د. محمد الشرقاوي - من يحدّد معايير الواقعية في الأدب المغربي؟

أثارت مقالتي السابقة "سؤال مغربي بين الأدب وعلم الاجتماع" نقاشا محتدما، خاصة حول "الخبز الحافي" التي اعتبرها محمد شكري جزءا من سيرته الذاتية في مجتمع مغيّب في طنجة السفلى وحظيت بالترجمة إلى عدة لغات في العالم. واليوم، يعتبرها البعض رواية "تخدش الحياء"، وأن "دور الأدب هو التربية وسموّ الأخلاق"، فيما قال ثالث "لا يمكن أن تقرأها مع صديقك نظرا لمستواها الأخلاقي المنحط"، ولوّح رابع بأن "الواقع وثنُ بعض المثقفين". واستخف خامس بقوله "ماذا ستضيف الرواية للرصيد المعرفي للقارئ سواءا كانت خيالية أو واقعية؟!"
جاءت نصيحتي إلى هؤلاء وغيرهم بألاّ يمسكوا "الخبز الحافي" إلا بعد أن يأخذوا أربع جرعات من لقاح كورونا وستّ جرعات تقوية المناعة ضد خطر القراءة الواقعية. ويمكنهم أن يتأفَّفُوا طوال اليوم. وهذه الفئة من القراء تترقب ما يمكن اعتباره واقعية أخلاقية ومجاراة خط أفلاطون في تعقب ملامح المدينة الفاضلة، إلى حدّ أن انشغالهم بالأخلاقيات المنشودة يفوق انتباههم إلى مدى حرفية وأمانة الكاتب في نقل مشاهد وتجارب ذاتية ذات علاقة عضوية مع الواقع.
لكن آخرين من المعلّقين يتمسكون بأن "اتجاه الأدب الواقي لن يؤثّث اللغة بأدب الحياء المصطنع كي يجانب القارئ؛ بل بتغير لغة الشارع و الهامش كي يلدغ أصحاب الوقار والحشمة المنافقة ويدعوهم للعري اللغوي الواقعي كما يستعمله من يبيتون في العراء ويلتحفون السماء."
بغض النظر عن تباين الرؤى، هو نقاش مفيد في تحريك أكثر من استفهام حول مسؤولية كل من الكاتب الذي ينقل مشاهد معينة من واقع بئيس تختلط فيه المكارم والرذائل، والقارئ الذي يعتريه الغثيان أو الدّوار أحيانا من تلك المشاهد، وإن كانت جزءا من الحياة المعاشة التي تتجاهلها العيون والعقول.
هل ينبغي أن تكون الكتابة الأدبية معياريةً فقط بتجسيد "ما ينبغي أن يكون" بدعوى مراعاة الحشمة والذوق العام، أم واقعيةً بعدم القفز على تجارب حقيقية بغض النظر عن طبيعتها، على غرار ما كان يفعله فلوبير وإيميل زولا في فرنسا، ومكسيم غوركي في روسيا، ووليام دين هاولز ومارك توين في الولايات المتحدة؟
تكمن دلالة الكتابة الواقعية في أنها تجعل القارئ يجلس ويمشي ويتنفس رائحة المكان، وقد ينفذ إلى عينه وفمه بعض الغبار المتناثر في صخب الأحداث. هي واقعية تبدأ من الموقف القائل بإمكانية "اكتشاف الحقيقة من قبل الفرد بواسطة الحواس"، كما أوضح الناقد الأدبي وأستاذ الأدب الانجليزي في جامعة ستانفورد Ian Watt إيان واط في كتابه The Rise of The Novel "نهوض الرواية" الصادر عام 1957. وقد تتفرع واقعية الأدب إلى واقعية طبيعية، وواقعية نقدية، وواقعية اشتراكية، وواقعية ما بعد حداثية، وهذا حديث آخر.
هل يمكن أن تتجلى واقعية الأدب دون تمثيل الواقع، أو أن تحيد عن هدفها في إعادة إنتاج «الواقع الموضوعي»، كما قال أحد منظريها جول فرانسيه شامبفلوري. وهل نقبل أن الواقعية في حقيقتها، جمالا أو قبحا، لا تعمل بفرامل الكياسة والقياس، وإلا ينبغي تصنيفها في خانة أخرى. وهل يدري الذين يفترضون حمولة قيم أخلاقية في الكتابة الواقعية لماذا يزداد حرصهم على الأخلاق في المقام الأول؟ قد لا نتأمل بما يكفي الروافد التي تبلور ما نحمله من قناعات أخلاقية وبقية المقاييس المعيارية في منظومة ثقافية وسياسية محددة ننتمي إليها دون قراءة نقدية.
هل تكتمل مقومات الواقعية الأخلاقية المنشودة من قبل بعض القراء؟ أم نقبل بمفهوم النسبية الأخلاقية التي وإنْ تعززت في القرن العشرين، إلا أن جذروها تعود إلى الحقبة الإغريقية عندما أيدها كل من المؤرخ هيرودوت والفيلسوف بروتاغوراس، وشدت إليها أيضا انتباه أفلاطون نفسه في كتاب محاورة ثياتيتوس؟
كيف سنردّ على شكري وزفزاف والخوري إذا قاموا من قبورهم ليسألوا: هل تكتمل حياة "الصعاليك" إذا أصرّ بعض القراء على مراعاة الأناقة والحشمة والجمالية الأخلاقية والإنشائية المترفة؟!
وهل ستكون لدينا نحن المعارضين ردودٌ مقنعةٌ تقينا شرَّ اللغة "الزنقاوية" التي قد يتفوّه بها الخوري أو شكري ولن يعارضها حتما زفراف؟!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى