محمد عبدالله الخولي - عبقرية الصورة وشعرية التركيب قراءة نقدية في نص "بلقيس الهوى" للشاعرة وردة أيوب عزيزي

اللغة الشعرية التي تنسج من خيوط الإبداع الفني لغة متعالية، إذ "الشعرية" تنفخ في سكونية اللغة في مستوياتها السطحية، وترتقي بها إلى أبعاد أخرى دينامية الحركة، فاللغة التي تنتفي عنها "الشعرية" هي لغة ساكنة ميتة لا حياة فيها، وقد أشار إلى ذلك "رومان جاكوبسون" في حديثه عن الشعرية، ومن هنا تتجلى القدرة الإبداعية وتتمايز، فاللغة في حد ذاتها طيعة قابلة للتشكل على يد المبدع، حيث تتسع أرضيتها ومادتها الأولى، التي لا تستعصي على المبدع، بل اللغة تحتوي المبدع وتجربته مها علت هذه التجربة وتباينت، ولكن تبقى القدرة الإبداعية هي المعيار الذي يحكم به على شاعرية المبدع من خلال شعرية لغته، فما دامت اللغة تغرس نفسها نخلا في أرض الإبداع، فعلى المبدع أن يهز نخلته؛ لتساقط عليه رطب الشعر العلية.
ولذا تبقى الشاعرية المبدعة أساسًا لشعرية اللغة، فاللغة لا ترتقي إلى العوالم والأبعاد الأخرى بذاتيتها، ولكن من خلال مبدع واع يعيد تشكيل اللغة من خلال بنائيته النصية؛ فيخلق من اللغة أو للغة وجها جديدا، فالبصمة الإبداعية للشاعر هي التي تفتح أبواب اللغة لاستظهار عالمها الخفي، والذي يتجلى للشاعر الذي يمتلك القدرة على الدخول إلى تلك العوالم من خلال أدائيته التمثيلية، وقدرته على استنبات جمال اللغة بماء الشعر.
وقد استطاعت الشاعرة " وردة أيوب عزيزي" في نصها الموسوم بـ " بلقيس الهوى" أن تصل بالمتلقي لدرجة الدهشة، أو ما أسميه ب "رعشة التلقي" من خلال جمالية التركيب اللغوي خاصتها، وقد توزعت جمالية نص " بلقيس الهوى" ما بين تركبيبة اللغة، وجمال التصوير.
فالشاعرة تبتدئ نصها باستدعاء تاريخي لشخصية "بلقيس" والتي تخللت العنوان وتصدرت المشهد النصي كله، واستدعاء هذه الشخصية يستلزم أمرين: الصفة الملكية التي كانت عليها "بلقيس" والتي تدل وبالضرورة على العزة وبهاء سلطة الحكم، وربما كان استدعاء "بلقيس" هو استدعاء للنص القرآني وقصة "بلقيس" مع نبي الله "سليمان" عليه السلام- وهنا تختلف مضمونية المعنى المراد وفق كل استلزام تحيل إليه وعليه مفردة "بلقيس"، فاستدعاؤها من خلال النسق القرآني، هو استحضار للمشهد الأبرز في القصة، وهو رجوعها عن معتقدها الوثني، وخضوعها أمام نبي الله "سليمان" وتسليمه قياد أمرها. وقد أضافت "ورده أيوب"، "بلقيس" للهوى، وهي بذلك تنفرد بخصوصيتها الذاتية، والتي تنسحب عليها بلقيس سليمان بملابساتها وصفاتها، مع اختلاف مضامين القصتين، فثمة فارق بين هذه وتلك، فلكل بلقيس سليمانها، ولكل سليمان حكاية، فالملكة "بلقيس" التي خضعت لسليمان بنور نبوته، غير التي خضعت للهوى، ولكن كلتاهما خضعت، ولم يمنعها ملكها، وعرشها أن تتأبى على الهوى، إذ لكل بلقيس هواها، فبلقيس الأيقون التاريخي مالت وخضعت لنور النبوة السليماني معترفة بجلال الحق السماوي، أما بلقيس/ وردة أيوب، خضعت أمام محراب الهوى، فتقول:
"بَلْقِيسُ الهَوَى"
بلقيسُ إنِّي

في الهَوى لا أخدعُ
وطُقُوسُ عِشْقِي لاهِبَاتٌ تُولَعُ
بَلْقِيسُ حُبْلَى
في الهوى وتوددي
أبدا وصالي في المَحَبَّةِ يقطعُ
فالشَّمْسُ ثَكْلَى والنُّجُومُ حزينةٌ؛
والماءُ يبكي رَرْدَه يَتَضَوَّعُ
تستنزل "وردة أيوب" العنوان/ بلقيس، إلى النص حيث البداية كانت "بلقيس إني" الذات تعلن عن نفسها بقوة، مؤكدة بــ "إنَّ" أنها بقليس أخرى، لينتفي التشبيه الذي يتراءى أمام المتلقي، حيث تشبه نفسها بــ "بلقيس" ولكنها ترتقي على التشبيه من باب توحد الذات مع أخرى، لتوهم القارئ أنها بلقيس أخرى، تلك الــ"بلقيس" التي لا تخدع في الهوى، ولها طقوس عشقٍ "لاهباتٌ تولع" وكأنها تستحضر بلقيس مرة أخرى في النص من خلال التركيب اللغوي السابق "لاهبات تولع" فقد كانت "بلقيس" تسجد للشمس هي وقومها من دون الله، فيتم استدعاء صفة الشمس "لاهبات" وفعلها "تولع" ليكون استحضار بلقيس استحضارا لقصتها كاملة والتي تنسرب في النص من عنوانه حتى نهايته، وهذا سنراه لاحقا. فالشمس التي ذكرت صفتها، وتجلى فعلها، ظهرت حقيقة باسمها" فالشمس ثكلى" و "النجوم حزينة" استدعاء للشمس باسمها وصفتها وفعلها، وتذكر النجوم من باب المجاورة والتعانق المكاني/السماء، وتنسحب عليها أيضا صفة الحزن من خلال مفردة " ثكلى" التي وسمت بها الشمس، وعبر عبقرية هذه الصورة المدهشة وتركيبها الشعري الرائق والذي ينم عن اقتدار الشاعرة "وردة أيوب عزيزي"- والتي تناصت مع التاريخ والنصوص الدينية والأسطورية التي ذكرت قصة بلقيس بملابساتها وتباينها واختلاف مضامينها إذ تناول الكتب السماوية لهذه الشخصية، يختلف عن تناول الأسطورة لها، وقد استطاعت "وردة أيوب" أن تتناص مع كل هذه النصوص باستدعاء الشخصية "بلقيس" وثمة جهورية من المفردات تحيطها، ولكل مفردة معنى يحيل إلى مشهد من مشاهد القصة البلقيسية مثل " الشمس، لاهبات، تولع، النجوم، ثكلى، حزينة" ثم تأتي مفردة "الماء" مواجهة للهيب الشمس، تضاد بين قوتين: اللهيب/الشمس والماء، الشمس بقوتها الحارقة، والماء برقته وهو يبكي الورود وهي تضوع عبقا. مواجهة بين جلال الشمس، ورقة الماء، وهمس الورد.
حتى مفردة "السجود" والتي تعني الخضوع والاستسلام -إذ كل بلقيس تستسلم لهواها- تلك المفردة التي وردت في النص القرآني "رأيتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله" وبعد تجلي نورة النبوة غيرت وجهتها، وأيقنت، وآمنت بالله رب الغالمين. وكما تخلت بلقيس عن "شمسها"تتخلى "وردة أيوب" هي الأخرى عن شمسها، وتميل إلى رقة الماء، وهمس الورود، تتخلى عن الشمس وصفاتها وأفعالها؛ لتدخل عالم الماء" باسم الحب" تقف أمام نبوة الماء/الحب، كما وقفت الأخرى عاجزة أمام نبوة النور، ومن ثم دخلت محراب الماء/ الحب، وهي تسبح باسم الحب، ولم تكتفي الشاعرة "وردة أيوب" بذلك بل استدعت كتيبة من المفردات التي تؤيد دخولها محراب الحب مثل :" أرواحنا- سجدت- ليل العاشقين- أركع- جهرا- سرا" تلك المفردات التي شكلت صورا جزئية عن طريق المجاز وفي النهاية صدرت لنا مشهدا صوفيا لخلوة عاشق يعيش في عالمه الخاص ما بين "ركوع وسجود وتسابيح وصلاة" ، ثم تفجعنا الشاعرة بـ "توابيت النوى" فمن رقة الماء وهمس الورود وخلوة العاشق المتبتل، يفجعنا هذا التركيب بمفردتيه: [التوابيت- النوى] فالتوابيت جمع "تابوت" وهو سرير الموتى، وهذه الكلمة لا تحيل إلى على الحزن والفراق، وهذا ما أكدته مفردة "النوى" والتي تستغرقها نفس المعاني "الحزن البكاء الفراق" تقول " وردة أيوب" :
سبَّحْتُ..
باسم الحبِّ في أرواحِنَا
وَسَجَدتُ ليلَ العاشقينِ
وأركعُ..
جهرًا وسرَّاً
في توابيتِ النَّوى
وأُخِيطُ مِنْ دمع الهوى
وَأُرَقِّعُ
ومسحتُ دمعَ العينِ
ظُلْماً قاتِلاً
شَكَّاً يبيتُ وفي الضلوعِ
ويصرعُ
ناجيتُ روحكَ؛
والغيومُ تَلُفُّنِي
وسألتُ ظِلَّكَ هامسا
هلْ يرجعُ؟
توابيت النوى ذلك التركيب الذي فجعتنا به "وردة أيوب" بعد أن أدخلتنا خلوة العشاق، أخرجتنا منها، وتكشف أمامنا توابيت النوى في مشهد دراماتيكيٍ حزين، ولكن توابيت النوى تحلينا إلى الماضي إلى الذكرى، فالشاعرة هنا لا تحاكي حاضرا بل تستدعي ماضيا مازال يؤرق حاضرها، فهي تستدعي قصة حب سكنت توابيت النوى، وأصبحت في سديم الماضي، ولكن يظل للذكرى صدى يرن في فضاء القلب، حتى وإن سكنت توابيت النوى، فالشاعرة تستدعي "الغيم" وهو يلفها" والغيم هو الماء السائل أو المتجمد العالق في الفضاء بقوة تيار الهواء، مشكلات صورا متعددة في الفضاء تتراءى دائما أمام أعين الناظرين، ولكنه عندما يواجه شمس الحقيقة/ الموقف يتلاشى ويتناثر، ثم يعاود مرة أخرى فتطرده الشمس، وهكذاالذكرى تظل تعاود صاحبها، ولا تنفك عنه أبدا، تصيبه بالحيرة حينا وبالألم أحيانا أخرى، وتنتاب الذات فكرة العودة إلى وهج الشمس مرة أخرة "وسألت ظلك هامسا، هل يرجع". تعاود الذكرى "وردة أيوب" في هذا النص بكل تفاصليها، وكأنها تريد البراءة من ذنب ربما تسلل هاجسه إلى قلبها، فتعقد مقارنة بين الماء والشمس، بينها وبين المحبوب، فتقول:
آمنت أنَّكَ قِصَّتِي وغِوَايَتِي
وصلاةُ عشقٍ،
آيةٌ كم تشفعُ
وسكبتُ في ثغرِ القصيدةِ
أدمعي
وظَلِلْتُ أبحرُ في القصائدِ
أَدْمَعُ
وزرعتُ روحِي في كَنِيسَةِ روحِنا
وَفَرَشْتُ هُدْبِي للسكينةِ
أقرعُ
بابُ المودةِ
حبلها لا يقطعُ
وظللتَ أنت بذا الهوى
تَتَمَنَّعُ
تعقد" وردة أيوب" مقارنة بين فعل الماء ورقته، وبين وهج الشمس واستعلائها، الماء كناية عن ذات الشاعرة، والذي تناقص حتى صار "غيما" والآن تسكب ما تبقى من مائها/ذاتها في فم القصيدة لتستنطقها، القصيدة تتحد مع الذات، وتتوحد الذات بها، فكلتاهما تبكى الأخرى، فدموع القصيدة عين دمع الذات، التي آمنت واتخذت الشمس قصة لها اغتوت بها، ولكن رقة الماء لا يلائمها وهج الشمس، فالماء ينسرب يحتض الورود، يفترش صدر الأرض، وبه تزرع الذات روحها في "كنيسة" فاللفظ الكنسي هنا يحمل دلالة الإخلاص والفناء وفقا لمرجعيتها الثقافية والدينية، فالشاعرة زرعت نفسها في الكنسية، بما يشبه العقد الكاثوليكي، الذي لا ينفك فيه الزوجان عن بعضهما تحت أي ظرف من الظروف، ولكن المقابل/ الذات الأخرى تتأبى على ذلك العهد المقدس، ومن روعة التركيب الشعري -والذي تتمايز به الشاعرة "وردة أيوب" عن نظرائها وأترابها- استحضارها معاني السكنى والراحة -التي تجمع وتتمظهر جلية بين العشاق والمحبين- عبر مفردتي " فرشت- سكينة" فاللفظ الكَنَسِيُّ والذي نستقي من مرجعيته الدينية معاني الإخلاص والوفاء والقداسة، يتعامد مع السكنى والراحة وهما من متطلبات العلاقة التي تجمع بين كل حبيبين، وإن كان استدعاء لفظ "الكنيسة" من ين واستدعاء معاني الراحة والسكنى من دين آخر، فهذا يدل دلالة حفيىة على أن الأديان السماوية كلها غايتها الارتقاء بالعلاقة التي تنبني على الصدق والوفاء والقداسة؛ لتثمر راحة وسكنى ونعيما. ولكن تظل الذات الأخرى في حالة تمنع دائم، ولم تبدي رغبتها في الذات التي تتعشقها، ومن هنا تعلن الذات العاشقة رفضها، فـ "بلقيس" الملكة تتجلى فيها مرة أخرى دون خضوع واستسلام، ولكن تتجلى بلقيس هذه المرة وهي ترفع راية عزها فتقول:
هذا آوان
الهجر هيِّء رحلَنا
وامنعْ حواسَّكَ خلسةً
تَتَسَكَّعُ
وانصرْ على بابِ
المواجع رغبتِي
واتركْ سبيلكَ وُده ذا
يشفعُ
واذكر محاسن ودها يا سيدي
ومفاتنا تهواكَ بل تتمتعُ."
تعلن الذات عن موقفها الرافض، والذي يأتي نتيجة طبيعية لتمنع الذات الأخرى، فتعلن "وردة أيوب" هجرانها وانفصالها عن الذات، وتغلق سبيل العودة للأبد غلقا محكما لدرجة لا تسمح لحواس الذات الأخرى بالمرور في درب الهجران؛ استعطافاً لها. فــ" وردة أيوب" يشهد لها نصها "بلقيس الهوى" بقدرتها الإبداعية والتي تتجلى في استدعاء "بلقيس" تلك المفردة التي تحمل في ذاكرتها التاريخية مدلولات متعددة انسربت طواعية في بنية النص، متشكلة عبر عبقرية الصورة الشعرية، ودهشة التركيب اللغوي الذي يرتقي باللغة من سكونيتها إلى دينامية مفرطة تتشظى في أدائية التمثيل.

النص

"بَلْقِيسُ الهَوَى"
بلقيسُ إنِّي

في الهَوى لا أخدعُ
وطُقُوسُ عِشْقِي لاهِبَاتٌ تُولَعُ
بَلْقِيسُ حُبْلَى
في الهوى وتوددي
أبدا وصالي في المَحَبَّةِ يقطعُ
فالشَّمْسُ ثَكْلَى والنُّجُومُ حزينةٌ؛
والماءُ يبكي رَرْدَه يَتَضَوَّعُ

سبَّحْتُ..
باسم الحبِّ في أرواحِنَا
وَسَجَدتُ ليلَ العاشقينِ
وأركعُ..
جهرًا وسرَّاً
في توابيتِ النَّوى
وأُخِيطُ مِنْ دمع الهوى
وَأُرَقِّعُ
ومسحتُ دمعَ العينِ
ظُلْماً قاتِلاً
شَكَّاً يبيتُ وفي الضلوعِ
ويصرعُ
ناجيتُ روحكَ؛
والغيومُ تَلُفُّنِي
وسألتُ ظِلَّكَ
هلْ يرجعُ؟
آمنت أنَّكَ قِصَّتِي وغِوَايَتِي
وصلاةُ عشقٍ،
آيةٌ كم تشفعُ
وسكبتُ في ثغرِ القصيدةِ
أدمعي
وظَلِلْتُ أبحرُ في القصائدِ
أَدْمَعُ
وزرعتُ روحِي في كَنِيسَةِ روحِنا
وَفَرَشْتُ هُدْبِي للسكينةِ
أقرعُ
بابُ المودةِ
حبلها لا يقطعُ
وظللتَ أنت بذا الهوى
تَتَمَنَّعُ
هذا آوان
الهجر هيِّء رحلَنا
وامنعْ حواسَّكَ خلسةً
تَتَسَكَّعُ
وانصرْ على بابِ
المواجع رغبتِي
واتركْ سبيلكَ وُده ذا
يشفعُ
واذكر محاسن ودها يا سيدي
ومفاتنا تهواكَ بل تتمتعُ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى