استرعتْ انتباهي أمس تدوينةٌ مثيرةٌ ومصحوبةٌ بأغنية "راحلة" إحدى رائع الفن المغربي التي يغنّيها شريف عبدو من السجل الرفيع للرّاحل محمد الحياني. وأخذتني اللحظة بعيدا في تأملاتي وحسرتي على ما غدا ازدواجيةَ الشخصية، أو انتكاسةً فنيةً وإعلاميةً، نعايشها ونعانيها خلال العقود الثلاثة الماضية.
كتب الصديق محمد الأسمر يقول "أعتقد أن الأغنية الشبابية مجرد بدعة للإجهاز على ما تبقى من موروثنا الثقافي والفني، و مع كامل الأسف حتى التلفزيون المغربي انحرف عن مساره الذي رسمه الرواد من الجيل التليد… هل تظنون أن جميع المغاربة من هواة الكمنجة والركزة والكلمات الساقطة التي تمجها الآذان...؟! هذا احتقارٌ لذائقتنا الفنية." فجاء تعليقي بردّ مقتضب: "هناك السقطة الحرة، وهناك السقطة المنبطحة، وحال الفنون الغنائية يجسد اندحارا من قمة بارزة إلى أعماق واد مغمور."
عادت بي الذاكرة إلى أيامي الأولى في لندن، وإلى لقائين جمعاني مع الفنان محمد الحياني لترتيب مقابلة معه لبرنامج "كشكول المغرب" الذي كنت أقدمه في هيئة الإذاعة البريطانية BBC أو اختصارا "هنا لندن". كان محمد الحياني وقتها يقيم في لندن لعدة أشهر، ويقدم سهراته في "الرمال"، الملهى الليلي المعروف في شارع إدجوار رود، غير بعيد عن أكسفورد ستريت.
ضربنا موعدا ذات مساء في هذا المكان، ومنه انطلقنا نتمشى عبر الشارع الطويل إلى وسط لندن. كان الحياني يحكي لي كيف جاءت فكرة القدوم إلى عاصمة بريطانيا، وعن طبيعة الجو الفني وبعض التحديات، أو بالأحرى الإحباطات، التي كان يواجهها بين درب بوشنتوف في الدار البيضاء وحي أگدال في الرباط.
تكرر اللقاء بيننا، واقترح الحياني بعض الوقت لتحضير ذهنه للمقابلة. لكن شاءت الأقدار ألاّ يتم تسجيلها بسبب عودته إلى المغرب بعد فترة قصيرة، وساورني وقتها شعور رمادي ونوع من الاحتجاج النفسي: كيف لا يمرّ هذا الصوت الخالد على إذاعة بي بي سي، فينصت الجمهور العربي لقصة هذا الفنان "عندليب المغرب العربي"، وتجربته في الغناء بنفس شاعري رفيع وأنيق.
مرّت بضع سنوات، وإذا بي ذات يوم أشاهد على شاشة التلفزيون محمد الحياني وهو يتلقى العلاج داخل المستشفى ويرتدي طاقية بيضاء، ويتحدث إلى المراسلة بصوت خافت وفي عينيه مقاومةٌ وحرصٌ على الحياة. تجمّدتُ في مكاني للحظة وأنا أستعيد لقائينا في لندن، وإحساسي الداخلي يقول إن مثل هؤلاء الموهوبين لا تنصفهم الأيام، ولا يعاملون بما يستحقون في حياتهم.
أعيد اليوم نشر قصيدة "راحلة" في ذكرى هذا الفنان الشامخ ليس لقيمتها الغنائية فحسب، بل وأيضا لمستوى البناء الشعري والذوق الأدبي التي اكتمل بين شاعرية عبد الرفيع الجواهري، والاتساق اللحني بإيقاعات عبد السلام عامر، ورهافة حس محمد الحياني، وتم تسجيلها عام 1970:
وأنت قريبة
احن إليك
واضمأ للعطر
للشمس في شفتيك
وحين تغيبين حين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي
***
ويرحل صبحي تضيع...
تضيع حياتي تضيع
***
وحين تغيبين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي
ويرحل صبحي تضيع حياتي
***
ويشحب في اعيني الورد
و الداليات وتبكي
وتبكي العصافير
والساقيات
***
وهذا المساء
وحمرته من لظى وجنتيك
يحادثني الصمت في مقلتيك
ونظرتك الحلوة الذابلة
بأنك عن حينا راحلة
راحلــــــــــــــــــــــــــــــــــة
***
فهل يرحل الطيب من ورده
وهل يهرب الغصن من ظله
أحقا كما ترحل شمس هذا المساء؟
ترى ترحلين
وفي لهافاتي و لحني الحزين
يموت انشراحي
تنوح جراحي
وفي الحي في كل درب
سأرشف دمعي
سأعصر قلبي
***
و أنت بعيدة
بعــــــــيــــــــــــدة
لمن يا إلهة فني
لمن سأغنى
***
لمن سأغنى
لمن سأغنى
لمن سأغني؟!!!
كتب الصديق محمد الأسمر يقول "أعتقد أن الأغنية الشبابية مجرد بدعة للإجهاز على ما تبقى من موروثنا الثقافي والفني، و مع كامل الأسف حتى التلفزيون المغربي انحرف عن مساره الذي رسمه الرواد من الجيل التليد… هل تظنون أن جميع المغاربة من هواة الكمنجة والركزة والكلمات الساقطة التي تمجها الآذان...؟! هذا احتقارٌ لذائقتنا الفنية." فجاء تعليقي بردّ مقتضب: "هناك السقطة الحرة، وهناك السقطة المنبطحة، وحال الفنون الغنائية يجسد اندحارا من قمة بارزة إلى أعماق واد مغمور."
عادت بي الذاكرة إلى أيامي الأولى في لندن، وإلى لقائين جمعاني مع الفنان محمد الحياني لترتيب مقابلة معه لبرنامج "كشكول المغرب" الذي كنت أقدمه في هيئة الإذاعة البريطانية BBC أو اختصارا "هنا لندن". كان محمد الحياني وقتها يقيم في لندن لعدة أشهر، ويقدم سهراته في "الرمال"، الملهى الليلي المعروف في شارع إدجوار رود، غير بعيد عن أكسفورد ستريت.
ضربنا موعدا ذات مساء في هذا المكان، ومنه انطلقنا نتمشى عبر الشارع الطويل إلى وسط لندن. كان الحياني يحكي لي كيف جاءت فكرة القدوم إلى عاصمة بريطانيا، وعن طبيعة الجو الفني وبعض التحديات، أو بالأحرى الإحباطات، التي كان يواجهها بين درب بوشنتوف في الدار البيضاء وحي أگدال في الرباط.
تكرر اللقاء بيننا، واقترح الحياني بعض الوقت لتحضير ذهنه للمقابلة. لكن شاءت الأقدار ألاّ يتم تسجيلها بسبب عودته إلى المغرب بعد فترة قصيرة، وساورني وقتها شعور رمادي ونوع من الاحتجاج النفسي: كيف لا يمرّ هذا الصوت الخالد على إذاعة بي بي سي، فينصت الجمهور العربي لقصة هذا الفنان "عندليب المغرب العربي"، وتجربته في الغناء بنفس شاعري رفيع وأنيق.
مرّت بضع سنوات، وإذا بي ذات يوم أشاهد على شاشة التلفزيون محمد الحياني وهو يتلقى العلاج داخل المستشفى ويرتدي طاقية بيضاء، ويتحدث إلى المراسلة بصوت خافت وفي عينيه مقاومةٌ وحرصٌ على الحياة. تجمّدتُ في مكاني للحظة وأنا أستعيد لقائينا في لندن، وإحساسي الداخلي يقول إن مثل هؤلاء الموهوبين لا تنصفهم الأيام، ولا يعاملون بما يستحقون في حياتهم.
أعيد اليوم نشر قصيدة "راحلة" في ذكرى هذا الفنان الشامخ ليس لقيمتها الغنائية فحسب، بل وأيضا لمستوى البناء الشعري والذوق الأدبي التي اكتمل بين شاعرية عبد الرفيع الجواهري، والاتساق اللحني بإيقاعات عبد السلام عامر، ورهافة حس محمد الحياني، وتم تسجيلها عام 1970:
وأنت قريبة
احن إليك
واضمأ للعطر
للشمس في شفتيك
وحين تغيبين حين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي
***
ويرحل صبحي تضيع...
تضيع حياتي تضيع
***
وحين تغيبين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي
ويرحل صبحي تضيع حياتي
***
ويشحب في اعيني الورد
و الداليات وتبكي
وتبكي العصافير
والساقيات
***
وهذا المساء
وحمرته من لظى وجنتيك
يحادثني الصمت في مقلتيك
ونظرتك الحلوة الذابلة
بأنك عن حينا راحلة
راحلــــــــــــــــــــــــــــــــــة
***
فهل يرحل الطيب من ورده
وهل يهرب الغصن من ظله
أحقا كما ترحل شمس هذا المساء؟
ترى ترحلين
وفي لهافاتي و لحني الحزين
يموت انشراحي
تنوح جراحي
وفي الحي في كل درب
سأرشف دمعي
سأعصر قلبي
***
و أنت بعيدة
بعــــــــيــــــــــــدة
لمن يا إلهة فني
لمن سأغنى
***
لمن سأغنى
لمن سأغنى
لمن سأغني؟!!!