانب الاجتماعي بالدرجة الثانية:
إذ خطم العبد أنف سيده ، واستعبدت الحرائر.
وكذلك نلحظ أن الألفاظ التي وظفها الشاعر للتشفي كانت مرتبطة بالجانب العقائدي من مثل: (كبائر، معاصي، سوء ،حرائر ،فاجر، فاسق ،ذاعر ).
كنوع من الاستفزاز ورسم صورة سلبية للمسلمين عامة وأهل بغداد خاصة .
ويمكن القول أنه في هذه اللوحة نزعة شعوبية واضحة.
ي_ تبرير جرائم الحرب:
الأبيات (58_ 105)
1_ وصف دخول جنود الطاهر والمأمون لمدينة بغداد:
الأبيات من(58_69):
وصف الخريمي دخول جنود الطاهر ،وتطويقها للمكان ، والخيول المستعدة للقتال ،والقادة الذين يديرون الحرب.
دونما أي اعترض منه ، وكأنه يسوغ لهؤلاء اقتحام المدينة .
فبغداد محفوفة بالردى ،ومحصورة جبابرها ، فالفتنة فيها مشتعلة ،والصراع فيها متؤجج والنيران أحاطت بغداد من كل اتجاه ،و الخيول نافرة.
وكذلك يصف الشاعر أبسط الدقائق فيذكر الوسائل التي اتبعها جيش الطاهر لتدمير بغداد من (حرق ، وهدم ،و نهب) .
2_وصف أثر الحرب على بغداد ونواحيها:
الأبيات( 70_ 82) .
صور الشاعر في هذه اللوحة تعطل مظاهر الحياة في مدينة الكرخ ، من خلال قوله( أسواقها معطلة) ، وكذلك نجد الشاعر يقر مصرحاً دونما خفاء بأن كتائب الهرش لم تكن تبغي الرزق ولا العطاء ،وكأني به يسوغ ما قاموا به من تدمير وخراب.
وأبرز ما في هذه اللوحة الدقة في وصف أدوات الحرب التي دمرت بغداد كالمنجنيق ، والمقلاع الذي يزود بالصخر،والسيوف ،والخناجر .
وقد أظهر كيف أن خيرات بغداد (النفط) ،استخدمت لحرق بغداد وتدميرها من قبل كتائب الهرش.
وقد صوّر الخريمي كتائب الهِرش بأنهم كأسراب القطا دلالة على كثرتهم ،وانتشارهم بكل أنحاء بغداد.
3_ وصف أثر الحرب على أهل بغداد :
الأبيات (83_ 89) .
*أ ثر الحرب على النساء الحرائر:
في هذه اللوحة يركز الخريمي على الانتهاك ، الكشف لتلك الفئة ، ويدل عليه من خلال: _وصفه للنساء وقد أبدت خلاخيلها ____دلالة على الفزع وخروج الحرائر من بيوتها .
_تصويره النساء وقد كشفن النقاب عن وجوههن .
_تصويره بيضة الخدر المكنونة وقد برزت للناس وهي ناشرة لغدائرها ____دلالة على الرعب والفزع.
_تصويره الحرائر وهي تتعثر بأثوابها___دلالة على سرعتهن وتخبطهن بالمشي من شدة هول الحدث ،وفزعهن من ملاحقة الخيول لهن.
_تصوير الحرائر وقد أضعن الطريق وهنَ يحاولن الفرار من ألسنة النيران التي أحاطت بهن.
والشاعر يحاول استنهاض الهمم ولكنه لا يبدي مشاركة ذاتية ،تظهر موقفه أو اهتمامه .
ويتعمق الاستنهاض من خلال السؤال الذي تطرحه تلك النساء بقوله :
تَسأل أَينَ الطَريقُ والهةً وَالنارُ من خَلفِها تبادرها

إذن هذه اللوحة جسدت الانتهاك ،والكشف ، وفضح الستر ، وكذلك مثلت تواني أهل بغداد والرجال عن الدفاع عن أعراضهم .
وقد استخدم الشاعر في هذه اللوحة الألفاظ التي تدل على الظهور والكشف تعميقاً لصورة الانتهاك من خلال قوله ( أبدت خلاخيلها ، برزت للعيون ، برزت للناس ، نشرت غدائرها ).
ويلحظ أن هذه الصورة قامت على الوصف الفوتوغرافي المحض.
*أثر الحرب على الثكلى :
الأبيات (90_ 94)
يتابع الشاعر في هذه الصور الوصف المباشر لما حلّ بالنساء ،ويتساءل :
يا هَل رَأَيت الثكلى مُوَلْوِلَةً في الطُرق تَسعى وَالجَهد باهرها
وهذه الصورة الوصفية تضج بالأصوات :
فالثكلى________مولولة.
والثكلى________تهتف بالثكل.
وهذه الثكلى إذ ترفع صوتها حزناً على ابنها الوحيد ، واستنجاداً بأحد السامعين لصرخاتها عله يأخذ لها بثأر وليدها .
فإن المفارقة تظهر حينما تختم هذه اللوحة بالسكون والموت ،إذ إن وليدها فارق الحياة، والذي قتله ( لا يخاف الثأر) ،إذ لا يوجد سامع لصرخة هذه المرأة المستنجدة قال :
غَرغَرَ بِالنَفس ثُمَّ أَسلمها مَطلولةً لا يُخاف ثائرها


*أثر الحرب على الفتيان:
الأبيات (95_ 100).
يصور الخريمي الفتيان وقد تعفرت وجوههم بالتراب ، ونهشتهم الكلاب ، وامتلأت أظافر الكلاب بدماء هؤلاء الفتية .
ويصفهم وقد داست الخيول على وجوههم وأكبادهم ،دلالة على الإهانة والمذلة التي لحقت بالفتيان .
ولم تبدأ هذه اللوحة بالتساؤل كغيرها من اللوحات ،وإنما قال :
وَقَد رَأَيت الفِتيان في عَرصة ال معرك معفورةً مناخرها
دلالة على التحقق والوقوع ،وتأكيداً على الذل والهوان الذي لحق أهل بغداد.
*أثر الحرب على النساء:
الأبيات ( 101_ 105) .
إن كان الشاعر في لوحة سابقة قد وصف حال النساء الحرائر ، فإنه هنا يوسع الدائرة لتشمل:(عقائل القوم ،و العجائز ،والعنس ، ونساء الأغنياء والفقراء).
وقد صور الشاعر النساء وهنّ تحت المنجنيق دلالة على الخطر الذي كان يحدق بهن ،وكذلك صورهن وهنّ شعث الضفائر دلالة على الرعب والفزع.
ويتجذر السلب والانتهاك الذي لاقته النساء في الحرب بقول الشاعر:
تَسأل عَن أَهلِها وَقَد سُلِبَت واتبُزّ عَن رأسها غَفائرها
وهذه موتيفة تتكرر هي وظلالها على امتداد القصيدة ،وهي تدل على التواني والتخاذل ، رغم هول المشهد الذي يسلب النساء كرامتهن وشرفهن.

رغم هذا الامتداد بالوصف للحرب وأثرها على كافة فئات المجتمع البغدادي ، لا نجد للشاعر أي موقف يتمثل بالرفض أو الاستنكار أو الاستهجان وكأنه يبرر للجيوش التي اجتاحت بغداد فعلها .
وقد استدرك الشاعر متأخراً ضرورة المشاركة بالمصاب الذي حلَ ببغداد بقوله :
يا لَيتَ شِعري وَالدَهر ذو دول يرجى وَأُخرى تَخشى بوادرها
هَل تَرجعن أَرضُنا كَما غَنَيت وَقَد تَناهَت بِنا مَصائرها
ولكن عاطفته تجاه بغداد مزيفة ،وكان يتخذ من الحِكم والوعظ ، رداءً ليخفي هذا الزيف، وفي بعض الأحيان ليخفي شعوبيته.
فهو وإن تمنى هنا بأن تعود بغداد كما كانت ، فإن هذا التمني لا ينسجم مع ما ظهر لنا على امتداد القصيدة من التشفي ، وإخلاء الذات من المسؤولية.
أما اللوحة الأخيرة التي اختتم بها الخريمي قصيدته فقد كانت :
_مدح الخليفة المأمون وذكر وزيره الفضل :
الأبيات (108_ 135) .
هذه اللوحة ممتدة ، وهي لا تنسجم مع موضوع القصيدة وقد أقحمها الخريمي في جسد القصيدة ، لأمر ما في نفسه ، لم يظهره ، وادعى أنه أراد النصح .
وقوله (تأتى للنصح شاعرُها) فيه نوع من التكلف ،وهو يقدم النصح ويؤخر حضوره الذاتي ،وذلك لأن ما حلّ ببغداد من مصائب وأوجاعه لا يستثير عاطفته الداخلية ، من هنا نراه يتستر برداء الوعظ والنصح لتحقيق مآربه من الخليفة المأمون الذي أسرف في مدحه إذ جعله:
_خير الولاة ، خليفة الله .
وادعى بأن كل الآمال تسمو إليه ،و كأنه يعلق الأمل بالتغيير على المأمون .
وهذه اللوحة مليئة بالمتضادات إذ قال :
برّها / وفاجرها .
نجديها/ وغائرها.
مأمورها /وآمرها.
أوائلها /وأواخرها.
وأراد الشاعر من خلال ذكره لكل هذه المتغايرات ، أن يقول إن المأمون بعدله وتقاه وبصيرته ، استطاع أن يوحد بين كل فئات المجتمع ،وقد تناسى الشاعر الهم الذي أصاب بغداد ، لدرجة أنه اعتبر ما حلّ ببغداد نعمة تستوجب الشكر بقوله :
فاشكر لذي العرش فضلَ نعمته أَوجبَ فضلَ المَزيد شاكرها
بل ويطلب منه ألا يرد المعركة بنفسه ، وكأني به يقول أن المأمون حقيق بالخلافة بشهادة الأمة جمعاء ، وأنه لا داعي لهذا الصراع ،ويؤكد هذا قوله :
وَأَنت سَرسورها وَسائسها فَهَل عَلى الحَقّ أَنتَ قاسرها
وقد وجه الشاعر للخليفة المأمون جملة من النصائح ، إذ دعاه لأن يحكم بكتاب الله ، وأن يمد الرحمة لعون الضعفاء ، وأن يعدل بين فئات المجتمع.
ويختم الشاعر قصيدته مدعياً بأنه لم يبتغي العطاء من المأمون ، وأن قوله هذا صدر عن نفس استدمجت مرائرها ففاضت بالقول والنصح ، الذي يتمنى الخريمي أن يظل حاضراً وأن ينقله أخا ثقة عن لسانه ويوصله لكافة الخلق إذ قال:
حمّلتُها صاحِباً أَخا ثقة يَظَلَّ عَجَباً بِها يُحاضرها

هدى قزع




أعلى