محمد شعير - الفقه.. سجينًا وسجانًا

هذا ليس عدلًا. هذا أمرٌ مربكٌ جدًا. كيف يمكن التعبير عن أفكار كتاب كبير فى مقال صغير؟!. والكتاب الكبير ليس بعدد صفحاته بل بعمق أفكاره، ولكن مهلا؛ من قال إن المقال ينبغى أن يُغنى القارئ عن الكتاب؟!. لماذا لا تقرأ بنفسك؟. لماذا لا تُجهَد وتَجتهد لتبحث فى أمور دينك؟. البحث والتفكر والقراءة هى أيضا عباداتٌ ستنال ثوابها؛ فالعبادة ليست فقط فى «عدّاد التسبيح»، أو رسائل الموعظة على «واتساب» و«فيسبوك»، التى تبشرك بملايين الحسنات المحسوبة بدقة، لو أعدت إرسالها!.
«سجن الفقه» هو عنوان كتاب جديد للباحثة شاهيناز وزير، تسعى من خلاله بشكل هادئ ورصين إلى تفكيك قواعد «سُلطة الشيوخ»؛ أصحاب الخطاب الأحادى، الذين اعتادوا انتقاء الآراء الفقهية التى يريدونها من الكتب، وتقديمها على أنها هى الدين وحدها. والآن؛ ماذا عنك أنت؟. هل أقلقك العنوان؟. «سجن الفقه»؟. إقرأ ولا تقلق. كن واثقًا فى عقلك؛ فالكاتبة تشجعك على أن تبحث فى دينك بنفسك، لكنها توضح لك: «نحن لا نقول لكل فرد: هيا اذهب واصنع دينًا جديدًا؛ بل: اذهب واعرف حقيقته بالاستماع إلى الجميع دون التقيد بمصادر معينة... البعض للأسف يتخيل أن المسلم - أو المسلمة- الذى يجتهد فى تفسير وفهم القرآن الكريم سيغلق على نفسه الباب ولن يفعل أكثر من قراءة الآيات وتخمين معانيها، وهذا خطأ... ولكن كل ما فى الأمر أنه لن يستسلم بشكل أعمى لآراء وتفاسير معدة سلفا لمجرد شيوعها أو شهرة ونفوذ أصحابها، وسيؤمن بحقه فى التنقل بين المصادر». هكذا تقول الباحثة، فهل فى ذلك ما يُقلق؟!.
ولكن من هى شاهيناز وزير حتى تفتى فى الدين؟!. أعرف أنك ستلقى الآن هذا السؤال فى وجهى ووجهها، استنادا إلى قاعدة «ألا يفتى فى الدين غير أهل الاختصاص»، لكن الباحثة ذاتها تتناول هذه القاعدة فى كتابها، وتصفها بأنها «كلمة حق يراد بها باطل». كيف؟!. هذا الباطل المُراد يكشف عنه الواقع المعيش؛ فالواقع يقول إن شيوخ السلفية المُفتين معظمهم لم يدرس فى الأزهر، فإذا كان الأمر لا يتطلب سوى البحث الذاتى والتبحر فى أمور الدين؛ فلماذا إذن يتم إبعاد المفكرين؟!. هذا سؤال منطقى للغاية. وهى تصل فى النهاية إلى أن الناس يثقون فى المتحدث إذا جاء كلامه متماشيا مع الرأى الدارج المنتشر فى أى مسألة، لكنهم ينبذون كل من يأتى برأى مختلف، سواء كان مفكرا حصّل العلم باجتهاد شخصى، أو حتى أزهريا حاصلا على شهادة الدكتوراة!.
وتشتبك الكاتبة فى معركتها العقلية الهادئة متسلحة بالنصوص الدينية ذاتها، فتفاجئك مثلا بأن لفظ «شيخ» لم يُذكر فى القرآن أبدا للدلالة على مكانة دينية، لتنتهى بعد تمحيص إلى أن «لقب الشيخ هو بدعة». ثم تخوض موقعة أخرى مهمة، بدت كمتتالية هندسية، أو مباراة «شطرنج» متأنية، حول فكرة «الإجماع» فى الفقه، فتتساءل عما إذا تحقق إجماع الفقهاء على رأى ما ثم تلاه إجماعٌ فى عصر آخر على رأى آخر كان يُعد رأى الأقلية؛ فبأى «الإجماعين» نأخذ؟!. وهل نكتفى اليوم فى قضايانا بالاستناد إلى «إجماعات» قرون سابقة؟!، لتصل فى النهاية - بهدوء حسابى محايد دون انفعال أو افتعال- إلى أن «الإجماع وهم».
والتناقضات العجيبة فى سلوك هذا التيار يكشفها الكتاب بنظرة فاحصة، بالأمثلة، نختار منها هنا مسألة إطالة ثوب المرأة وتقصير ثوب الرجل، فإذا كان التقصير لتجنب الأقذار والنجاسات؛ فماذا يكون الوضع بالنسبة للمرأة التى تجر ذيل ثوبها على الأرض؟!. وفى مثال آخر تقول الباحثة إنه لو خلعت فتاةٌ حجابها اليوم فإن أهلها قد يتبرؤون منها، أما لو كانت لا تصلى ولا تصوم وتكذب وتنافق؛ فإنهم قد يتصالحون مع ذلك؛ فأيهما أكثر أهمية؛ أن تتحجب المرأة، أم أن تصلى؟!.
أخيرا.. التقيتُ الكاتبة شاهيناز وزير، ودار بيننا حوار طويل. شكرتُها على جهدها واجتهادها، كما صارحتُها؛ قلتُ إن عنوان «سجن الفقه» أقلقنى قليلا فى البداية، ظنا أن الكتاب يعتبر الفقه كله سجنا أو (سجّانًا) ينبغى التحرر منه تماما، وهو تيار تُعبر عنه كتابات وبرامج بشكل حاد لا أتفق معه. لكنها ابتسمتْ وردّتْ بتساؤل ذكى: «.. ولماذا لا تقول إن الفقه ذاته الآن هو (السجين) وإنه بتنوعه الكبير وعدم تعصب الأئمة القدامى لآرائهم فيه أصبح يحتاج إلى التحرير من أيدى الشيوخ؟».
والآن، ماذا عنك أنت أيها القارئ الكريم؟!. هل ستظل - بقرارك- سجين أفكارك وشيوخك؟!. هل ستبقى خائفا من التعرض لأى شعاع نور يطل من نافذة محبسك؟!. أنت وشأنك، لكن أرجوك؛ على الأقل؛ لا تُزايد على إيماننا؛ فلا يشهد على القلوب إلا ربها، وانظر أنت ما تقول لربك غدًا!.


نُشِر في الأهرام بتاريخ 14 مارس 2018



1645814154995.png







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى