عتبة النص: ريح الحنون
- جنون العظمة
- جنون العادات
- جنون القبلية
- جنو القبيلة
للعنوان أهمية بالغة وتزداد هذه الأهمية من خلال الدراسات، باعتباره اللوحة الإشهارية التي تعرف لنا النص الطويل.
إن قراءة العنوان هي المرحلة الأولى التي نَعْبُرُ بها عوالم النص الطويل ولقد كتب جيرار جنيث في كتابه معمار النص عن العنوان باعتباره نصا صغيرا Micro texte يختزل النص الكبير..
ويقول أ. عبد الرزاق بلال:"إن المؤلَّف ( بفتح اللام) لا يمكن أن يقدم عاريا من هذه النصوص التي تسيجه،لأن قيمته لا تحدد بمتنه داخله" كتاب مدخل إلى عتبات النص
ويقول يوسف الإدريسي " إن العنوان يشكل ثاني عتبات النص بعد اسم المؤلف.....باعتباره مقطعا إيديولوجيا Un fragment idéologique " من كتاب عتبات النص في التراث العربي
فعتبة الرواية " ريح الحنون " جملة اسمية تتكون من خبر لمبتدأ محذوف تقدبره "هذه ريح الجنون" وعنوان فرعي " أو كما يتيه الوطن" استطاع الكاتب أن يبني خطابه من خلال هذه العتبة التي تفتح لنا واقع معاش في زمن القصة، والملفت في العتبة كلمة "ريح" والتي جاءت في القرآن الكريم تحمل الشر كقوله تعالى " مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" 117 سورة آل عمران.
ونذكر القارئ أن عدم وجود الترادف في القرآن الكريم أقر به أنصار هذا المذهب وعلى رأسهم
"أبي منصور الثعالبي، وأبي هلال العسكري ، وأحمد بن فارس ، وأبي الفتح، أن ليس لهذه الكلمة مرادفات تحمل المعنى المشار إليه سابقا.
كما يوجد في القرآن استعمال الألفاظ المتقاربة المعاني، مثل:
( زوج)، ( امرأة) لا على سبيل الترادف، وإنما بمجيء اللفظ مستقلا عن الآخر ص( 214)/ كتاب الإعجاز البياني في القرآن الكريم للدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
معمارية النص:
ما هو الحدث الذي تشظت منه القصة؟
يبدو للقارئ أن الحدث غير جلي في المشهد الأول، لكن السؤال المطروح " ما سبب خروج الراعي للعيش مع أغنامه بالجبل بعيدا عن المدينة؟
حاول الكاتب أن يبني النص من تراكمات الماضي التي تغذي الصراعات النفسية والمواجهات الحقيقية الدائرة في المدينة.
في بناء نظمي للقصة استطاع الكاتب أن يقدم لنا روايته بـــ باثنى عشر مشهدا معنونة وهذا ليس غريبا في الخطاب الروائي من منطلق عدة روايات عالمية كانت هندستها بهذا الشكل على سبيل الذكر رواية " دفاتر الوراق" للكاتب الأردني جلال برجس، ورواية "بذلة الغوص والفراشة" للصحفي الفرنسي جون دومينيك بوبي، والتي كتبها بالمشفى، حيث بدأ الكاتب روايته بالمشهد السيرة على الهامش/ الهروب/ العودة/ البيت الموعود/ رحلة العقل والقلب/ الانقلاب/ تيه الفراشات/ البحث عن حضن آخر / البحث عن عالم أفضل/ رقصة الطاووس / صراع الحيتان/في السجن / الوهن.
كانت أغلب عناوين المشاهد غير مباشرة حاول من خلالها أن يقسمها بين شخوص القصة فعلى سبيل المثال "السير على الهامش" سلط الضوء على الراعي والغريبان، أما مشهد " رحلة العقل والقلب" أخذ الحظ الأوفر "أسعد، مريم، وأبناؤها، أما في المشهد العاشر "الصراع مابين الحيتان" وهو ذروة الصراع مابين إبراهيم واسعد.
للإشارة أن الكاتب استعمل إحدى الفنيات لإتاحة وإظهار أبطال القصة ومن خلال هذه الفنية نعرف أهمية الشخصية في الرواية ونحدد شخصيات القصة مابين الرئيسية والثانوية في توزيع الشخصيات على كل مشهد في القصة.
شخصيات القصة :
تعتبر الشخصيات الروائية من صنع الكاتب، فالشخصية تلعب دورا هاما في بناء
الرواية باعتبارها العمود الفقري له إذ من خلالها تتكون الأحداث وتتشابك وتتضح الرؤى سواءً كانت شخصية رئيسية، ثانوية، ويميز المنظرون أو المنشغلون بمقولة الشخصية بنوعين هما: رئيسية وثانوية.
ولكتابة أي قصة من أي مصدر يأتي الكاتب بهذه الشخصيات ؟
بطبيعة الحال الواقع لا يملي علينا، بل يوحي إلينا ومن هنا تتوزع شخصيات الرواية كالآتي:
الراعي البطل أو الراوي/ الغريبان/السيدة مريم وزوجها أسعد، أبناؤهما علي وزوجته كريمة، رضا ، وسيم ، رقية/ الحاج إبراهيم صهر أسعد /الطبيب إلياس/ زينب زوجة أسعد الثانية وابنها الأستاذ الجامعي.
الشخصيات الرمزية: العربي بن مهيدي"، "ديدوش مراد"، و"مصطفى بن بولعيد رحمهم الله وأسكنهم فراديس جناته.
ملخص القصة
"ريح الجنون ، أو عندما يتيه الوطن" تبدأ هذه القصة بالراعي الذي يضيق به العيش بالمدينة وما يحدث فيها فيختار حياة البادية والجبل مع أغنامه ليعيش حرا طليقا بعيدا عما تخبئه المدينة من مظاهر الظلم والتعسف، يصادف غريبين رجلا وامرأة يزعجانه بنظراتهما لا يشبهان الأرض، يسخران منه ويستهزآن ليصبان غضبهما عليه دون أي سبب إلا أنه رسم منهاج حياته خارج ما تبتهج به المدينة أو أنه فضل حياة الرعي على سعير الصراعات، وفي وصف مؤلم لمشاعر القلق الذي انتابه ينقلنا الكاتب بأسلوبه الماتع الحزين المحمل بالإحباط إلى مشاعر الفقراء والمحزونين ممثلة في بطلة القصة السيدة مريم وما تتميز به من خصال حميدة .
تعاني هذه الأخيرة غبنا وقهرا كبيرين من زوجها أسعد ومن الناس وإبراهيم وما حل بها من مآسي وبالرغم من كل هذا الإحباط والانكسار التي مرت به هي وعائلتها مازالت تقاوم أوجه الظلم والاستبداد ولم ترض به.
اتهمت السيدة مريم بالجنون كما اتهم به الراعي بعد هروبها إلى الجبل لتلتقي بالراعي، الذي تعرف على السيدة مريم وكانا يشتركان في القهر والغبن المسلط فاتخذ الجبل ملاذا للحياة الهادئة.
كان اسعد يتوق إلى حياة جديدة بشرائه منزلا لائقا في أحد الأحياء الراقية يجمع فيه شمل أسرته بعد عودة السيدة مريم التي كان يتابعها الطبيب إلياس، إلا أن ظهر ذلك الرجل الأحدب الشرير الذي خلا بأسعد لينفث فيه سمومه وتتحول حياة العائلة إلى جحيم وتعاسة. ليظهر الابن الأكبر علي، خريج الجامعة المتزوج بكريمة ابنة رجل ميسور فيحاول لم شمل عائلتة من جديد بعدما تحول رضا من رياضي محترف إلى مدمن للمخدرات وساءت أحواله كنتيجة للإهمال بسبب مخالطته المنحرفين في غياب المسؤولية الأبوية.
أما وسيم، يفقد صوابه بعدما كان الشاب المثقف المطلع على كتب الفلسفة والأدب ليرمي بها جانبا ويميل إلى حياة الزهاد.
أما رقية، هي الخيط الناعم الذي يطرد اليأس من بيت العائلة والتي كانت طالبة جامعية تحفل بحياتها العاطفية مع أستاذ جامعي الذي أغرقها بالهدايا وكان يوصلها بسيارته رغم كل الشائعات والأقاويل التي ظلت تلاحقها.
في رحلة استذكارية من أرض الأجداد في إشارة إلى ما قدمه قوافل الشهداء من أجل هذه الأرض التي عاثوا فيها الفساد.
يقوم أحد الصحفيين بنشر مقال يكشف فيه جملة التلاعب والفساد مما يفقده وظيفته بسبب تدخل أسعد ليُلقى به في السجن.
يشتد صراع الحيتان بين أسعد والحاج إبراهيم حيث ينجر عنه حريق مهول بمصنع الحاج إبراهيم بسبب تهور أسعد في جمع أقاربه إشارة إلى فكرة القبيلة.
يُزج بهما داخل السجن وفيه يلتقيان بالأحدب الذي اعترف بكل التلفيق وما أحدثه من ضرر لأسعد والسيدة مريم، كما اعترف الحاج إبراهيم واسعد للظلم الذي ألحقاه بالصحفي وعائلته وإظهار نفوذهما في ضعفه.
وفي الأخير تعود الحياة إلى أصلها في الطيبة والجمال وأن الوطن يستحق التضحية التي قدمها هؤلاء الأبطال لينعم أجيالنا بكل ما هو جميل.
الرواية تعالج أمرا هاما وواقعيا في المخيال الجزائري بصفة خاصة والعربي بصفة عامة كقضية القبيلة والقبلية التي تحدث عنها بن خلدون في المقدمة وقضية الشائعة التي نخرت المجتمعات العربية من طرف الغرباء.
أراد الكاتب أن يقول أن الماضي له يد في مستقبلنا بسبب تاريخنا الذي كتب من غيرنا في قوله
" لم يشهد استشهادهم إلا العدو، هل كان أمينا في كتابة الحقيقة كاملة؟
"العربي بن مهيدي"، "ديدوش مراد"، و"مصطفى بن بولعيد" وغيرهم من الشهداء الأبرار، أم
أنها اندثرت مثل عظامهم النخرة؟
حسب دراستي للنص تعتبر رواية " ريح الجنون " من أدب المدينة أو كما يطلقون عليه ديستوبيا أو الواقع المرير وهو إما أن يكون مجتمع فاسد أو فاضل وقد ينعدم فيه الخير أو الشر، ومن أشهر كتاب هذه الروايات الكاتب القدير رحمه الله أحمد خالد توفيق
المنظور السردي:
نهتم في دراستنا لهذه الرواية من حيث المنظور السردي الذي يختاره الكاتب قبل التفكير في كتابة أي قصة، فيختار الشخصية وجهة النظر الأقرب إلى قلبه وسمعه ومن خلالها سيكتشف المتلقي وجود صوت مختلف عن باقي الشخصيات الأخرى، وهي الدليل على حضور المؤلف أو ما ينوب عنهما في النص كالراوي ويصعب الإمساك بهذه الشخصيات إلى بعد التركيز في متن الخطاب.
الراوي والمنظور في السرد الروائي
تتشكل أي بنية سردية في الخطاب الروائي من ثلاثة مكونات هي: الراوي، والحكاية، والمتلقي.
الراوي: هو الذي يروي الحكاية، سواء كانت حقيقة أم متخيّلة، كما لا يُشترط أن يكون اسماً معينا فقد يتقنّع بضمير ما، ليقوم بتشكيل القصة من الأحداث التي تقترن بأشخاص في إطارها الزماني والمكاني ولأهمية الراوي في الخطاب الروائي وموقعه الذي يتحدد به شكل الرواية العام.
وتختفي العلاقة بين الروائي والراوي، فيصبح الراوي لسانه، وسمعه وعينه الذي يرى به، كما يتحول (الراوي) إلى تقنية سردية يوظفها الروائي من خلال شخصية وجهة نظره.
ليكشف بعده الذاتي المختوم بوعيه وثقافته اتجاه القضايا التي يريد إيصالها إلى المتلقي.
إن فولتير أول من نادى بهذا المبدأ حين قال: "يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون: حاضر غائب". أو كما يقول المثل الشهير " إن القصة ليست للكاتب بل للشخصيات".
فمن بين النقاط التي طرأت على بنية القصة اختفاء الروائي نتيجة الموقف الذي حظي به الراوي من طرف النقاد والمبدعين وخاصة ما يلفت الانتباه في الروايات التجارية.
يقول أمبارتو إيكو في كتاب غابة السرد ص 35" إن الكتب التي تكتب بضمير المتكلم توهم القارئ أن الذي يتكلم في النص هو المؤلف.
إن الأمر ليس كذلك ، إن هذه الأنا هي أنا السارد، أو الصوت الذي يقوم بسرد الأحداث، ويثبت لنا ب . ك. وودهوز، هو الذي كتب بضمير المتكلم مذكرات كلب، أن هذا الصوت لا يمثل بالضرورة صوت المؤلف"
أختار الكاتب شخصية الراعي بدقة متناهية وهذا ينم عن ثقافة واسعة، فالراعي وهو الشخصية وجهة النظر ودون أن يذكر لها خلفية وهذا الأمر الذي سيلقى من خلاله بعض الصعوبات في اكتمال شخصية الراوي.
في دراسة لهذه الرواية تذكرت ما قاله الكاتب جوزيف أوكونور، في كتابه حرر نفسك من الموت في الفصل السابع ص 104 أن د. ه.أودين نظم فيها قصيدة بعنوان " الراعي الباروكي"
والذي بدوره أختار الفرار من المدينة..." ولم يتطرق فيها إلى موضوع الرعاة بل إلى تحديد هويته في هذا العالم الصناعي وهذا ناتج من المخاوف شخصية تتبع من ماضينا. كما تتفاقم المسألة من جراء مجتمعاتنا وزرعها الخوف في نفوسنا."
التقاء هذان النصان في حدث الهروب من المدينة مع اختلاف الأسباب فنص " ريح الجنون" كان السبب الخوف مما يضمره الإنسان اتجاه الآخر من شر وضغينة أما في قصيدة جوزيف أوكونور بسبب مخلفات الصناعة، والعود للحياة إلى الجبل والرعي هي الدعوة إلى الحياة الأصل.
استطاع الراوي بلغة سلسة أن يمنحنا الفورية التي ميزت الحديث بضمير الأنا من خلال الراعي إلا أنه واجه عدة عقبات أهمها:
- لا يمكن إدخال أي معلومات تملكها تلك الشخصية.
- من أكثر المخاطر في الكتابة بضمير " أنا" وهو أن " أنا" الخيالية تشعر بما تشعر به أنت والحقيقة عكس ذلك فضمير المتكلم يتطلب من الكاتب أن يكون أكثر موضوعية...ولهذا يجد الكتاب أن الكتابة بضمير المتكلم تحمل مخاطر عدة.
هذا من جهة.. فهل يستطيع الراوي " الراعي " أن يقدم لنفسه وصفا لتكتمل شخصيته لدى المتلقي ؟
بطبيعة الحال من غير الممكن وهذا ما نراه في المشهد الأول " السير على الهامش على لسان الغريبين" وقالت هي:
-هل هذا هو المجنون الذي حدثتموني عنه؟ الراعي المسكين...ما أتعسه !
يملك كل هذه الأغنام المنتشرة كالسحاب ولا يشتري
لنفسه ثوبا جديدا، وصابونا يزيل سواده الذي علا وجهه، ومرهم يداوي به تشقق قدميه الداميتين، كأرض أصابها جفاف بعد ارتواء..يا للعجب! " ص 10/11
حاول الكاتب بهذه التقنية الذكية أن يقدم وصفا للراوي وقد نجح فيه وبطريقة ذكية وهذه نقطة فارقة، لكن لم يقدم لنا خلفية شخصية الراعي " الراوي" وهذا ما يعاب على ضمير المتكلم "الأنا".
فأهمية الخلفية ضرورية في بناء الشخصيات ولتكتمل الصورة لدي القارئ، وتوظيفها يكون بطريقة مناسبة للحدث مع التنامي لأن الخلفية ضرورية وفي نفس الوقت تعيق المسار السردي أو الزمني في القصة إذا لم يحسن الكاتب توظيفها في النص بطريقة مقنعة على درجة من الذكاء للمتلقي.
كما أننا أحيانا نجد كلاما في المتن الخطابي ليس كلام إحدى الشخصيات ولا كلام الراوي، وإنما هو كلام الروائي/ الكاتب الذي تخفّى خلف الراوي وجاء بكلامٍ يستدعيه السياق والمناسبة.
مثل هذه الجملة على سبيل المثال وليس الحصر في قوله " عندما نرحل إلى أماكن شتى من العالم سنكتشف أثرا من الماضي و آخر من الحاضر، محاولين قراءة صور مختلفة لمن
أخذوا حصتهم من هذه الحياة، معذبين أو سعداء، عبيد أو نبلاء، مجانين أو عقلاء " ص 32 رواية "ريح الجنون"
وبما أن الراوي" الراعي " هو أحد شخصيات الرواية، يُقدم لنا ما يشاهده برؤية (ذاتية) ولذلك استعان بضمير المتكلم "أنا" ...هل تدخل الراوي في أحداث القصة؟
من النص يتبين لنا أن (الراعي أو الراوي الشاهد) هو راوٍ حاضر، لكن لا دخل له في الأحداث الدائرة بين شخصيات القصة، فيروي القصة من مسافة بينية مثل الكاميرا التي تنقل لنا ما يسمح نقله بأخذ في عين الاعتبار المسافات المسموح بها، فعندما يقول الراوي على سبيل المثال " قال أو قالت" فهنا في هذه الحالة المسافة يحددها السمع ويشير لها بالقرب، وهذا يتطلب مهارة من الراوي وإلا فقد عنصرا هاما في العمق مكتفيا بالسطحية.
ومن خلال ما سبق ذكره استطاع الراوي أن يقدم لنا ثلاث وظائف هامة وهي :
وظيفة الوصف: حيث قدم مشاهدا عديدة للأحداث والطبيعة والشخوص في قوله " يحمر وجهه ثم يذبل مثل شقائق النعمان، وهو مطأطئ الرأس ليبدأ عملية التنظيف المنهكة التي تستغرق وقتا طويلا جدا" ص 37 رواية " ريح الجنون"
وظيفة التأصيلية: قام الراوي بتأصيل روايته في الثقافة العربية والتاريخ والاجتماع، وجعل منها أحداثاً للصراع الداخلي، حيث ربطها بوصايا الثورة المجيدة ومآثر الأخلاق وما يجب أن تكون عليه المدينة وهنا يشير إلى الجزء ويريد الكل المتمثل في الوطن.
وظيفة التوثيقية: حاول الراوي أن يوثق أحداثا من خلاله وقد جمع مابين الواقع والتخييل الروائي على سبيل المثال في قوله " سترون أرض أجدادي وأجدادكم يا أولاد. هذه الطريق التي كان يسلكه جدكم....." ص/33 رواية "ريح الجنوب"
تشكيل نص رواية " ريح الجنون":
يتميز النص الأدبي عن باقي الخطابات النثرية في كثير من السمات ولا يمكن تصنيفه نصا أدبيا إلا إذا تحققت فيه جملة من هذه السمات وسنطبق بعضا منها استدلالا وليس حصرا.
القصدية intentionality :
ماذا يريد الكاتب أن يقول للمتلقي من خلال فكرة القصة؟
حاول الكاتب أن يكشف التناقضات الاجتماعية التي لم يطق العيش في وسطها، فذكر المدينة وربطها بالقبيلة بسبب ما يحدث فيها من صراعات قبلية، وذكر التحضر وربطه بالقبلية، بهذه المفارقة وكأنه يريد أن يقول لنا برغم من كل ما وصل إليه العالم من تحضر إلا أننا مازلنا نعيش في القرون الغابرة..وحصر كل أوجه الألم في إذاية السيدة مريم وأعتقد أن الكاتب أسقط هذا الاسم على الوطن والصراعات الدائرة بداخله.
الموقفية situationality:
يقول ألبير كامو" نحن لسنا إله نرى الأشياء بحيادية"
يظهر موقف الكاتب جليا من خلال المشهد الأول " السير على الهامش" وعلى لسان الراوي المتمثل في شخصية الراعي، الذي ترك المدينة جراء ما يحدث فيها من صراعات لا خير فيها.
الإخبارية informativity:
"الواقع لا يملي علينا بل يوحي إلينا "...هل أراد الكاتب من هذا الخطاب أن يوجه المتلقي أو ليخبرنا من هذا الخطر العظيم؟
أستطاع الكاتب أن يوجه عدسته ويطلع المتلقي بالأحداث الحاصلة في المدينة ونتائجها بسبب تراكمات أودت بالنفور واليأس من الحياة في المدينة ليوخز القارئ وليس لتوجيهه قصد التعايش وقبول الآخر.
التناص intertextuality:
لو تمعنا في أي نص أدبي لكان يحتوي من التداخل مع غيره من النصوص سواء من حيث اللغة والأساليب البيانية أو من حيث الفكرة أو العاطفة وفي هذا الخطاب كان يميل أكثر إلى النص القرآني ميلا ظاهرا وهذا يعكس خلفية وثقافة الكاتب وعلى سبيل المثال:.
كالجبال الراسية ص 18
و إن أعطى وتصدق بالحسنى ص20
ألم يعلم بأّن الأرض لله يورثها لمن يشاء ؟ ص 39
حديثهم كسراب يحسبه الظمآن ماء ص 53
الإقتباس:
لم ينبس أحد ببنت شفة ص 64
لسان مبين ص 10
وفي النهاية " لا يحتاج الصالحون إلى قوانين تملى عليهم طريقة التصرف بمسؤولية.
أما غير الصالحين فإنهم يتجاهلون القوانين باستمرار"
أفلاطون
-------------------------------------
المصادر:
- كتاب مدخل إلى عتبات النص للكاتب عبد الرزاق بلال/ 2015
- كتاب عتبات النص في التراث العربي للكاتب يوسف الإدريسي/ 2015
- كتاب الإعجاز البياني في القرآن الكريم د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ط.7/2009
- مقال الراوي والمنظور في السرد الروائي د. الراحل محمد عزام ديوان العرب
- كتاب 06 نزهات في غابة السرد أمبرتو إيكو ترجمة سعيد بنكراد / 2005
- رواية "ريح الجنون" أو عندما يتيه الوطن دار خيال /2021
بقلم رحو شرقي - معسكر /الجزائر
- جنون العظمة
- جنون العادات
- جنون القبلية
- جنو القبيلة
للعنوان أهمية بالغة وتزداد هذه الأهمية من خلال الدراسات، باعتباره اللوحة الإشهارية التي تعرف لنا النص الطويل.
إن قراءة العنوان هي المرحلة الأولى التي نَعْبُرُ بها عوالم النص الطويل ولقد كتب جيرار جنيث في كتابه معمار النص عن العنوان باعتباره نصا صغيرا Micro texte يختزل النص الكبير..
ويقول أ. عبد الرزاق بلال:"إن المؤلَّف ( بفتح اللام) لا يمكن أن يقدم عاريا من هذه النصوص التي تسيجه،لأن قيمته لا تحدد بمتنه داخله" كتاب مدخل إلى عتبات النص
ويقول يوسف الإدريسي " إن العنوان يشكل ثاني عتبات النص بعد اسم المؤلف.....باعتباره مقطعا إيديولوجيا Un fragment idéologique " من كتاب عتبات النص في التراث العربي
فعتبة الرواية " ريح الحنون " جملة اسمية تتكون من خبر لمبتدأ محذوف تقدبره "هذه ريح الجنون" وعنوان فرعي " أو كما يتيه الوطن" استطاع الكاتب أن يبني خطابه من خلال هذه العتبة التي تفتح لنا واقع معاش في زمن القصة، والملفت في العتبة كلمة "ريح" والتي جاءت في القرآن الكريم تحمل الشر كقوله تعالى " مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" 117 سورة آل عمران.
ونذكر القارئ أن عدم وجود الترادف في القرآن الكريم أقر به أنصار هذا المذهب وعلى رأسهم
"أبي منصور الثعالبي، وأبي هلال العسكري ، وأحمد بن فارس ، وأبي الفتح، أن ليس لهذه الكلمة مرادفات تحمل المعنى المشار إليه سابقا.
كما يوجد في القرآن استعمال الألفاظ المتقاربة المعاني، مثل:
( زوج)، ( امرأة) لا على سبيل الترادف، وإنما بمجيء اللفظ مستقلا عن الآخر ص( 214)/ كتاب الإعجاز البياني في القرآن الكريم للدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
معمارية النص:
ما هو الحدث الذي تشظت منه القصة؟
يبدو للقارئ أن الحدث غير جلي في المشهد الأول، لكن السؤال المطروح " ما سبب خروج الراعي للعيش مع أغنامه بالجبل بعيدا عن المدينة؟
حاول الكاتب أن يبني النص من تراكمات الماضي التي تغذي الصراعات النفسية والمواجهات الحقيقية الدائرة في المدينة.
في بناء نظمي للقصة استطاع الكاتب أن يقدم لنا روايته بـــ باثنى عشر مشهدا معنونة وهذا ليس غريبا في الخطاب الروائي من منطلق عدة روايات عالمية كانت هندستها بهذا الشكل على سبيل الذكر رواية " دفاتر الوراق" للكاتب الأردني جلال برجس، ورواية "بذلة الغوص والفراشة" للصحفي الفرنسي جون دومينيك بوبي، والتي كتبها بالمشفى، حيث بدأ الكاتب روايته بالمشهد السيرة على الهامش/ الهروب/ العودة/ البيت الموعود/ رحلة العقل والقلب/ الانقلاب/ تيه الفراشات/ البحث عن حضن آخر / البحث عن عالم أفضل/ رقصة الطاووس / صراع الحيتان/في السجن / الوهن.
كانت أغلب عناوين المشاهد غير مباشرة حاول من خلالها أن يقسمها بين شخوص القصة فعلى سبيل المثال "السير على الهامش" سلط الضوء على الراعي والغريبان، أما مشهد " رحلة العقل والقلب" أخذ الحظ الأوفر "أسعد، مريم، وأبناؤها، أما في المشهد العاشر "الصراع مابين الحيتان" وهو ذروة الصراع مابين إبراهيم واسعد.
للإشارة أن الكاتب استعمل إحدى الفنيات لإتاحة وإظهار أبطال القصة ومن خلال هذه الفنية نعرف أهمية الشخصية في الرواية ونحدد شخصيات القصة مابين الرئيسية والثانوية في توزيع الشخصيات على كل مشهد في القصة.
شخصيات القصة :
تعتبر الشخصيات الروائية من صنع الكاتب، فالشخصية تلعب دورا هاما في بناء
الرواية باعتبارها العمود الفقري له إذ من خلالها تتكون الأحداث وتتشابك وتتضح الرؤى سواءً كانت شخصية رئيسية، ثانوية، ويميز المنظرون أو المنشغلون بمقولة الشخصية بنوعين هما: رئيسية وثانوية.
ولكتابة أي قصة من أي مصدر يأتي الكاتب بهذه الشخصيات ؟
بطبيعة الحال الواقع لا يملي علينا، بل يوحي إلينا ومن هنا تتوزع شخصيات الرواية كالآتي:
الراعي البطل أو الراوي/ الغريبان/السيدة مريم وزوجها أسعد، أبناؤهما علي وزوجته كريمة، رضا ، وسيم ، رقية/ الحاج إبراهيم صهر أسعد /الطبيب إلياس/ زينب زوجة أسعد الثانية وابنها الأستاذ الجامعي.
الشخصيات الرمزية: العربي بن مهيدي"، "ديدوش مراد"، و"مصطفى بن بولعيد رحمهم الله وأسكنهم فراديس جناته.
ملخص القصة
"ريح الجنون ، أو عندما يتيه الوطن" تبدأ هذه القصة بالراعي الذي يضيق به العيش بالمدينة وما يحدث فيها فيختار حياة البادية والجبل مع أغنامه ليعيش حرا طليقا بعيدا عما تخبئه المدينة من مظاهر الظلم والتعسف، يصادف غريبين رجلا وامرأة يزعجانه بنظراتهما لا يشبهان الأرض، يسخران منه ويستهزآن ليصبان غضبهما عليه دون أي سبب إلا أنه رسم منهاج حياته خارج ما تبتهج به المدينة أو أنه فضل حياة الرعي على سعير الصراعات، وفي وصف مؤلم لمشاعر القلق الذي انتابه ينقلنا الكاتب بأسلوبه الماتع الحزين المحمل بالإحباط إلى مشاعر الفقراء والمحزونين ممثلة في بطلة القصة السيدة مريم وما تتميز به من خصال حميدة .
تعاني هذه الأخيرة غبنا وقهرا كبيرين من زوجها أسعد ومن الناس وإبراهيم وما حل بها من مآسي وبالرغم من كل هذا الإحباط والانكسار التي مرت به هي وعائلتها مازالت تقاوم أوجه الظلم والاستبداد ولم ترض به.
اتهمت السيدة مريم بالجنون كما اتهم به الراعي بعد هروبها إلى الجبل لتلتقي بالراعي، الذي تعرف على السيدة مريم وكانا يشتركان في القهر والغبن المسلط فاتخذ الجبل ملاذا للحياة الهادئة.
كان اسعد يتوق إلى حياة جديدة بشرائه منزلا لائقا في أحد الأحياء الراقية يجمع فيه شمل أسرته بعد عودة السيدة مريم التي كان يتابعها الطبيب إلياس، إلا أن ظهر ذلك الرجل الأحدب الشرير الذي خلا بأسعد لينفث فيه سمومه وتتحول حياة العائلة إلى جحيم وتعاسة. ليظهر الابن الأكبر علي، خريج الجامعة المتزوج بكريمة ابنة رجل ميسور فيحاول لم شمل عائلتة من جديد بعدما تحول رضا من رياضي محترف إلى مدمن للمخدرات وساءت أحواله كنتيجة للإهمال بسبب مخالطته المنحرفين في غياب المسؤولية الأبوية.
أما وسيم، يفقد صوابه بعدما كان الشاب المثقف المطلع على كتب الفلسفة والأدب ليرمي بها جانبا ويميل إلى حياة الزهاد.
أما رقية، هي الخيط الناعم الذي يطرد اليأس من بيت العائلة والتي كانت طالبة جامعية تحفل بحياتها العاطفية مع أستاذ جامعي الذي أغرقها بالهدايا وكان يوصلها بسيارته رغم كل الشائعات والأقاويل التي ظلت تلاحقها.
في رحلة استذكارية من أرض الأجداد في إشارة إلى ما قدمه قوافل الشهداء من أجل هذه الأرض التي عاثوا فيها الفساد.
يقوم أحد الصحفيين بنشر مقال يكشف فيه جملة التلاعب والفساد مما يفقده وظيفته بسبب تدخل أسعد ليُلقى به في السجن.
يشتد صراع الحيتان بين أسعد والحاج إبراهيم حيث ينجر عنه حريق مهول بمصنع الحاج إبراهيم بسبب تهور أسعد في جمع أقاربه إشارة إلى فكرة القبيلة.
يُزج بهما داخل السجن وفيه يلتقيان بالأحدب الذي اعترف بكل التلفيق وما أحدثه من ضرر لأسعد والسيدة مريم، كما اعترف الحاج إبراهيم واسعد للظلم الذي ألحقاه بالصحفي وعائلته وإظهار نفوذهما في ضعفه.
وفي الأخير تعود الحياة إلى أصلها في الطيبة والجمال وأن الوطن يستحق التضحية التي قدمها هؤلاء الأبطال لينعم أجيالنا بكل ما هو جميل.
الرواية تعالج أمرا هاما وواقعيا في المخيال الجزائري بصفة خاصة والعربي بصفة عامة كقضية القبيلة والقبلية التي تحدث عنها بن خلدون في المقدمة وقضية الشائعة التي نخرت المجتمعات العربية من طرف الغرباء.
أراد الكاتب أن يقول أن الماضي له يد في مستقبلنا بسبب تاريخنا الذي كتب من غيرنا في قوله
" لم يشهد استشهادهم إلا العدو، هل كان أمينا في كتابة الحقيقة كاملة؟
"العربي بن مهيدي"، "ديدوش مراد"، و"مصطفى بن بولعيد" وغيرهم من الشهداء الأبرار، أم
أنها اندثرت مثل عظامهم النخرة؟
حسب دراستي للنص تعتبر رواية " ريح الجنون " من أدب المدينة أو كما يطلقون عليه ديستوبيا أو الواقع المرير وهو إما أن يكون مجتمع فاسد أو فاضل وقد ينعدم فيه الخير أو الشر، ومن أشهر كتاب هذه الروايات الكاتب القدير رحمه الله أحمد خالد توفيق
المنظور السردي:
نهتم في دراستنا لهذه الرواية من حيث المنظور السردي الذي يختاره الكاتب قبل التفكير في كتابة أي قصة، فيختار الشخصية وجهة النظر الأقرب إلى قلبه وسمعه ومن خلالها سيكتشف المتلقي وجود صوت مختلف عن باقي الشخصيات الأخرى، وهي الدليل على حضور المؤلف أو ما ينوب عنهما في النص كالراوي ويصعب الإمساك بهذه الشخصيات إلى بعد التركيز في متن الخطاب.
الراوي والمنظور في السرد الروائي
تتشكل أي بنية سردية في الخطاب الروائي من ثلاثة مكونات هي: الراوي، والحكاية، والمتلقي.
الراوي: هو الذي يروي الحكاية، سواء كانت حقيقة أم متخيّلة، كما لا يُشترط أن يكون اسماً معينا فقد يتقنّع بضمير ما، ليقوم بتشكيل القصة من الأحداث التي تقترن بأشخاص في إطارها الزماني والمكاني ولأهمية الراوي في الخطاب الروائي وموقعه الذي يتحدد به شكل الرواية العام.
وتختفي العلاقة بين الروائي والراوي، فيصبح الراوي لسانه، وسمعه وعينه الذي يرى به، كما يتحول (الراوي) إلى تقنية سردية يوظفها الروائي من خلال شخصية وجهة نظره.
ليكشف بعده الذاتي المختوم بوعيه وثقافته اتجاه القضايا التي يريد إيصالها إلى المتلقي.
إن فولتير أول من نادى بهذا المبدأ حين قال: "يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون: حاضر غائب". أو كما يقول المثل الشهير " إن القصة ليست للكاتب بل للشخصيات".
فمن بين النقاط التي طرأت على بنية القصة اختفاء الروائي نتيجة الموقف الذي حظي به الراوي من طرف النقاد والمبدعين وخاصة ما يلفت الانتباه في الروايات التجارية.
يقول أمبارتو إيكو في كتاب غابة السرد ص 35" إن الكتب التي تكتب بضمير المتكلم توهم القارئ أن الذي يتكلم في النص هو المؤلف.
إن الأمر ليس كذلك ، إن هذه الأنا هي أنا السارد، أو الصوت الذي يقوم بسرد الأحداث، ويثبت لنا ب . ك. وودهوز، هو الذي كتب بضمير المتكلم مذكرات كلب، أن هذا الصوت لا يمثل بالضرورة صوت المؤلف"
أختار الكاتب شخصية الراعي بدقة متناهية وهذا ينم عن ثقافة واسعة، فالراعي وهو الشخصية وجهة النظر ودون أن يذكر لها خلفية وهذا الأمر الذي سيلقى من خلاله بعض الصعوبات في اكتمال شخصية الراوي.
في دراسة لهذه الرواية تذكرت ما قاله الكاتب جوزيف أوكونور، في كتابه حرر نفسك من الموت في الفصل السابع ص 104 أن د. ه.أودين نظم فيها قصيدة بعنوان " الراعي الباروكي"
والذي بدوره أختار الفرار من المدينة..." ولم يتطرق فيها إلى موضوع الرعاة بل إلى تحديد هويته في هذا العالم الصناعي وهذا ناتج من المخاوف شخصية تتبع من ماضينا. كما تتفاقم المسألة من جراء مجتمعاتنا وزرعها الخوف في نفوسنا."
التقاء هذان النصان في حدث الهروب من المدينة مع اختلاف الأسباب فنص " ريح الجنون" كان السبب الخوف مما يضمره الإنسان اتجاه الآخر من شر وضغينة أما في قصيدة جوزيف أوكونور بسبب مخلفات الصناعة، والعود للحياة إلى الجبل والرعي هي الدعوة إلى الحياة الأصل.
استطاع الراوي بلغة سلسة أن يمنحنا الفورية التي ميزت الحديث بضمير الأنا من خلال الراعي إلا أنه واجه عدة عقبات أهمها:
- لا يمكن إدخال أي معلومات تملكها تلك الشخصية.
- من أكثر المخاطر في الكتابة بضمير " أنا" وهو أن " أنا" الخيالية تشعر بما تشعر به أنت والحقيقة عكس ذلك فضمير المتكلم يتطلب من الكاتب أن يكون أكثر موضوعية...ولهذا يجد الكتاب أن الكتابة بضمير المتكلم تحمل مخاطر عدة.
هذا من جهة.. فهل يستطيع الراوي " الراعي " أن يقدم لنفسه وصفا لتكتمل شخصيته لدى المتلقي ؟
بطبيعة الحال من غير الممكن وهذا ما نراه في المشهد الأول " السير على الهامش على لسان الغريبين" وقالت هي:
-هل هذا هو المجنون الذي حدثتموني عنه؟ الراعي المسكين...ما أتعسه !
يملك كل هذه الأغنام المنتشرة كالسحاب ولا يشتري
لنفسه ثوبا جديدا، وصابونا يزيل سواده الذي علا وجهه، ومرهم يداوي به تشقق قدميه الداميتين، كأرض أصابها جفاف بعد ارتواء..يا للعجب! " ص 10/11
حاول الكاتب بهذه التقنية الذكية أن يقدم وصفا للراوي وقد نجح فيه وبطريقة ذكية وهذه نقطة فارقة، لكن لم يقدم لنا خلفية شخصية الراعي " الراوي" وهذا ما يعاب على ضمير المتكلم "الأنا".
فأهمية الخلفية ضرورية في بناء الشخصيات ولتكتمل الصورة لدي القارئ، وتوظيفها يكون بطريقة مناسبة للحدث مع التنامي لأن الخلفية ضرورية وفي نفس الوقت تعيق المسار السردي أو الزمني في القصة إذا لم يحسن الكاتب توظيفها في النص بطريقة مقنعة على درجة من الذكاء للمتلقي.
كما أننا أحيانا نجد كلاما في المتن الخطابي ليس كلام إحدى الشخصيات ولا كلام الراوي، وإنما هو كلام الروائي/ الكاتب الذي تخفّى خلف الراوي وجاء بكلامٍ يستدعيه السياق والمناسبة.
مثل هذه الجملة على سبيل المثال وليس الحصر في قوله " عندما نرحل إلى أماكن شتى من العالم سنكتشف أثرا من الماضي و آخر من الحاضر، محاولين قراءة صور مختلفة لمن
أخذوا حصتهم من هذه الحياة، معذبين أو سعداء، عبيد أو نبلاء، مجانين أو عقلاء " ص 32 رواية "ريح الجنون"
وبما أن الراوي" الراعي " هو أحد شخصيات الرواية، يُقدم لنا ما يشاهده برؤية (ذاتية) ولذلك استعان بضمير المتكلم "أنا" ...هل تدخل الراوي في أحداث القصة؟
من النص يتبين لنا أن (الراعي أو الراوي الشاهد) هو راوٍ حاضر، لكن لا دخل له في الأحداث الدائرة بين شخصيات القصة، فيروي القصة من مسافة بينية مثل الكاميرا التي تنقل لنا ما يسمح نقله بأخذ في عين الاعتبار المسافات المسموح بها، فعندما يقول الراوي على سبيل المثال " قال أو قالت" فهنا في هذه الحالة المسافة يحددها السمع ويشير لها بالقرب، وهذا يتطلب مهارة من الراوي وإلا فقد عنصرا هاما في العمق مكتفيا بالسطحية.
ومن خلال ما سبق ذكره استطاع الراوي أن يقدم لنا ثلاث وظائف هامة وهي :
وظيفة الوصف: حيث قدم مشاهدا عديدة للأحداث والطبيعة والشخوص في قوله " يحمر وجهه ثم يذبل مثل شقائق النعمان، وهو مطأطئ الرأس ليبدأ عملية التنظيف المنهكة التي تستغرق وقتا طويلا جدا" ص 37 رواية " ريح الجنون"
وظيفة التأصيلية: قام الراوي بتأصيل روايته في الثقافة العربية والتاريخ والاجتماع، وجعل منها أحداثاً للصراع الداخلي، حيث ربطها بوصايا الثورة المجيدة ومآثر الأخلاق وما يجب أن تكون عليه المدينة وهنا يشير إلى الجزء ويريد الكل المتمثل في الوطن.
وظيفة التوثيقية: حاول الراوي أن يوثق أحداثا من خلاله وقد جمع مابين الواقع والتخييل الروائي على سبيل المثال في قوله " سترون أرض أجدادي وأجدادكم يا أولاد. هذه الطريق التي كان يسلكه جدكم....." ص/33 رواية "ريح الجنوب"
تشكيل نص رواية " ريح الجنون":
يتميز النص الأدبي عن باقي الخطابات النثرية في كثير من السمات ولا يمكن تصنيفه نصا أدبيا إلا إذا تحققت فيه جملة من هذه السمات وسنطبق بعضا منها استدلالا وليس حصرا.
القصدية intentionality :
ماذا يريد الكاتب أن يقول للمتلقي من خلال فكرة القصة؟
حاول الكاتب أن يكشف التناقضات الاجتماعية التي لم يطق العيش في وسطها، فذكر المدينة وربطها بالقبيلة بسبب ما يحدث فيها من صراعات قبلية، وذكر التحضر وربطه بالقبلية، بهذه المفارقة وكأنه يريد أن يقول لنا برغم من كل ما وصل إليه العالم من تحضر إلا أننا مازلنا نعيش في القرون الغابرة..وحصر كل أوجه الألم في إذاية السيدة مريم وأعتقد أن الكاتب أسقط هذا الاسم على الوطن والصراعات الدائرة بداخله.
الموقفية situationality:
يقول ألبير كامو" نحن لسنا إله نرى الأشياء بحيادية"
يظهر موقف الكاتب جليا من خلال المشهد الأول " السير على الهامش" وعلى لسان الراوي المتمثل في شخصية الراعي، الذي ترك المدينة جراء ما يحدث فيها من صراعات لا خير فيها.
الإخبارية informativity:
"الواقع لا يملي علينا بل يوحي إلينا "...هل أراد الكاتب من هذا الخطاب أن يوجه المتلقي أو ليخبرنا من هذا الخطر العظيم؟
أستطاع الكاتب أن يوجه عدسته ويطلع المتلقي بالأحداث الحاصلة في المدينة ونتائجها بسبب تراكمات أودت بالنفور واليأس من الحياة في المدينة ليوخز القارئ وليس لتوجيهه قصد التعايش وقبول الآخر.
التناص intertextuality:
لو تمعنا في أي نص أدبي لكان يحتوي من التداخل مع غيره من النصوص سواء من حيث اللغة والأساليب البيانية أو من حيث الفكرة أو العاطفة وفي هذا الخطاب كان يميل أكثر إلى النص القرآني ميلا ظاهرا وهذا يعكس خلفية وثقافة الكاتب وعلى سبيل المثال:.
كالجبال الراسية ص 18
و إن أعطى وتصدق بالحسنى ص20
ألم يعلم بأّن الأرض لله يورثها لمن يشاء ؟ ص 39
حديثهم كسراب يحسبه الظمآن ماء ص 53
الإقتباس:
لم ينبس أحد ببنت شفة ص 64
لسان مبين ص 10
وفي النهاية " لا يحتاج الصالحون إلى قوانين تملى عليهم طريقة التصرف بمسؤولية.
أما غير الصالحين فإنهم يتجاهلون القوانين باستمرار"
أفلاطون
-------------------------------------
المصادر:
- كتاب مدخل إلى عتبات النص للكاتب عبد الرزاق بلال/ 2015
- كتاب عتبات النص في التراث العربي للكاتب يوسف الإدريسي/ 2015
- كتاب الإعجاز البياني في القرآن الكريم د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ط.7/2009
- مقال الراوي والمنظور في السرد الروائي د. الراحل محمد عزام ديوان العرب
- كتاب 06 نزهات في غابة السرد أمبرتو إيكو ترجمة سعيد بنكراد / 2005
- رواية "ريح الجنون" أو عندما يتيه الوطن دار خيال /2021
بقلم رحو شرقي - معسكر /الجزائر