هل ترغبين أن نمشي قليلاً؟ من زمان لم أمشِ مع أحد في شوارع هذه المدينة، أقول للمرأة، جليستي الى طاولة المقهى، وراوية مصادفات لقاءاتنا الغريبة الآسرة في غموضها غير المتوقع. قبل أن تجيب، أسألها: من لبنان الى موسكو، ثم الى باريس، ألا تشعرين بأن لإسمك حيوات متغيرة، مستقلة وغريبة عنك؟ هل ظلّ وقْعُهُ عليكِ ثابتاً على حاله في هذه البلاد؟ سريعاً تجاوبني: أعشقُ اسمَكِ - ماريان - وقْعَه، أداءَه، ثباتَ إيحائه القوي الراسخ في سائر اللغات، الأقوى من اللغات، كنُصب رخامي لإله روماني. أحبّ أن يكون لي إسم لا يتبدل لفظُه كثيراً في اللغات المختلفة: نور، سارة، ريتا، لين... لكنني أشمئز من النساء اللواتي توحي لي بهن هذه الأسماء المغناجة، فأتخيلهن خُلِقْنَ ليكنَّ فتيات إعلانات، أو مقدمات برامج منوعات تلفزيونية. لا أطيق جسمي في مثل هذه الأسماء. هل لديكِ إسمٌ يناسبني؟
كلماتُها عن اسمي تثيرني، فأحدّق في عنقها المغروسة بجمود جذع شجرة قديم متين وسط كتفيها العريضتين العاريتين، وأسألها: هل نمشي؟ فتحمل عن الطاولة محفظتها المزركشة الحائلة الألوان، وتقف قائلة: نمشي... نمشي. ثم تتدارك محدّثةً نفسها: لكن سيارتَكِ... من زمان لم يصطحبني أحد في سيارته الخاصة في شوارع مدينة. تسبقني متجهة نحو مدخل المطعم، فأناديها باسم ريتا، أقترب منها وأسألها إن كان يعجبها لفظ هذا الإسم بصوتي. لكن غريبتي التي سمّيتها ريتا، تقول من دون أن تلتفت اليّ: منذ سنتين لم ارَ ابني المتوحد في لبنان. لقد تركته مع والده، زوجي اللبناني الوفيّ، المتزوج قبلي وبعدي، وها أنا تائهة في هذه الدنيا، أمشي فتكلّمني الظلال. وأنت - تسألني - ألا تكلّمك الظلال؟ هل تسمعين الآن ظلّك؟ أنا أسمعه يكلّمني... في طفولتي، مذ مشيت للمرة الأولى في مقبرة قبالة بيت أهلي في دمشق، أخذتْ تكلّمني الظلال. هل تعرفين دمشق؟ هل زرتها؟ هل تحبّين المشي ليلاً في المقابر؟
أتوقف عن المشي، ألتفت سريعاً الى وجه محدّثتي، فألمحه نحاسياً مشرقاً، وينبعث منه نور متجمد، قبيل تحوله سوداوياً حالكاً، كأن كلامها أضاء وجهها بذلك النور الذي انطفأ فجأة، من دون أن أنتبه في أيّ من اللغات تتكلم. مجرداً من اللغات يرتسم ما تقوله في مخيلتي، فتتراءى لي طفلةً في فستان أبيض تركض وسط ضباب فجر في مقبرة. فجرٌ كفجر المنتحرين، أو كفجر الذين يساقون الى الاعدام عند الفجر. انظري، انظري، تقول، تمدُّ يدها اليسرى أمامي، تقرّبها من وجهي، فأبصر على باطن معصمها وشماً للرقم 2011 في لون أقل سواداً من ذاك الذي يلوّن أظفار أصابعها. رقم ماذا هذا الرقم، أسألها متضاحكة، هل هو رقم ظلٍّ من الظلال التي تكلّمينها، أم رقم مقبرتك المفضلة؟ لا أنتظر منها جواباً. أمشي، فتتبعني ضاحكة، تمدّ يدها اليسرى أمام وجهي، تقول: كانت 2011 أطول سنة في حياتي. حياتي التي أمشي فيها الى الوراء، مذ عدتُ من موسكو الى بيروت. وفي سهرة رأس سنة 2011 وشمتُ رقمها على معصمي، ورحتُ أنام في نهاراتها نوماً كهفياً ثقيلاً، أصحو منه مبنّجة الحواس بعيد الغروب بقليل، فأهجم بكل حواسي وغرائزي على الليل، أمتصّ دم الليل، حتى تخثّر دمه البيروتي في جسمي.
كلماتها هذه تُريني الليل ينير وجهها برغوة ضوء قمري يسيل مخادعاً على جسمها المتثاقل الذي تخيَّلتُها تحمله، تسير به هائمة هائجة مخمورة، كامرأة ليل في بيروت. لكنني في نبرة لا تخفى سخريتها المراوغة، أسألها: والآن، هل أنت صاحية الآن، يا ريتا؟ لا، لا، إنني أنفر من هذا الإسم، سمِّني سارة، ألا يعجبك سارة؟ على الأقل يوحي بأزمنة قديمة، تجاوبني، ثم تتابع: لا، لست صاحيةً. أترك الصحو لك سيدتي ماريان. فجأة تنقل الكلام الى فضاء آخر، فتتراءى لناظريَّ أضواءُ الشارع شبحيّة نائية، فيما هي تقول إنها تحسب أن عزوفها المزمن عن الكلام، تضاعف مع ازدياد أعداد القتلى في سوريا. أقاطعها في نبرة ساخرة: كل هذا الكلام، وأنتِ عازفة عن الكلام! فكيف إذا تكلمتِ يا سارة؟! لا تكترث لسخريتي. تقول إن القتلَ والموتَ في سوريا كانا فضاءً لشبقِ حياتها الليلية الهستيري الدامي في بعض السهرات الماجنة. سهراتٌ تعوّدت فيها أن تجلس منزويةً مستوحدة، صامتةً صمتاً شَروداً في أوقات طويلة بين أصدقاء وصديقات، يرتجلون التعارفَ والسهر في ليالي بيروت: لبنانيون، سوريون، وأحياناً عراقيون وفلسطينيون ومصريون، غالباً ما تعارفوا عبر شبكة الـ"فايسبوك". تصف تلك السهرات بأنها فوضوية صاخبة، وفي نهاياتها قبيل الفجر بقليل تنام وسواها من الساهرين، في غرفٍ وبيوت لإقامة موقتةٍ عابرة، فتصحو بعد الظهر على أسرّةٍ وفرشٍ ومقاعد للنوم الموقت العابر. ترى حولها وجوه أشخاصٍ لا تكاد تتذكر أنها رأتهم من قبلُ، أو رأتهم كما في منام، فلا تدري ماذا تفعل وإلى أين تذهب، ولا في أيّ ناحية من المدينة هي الآن، ولا كيف، ومع مَن، وفي أيّ وقت وصلت ليلة أمس الى هذه البيوت.
يستوقفني في كلامها مشهد يقظتها بعد الظهر، فأتخيّلها وسط جمع من نساء ورجال أنصاف عراة؛ أجسامهم وأجسامهن المخمرّة بنوم ثقيل بعد ليل مجون جماعي، ملقاة بإهمال على مقاعد وفرش مبعثرة فوضوياً في صالونٍ، أثاثاته قديمة مهملة. يثيرني في المشهد ذلك الرخاء المتعب الثقيل في أجسام تتنفس من جلدها، وأفسد تنفسُها الهواءَ في المكان، بعد انطفاء شهوتها واستغراقها في نوم تلقائي بعمق الشهوة المنطفئة.
أسألها: لكن من أين أنتِ يا سارة؟ أمن سوريا أم من لبنان؟ فتجاوبني سريعاً: تستكثرين عليَّ أن أكون من البلاد والمدن التي عشتُ وأعيشُ فيها؟ أنا من دمشق، من جنوب لبنان، من موسكو، ومن بيروت... أما هنا في باريس، فلم يمتلئ قلبي وجسمي وروحي بغير الصقيع. سنتان أو أكثر في باريس، من دون أن أقوى على نطق أكثر من عبارات محطمة في الفرنسية. أكره نظام العيش البارد في أوروبا بمقدار ما يثيرني العيش في خرائب الحياة في بلدان الفوضى والتعاسة والخراب والدم.
يبهرني كلامها، فأقول لها إن المقابر، حتى المقابر في تلك البلاد صاخبة، ويتكدّس فيها الموتى كتكدّس الأحياء الصاخب في عمرانها الفوضوي، كسهرات المجون الجماعي التي وصفَتْها في بيروت، كالحرب البدائية التي أسمع القليل من أخبارها في سوريا. أفكر في أنها على حافة الأربعين من عمرها، وأن الجمود الصلب في حركتها ومشيتها يبديان جسمها أثقل من أن تقوى على حمله، فتبذل جهداً داخلياً مضاعفاً كي تجرّه خلفها وتمشي في العدم، من دون أن تمتلك من الدنيا حتى ثيابها الداكنة على جسمها الذي لا شيء يربطه بالعالم وبأحدٍ إلا على نحو آنيّ عابر، فيما يتهيأ لها أن الأرض تكاد تنخسف من ثقله تحت قدميها، كأنما في داخله مرجلٌ تغلي فيه عتمةُ الليل. ومن ذلك المرجل يطلع صوتها الأليم المتفحم في حنجرتها الصدئة بالنوم النهاري الكابوسي الثقيل، بعد نوبات أرق طويلة وتدخين شره متواصل حتى الفجر.
بعد لحظاتٍ من الصمت تروي أنها لا تدري سبباً واضحاً لارتيادها المقبرة في طفولتها وفتوتها في دمشق، وأن جلوسها مستوحدة في السكون المقابري، منح وجهها جماله البرّي، فأخالُها مسكونة بقرين لها، هو مَن يتكلم فيها، ويقول ضاحكاً: لحم، عصافير، ملح، نبيذ أبيض، ومانغا؛ جواباً منها عن سؤالي: هل أنتِ جائعة يا سارة؟ ماذا تحبّين أن تأكلي الآن؟ إنني أدعوكِ الى العشاء في مطعم قريب.
* * *
كمَن يتعرّف الى الشخص الذي كانه في زمن آخر قديم، أحدّق في وجه سارة، بعدما جلسنا الى طاولة صغيرة في مطعم أعلم أنه يقدم وجباتٍ فرنسية، ووصلنا اليه في سيارتي. أطلب من النادل زجاجة نبيذٍ فرنسي، تاركةً لها أن تختار نوعه وأدعوها سارتي الجميلة، فأُفاجأ بأن في نبرة صوتي اللاهي غلمةً صبيانية قديمة، كأنها صدىً لصوتها عندما لفظتْ، بشبقٍ ضاحكٍ فاحش في ماديته، أسماء المآكل التي تحبّها. رنين هاتفها في حقيبة يدها العتيقة المزركشة، يقطع تحديقي الصامت في وجهها. تتناول الحقيبة من حيث علّقتها الى ظهر الكرسي خلفها، تضعها أمامها على الطاولة، منشغلة في البحث عن الهاتف. بالرغم من أنها كادت تُدخِلُ رأسها بعد يديها الى الحقيبة، لم تجده فيها إلا بعدما أفرغت محتوياتها على الطاولة الصغيرة أمامنا، وكان الهاتف قد توقف عن الرنين، فتناولتْه وأعادت طلب الرقم الذي اتصل بها.
فجأة تقول في نبرة غاضبة: لماذا تتصل بي؟! ماذا تريد بعد؟! كدتُ أموت ليلة أمس في الفندق... لا، لا أحب أن أراكَ ثانيةً، لا أريد. تقطع المكالمة، وفي حركة متوترة غاضبة ترمي الهاتف الى الطاولة، فألمح في حركتها هذه دوراً استعراضياً، كأنها تؤدّيه أمام مرآة متخيلة، ترى فيها أناقة وجهها المغوية الفاحشة، على خلاف حال ثيابها الرخيصة المدعوكة، كأنها تنام فيها من دون أن تبدلها منذ أيام. يُحضِر النادل زجاجة النبيذ، يحار أين يضعها مع كأسين على الطاولة الصغيرة المبعثرة عليها حاجياتها التي تسارع في إزاحتها وتكديسها دفعةً واحدة في حقيبتها. يصبّ النادل النبيذَ في الكأسين، يضع الزجاجة على الطاولة وينصرف، فأرفع كأسي قائلة: لنشربَ نخب نجاتك من الموت يا سارة. فيما نتناول أول جرعتين من نبيذنا الأبيض البارد، تتبادل عيوننا المبتسمة نظرةً طويلةً ثابتةً، فألمحُ في طرفي بياضِ عينيها الواسعتين حول دائرتي السواد الفاحم في وسطهما، مشحتين من دم يخيّل إليَّ أنهما ساخنتان. تعيد كأسها الى الطاولة، ثم تقول: سايكو، دائماً يبليني الله بهم، سايكو. سأروي لكِ قصته، وما حدث لي معه ليلة أمس، ثم أخذت تروي: نادر، إسمه نادر. في العشرين من عمره، أو أكثر بقليل. بعد الكأس الرابعة لمحتُهُ من بعيد في ملهى ليلي دخلتُ اليه في منتصف الليل، بعدما مشيتُ وحيدة لساعات هائمة في شوارع المدينة. وسط زحمة الأجسام الشبحية والديكور المقابري والإضاءة الشحيحة في الملهى، توجهتُ اليه، وقفتُ أمامه، عينايَ في عينيه، وبعد هنيهات من الصمت قلت له: أموت إذا لم تنمْ معي هذه الليلة، هيا تعال نرقص، ورقصنا. لا أتذكر كيف وصلنا الى غرفة الفندق. ما إن نزع عني ثيابي ودخلني، حتى أخذ يروي لي سيرة حياته: وُلد في ساحل العاج من أب لبناني مهاجر من قرية جنوبية. أمّه قريبةٌ لوالده الذي سبقه أهلها في الهجرة، فأنجب منها ولدين أبيضين - قال مشدداً: أبيضين أبيضين، فيما هو يبلغ نشوته ويقذف في داخلي، ثم تابع روايته: أخوان أبيضان لي، قبل أن أولدَ أسودَ من خادمة زنجية اغتصبها والدي أثناء عملها في بيتنا. فاجأني انتصابه من جديد في داخلي قائلاً إن زوجة والده حاولت قتله خنقاً في سريره، حينما كان في الخامسة من عمره، فأرسله أبوه الى لبنان ليقيم عند أهله في بيروت. ما بين العاشرة والثامنة عشرة، أمضى خمس سنوات في مدرسة داخلية بباريس، ثم هرب الى أميركا، وعاد منها الى باريس بعد سنة، من دون أن يشفى من وصمته العائلية واللبنانية: سواد بشرته، ولادته سفاحاً من خادمة سوداء مغتصبة. أقاطعها بسؤالي: وأنتِ يا سارة ما الذي جذبك إليه؟، فتجاوبني ضاحكة: على الرغم من رغبتي المعتادة في الاكتشاف والمجازفة، وحدسي العابر بأن أمراً ما غريباً قد يحدث بيني وبينه، لم أكترث كثيراً بقصته، وأذكر أنني قلت له، إن سواد بشرته يثيرني، وأتمنى أن أكون سوداء مثله.
كلي الآن، هيا كلي يا سارة، أنت جائعة، أقول لها، بعدما وضع النادل على الطاولة أمامنا طبقين في كلٍّ منهما شريحة كبيرة من لحم العجل، مضمخة بمرق تفوح منه رائحة شهية نفاذة.
تسحرني أناقتها المترفة في تناولها الطعام، وتفاجئني: على مهل تأخذ بالشوكة قطعة من اللحم، في حركة استعراضية تلقائية متباطئة تضعها في فمها، تطبق شفتيها، وكمَن تتذوق نبيذاً فاخراً تسترسل في مَضغها، كأن فكّيها لا تتحركان، فيما يشعّ وجهها وعيناها بطيف ابتسامة بعيدة متخابثة تنطوي على خجل مخادع. أناقتها في تناولها الطعام تظل على حالها، على الرغم من أنها لطَّختْ ببقعتين من المرق قماشَ بلوزتها عند أسفل صدرها، فتقول متضاحكة: دائماً أنا هكذا، ألطّخ ثيابي عندما أتناول الطعام، كما يلطّخ ضوء النهار جلدي ويؤلم حواسي، فيحيا جسمي نهاراته في فوضى حسية عمياء. أما في الليل فتملأني سعادة عبثية مفرطة في ترفها، هي الوجه الآخر لفشلي السعيد في أن أعثر على معنى أو اتجاه ما لحياتي. يغويني هذا الفشل السعيد، يجعلني مغوية، فأبدّد شبق أنوثتي الليلي على رجال لا أعرفهم، وأنساهم في النهارات التالية.
تعود إلى رواية ما حدث لها مع الشاب الأسود في الفندق، فأرسم لما ترويه مشاهد وصوراً في مخيلتي: تخرج من قمرة الدوش الزجاجية الى غرفة الفندق، منشفة كبيرة بيضاء تلفّ جسمها. تمد ذراعيها العاريتين، قائلة للشاب الأسود: هيا، تعال خذني الآن. في مشهد آخر تقفز إلى السرير. في وسطه، على الملاءة السوداء المدعوكة، تجلس، بين فخذيها العاريتين تُفرِغ ما تحويه حقيبة يدها العتيقة المزركشة. الشاب الأسود، صيدها ووليمتها الليلية، يقف عارياً يدخن خلف زجاج النافذة. صامتة تتلفّت نحوه والى أصابع يديها المنشغلة بحشو السجائر بمسحوق حشيشة الكيف، بعدما أخرجت قطعة منها من علبة فضية قديمة مشغولة، عادةً ما توضع فيها القلائد. أخيراً أُبصِرُها عاريةً ممددة على السرير، تضحك مقهقهة بعد بلوغها نشوة الجماع، فتلتفت نحو الشاب الأسود الممدد الى جانبها وتقول: أحياناً أبلغها للمرة الثامنة أو التاسعة في ليلة واحدة.
قبالتي في المطعم أرى على شفتيها تلك الابتسامة المشعّة المائلة الى الجهة اليمنى من فمها، كاشفةً عن أسنانها المثيرة، فيما تسيل على خديها دمعتان، فأتلقفهما ساخنتين بكفّ يدي، وبلساني ألعق سائل دمعها عن أصابعي، محدّقةً بثباتٍ في عينيها. ابتسامتها المائلة تتحول ضحكات خافتة متواطئة، قبيل أن تروي المشهد الاخير من ليلتها في غرفة الفندق: صحوتُ من إغماتي ما قبل الأخيرة، فرأيتُهُ ممدداً قربي على عرض السرير، رأسه متدلٍّ عن حافته، عيناه تحملقان في جمود الموت في السقف، عضوه منتصب مرتعش على إيقاع تنفسه اللاهث المتسارع. اعتليته، أدخلتُه فيَّ بطيئاً بطيئاً، فأخذ انتصابه ينبض في داخلي قوياً. فاجأني انقلابُه عليَّ، واعتلاؤه إيّايَ بحركة عنيفة. بعنفٍ قبض عنقي بكفّيه، وأخذ يخنقني جاحظ العينين فوقي، مقهقهاً قهقهات هستيرية. عتمةٌ حالكة تغشى عينيَّ المفتوحتين، بلا ألم تكاد حنجرتي تنفجر في كفّيه. حين أفقتُ من إغماءتي الأخيرة، من دون أن أدرك كم استمرت من الوقت، لاح لي ما يشبه قمراً مكتملاً مشعّا، كأنه في صورة بعيدة خلف زجاج النافذة، ثم انتبهتُ إلى أنني ممددة على الموكيت قرب السرير، وجسمي يرتعش بارداً مبلّلاً بعرق غزير. لا أتذكر كيف دخلتُ الى الحمّام، أتقيأ وأتقيأ، وماء حنفية المغسلة يتدفق على رأسي الذي، حين رفعتُه أخيراً، لمحتُه في المرآة كدجاجة حيّة منتوفة الريش. يذكّرني مشهد رأسي ووجهي في المرآة بدكّان بائع الدجاج قرب بيتنا في دمشق. لمرة واحدة في طفولتي أخذتني أمي معها الى دكانه، فأغمي عليَّ حينما رأيتُ البائع يُخرِج من آلة معدنية دجاجةً عارية من الريش، ويرميها على لوح خشبي ضخم، فيهوي فتىً بالساطور على عنقها، فيقطع رأسها بضربة واحدة. مذذاك لم أعد أمرُّ أمام ذلك الدكان، وصرت أتقزّز، أتقيأ، وأمرض طوال النهار، كلما شممتُ رائحة الدجاج، فتوقفت أمي عن طبخه في بيتنا.
والحشيشة، منذ متى تدخنين الحشيشة يا سارة؟، أسألها.
الحشيشة؟ - تقول - في أواسط الثمانينات بقرية والدي في جنوب لبنان، بدأت أدخّنها بعد أيام من توقيعي طلباً تعهدتُ فيه القيام بعملية استشهادية ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب، وقدَّمتُ الطلب سراً لمسؤول خليتي في الحزب الشيوعي اللبناني.
يا للمصادفات!... أنتِ، أنتِ أيضاً يا سارة؟! كيف اهتديت إليَّ؟! - أفكر - فيما يبزغ في ذاكرتي طيف صديقتي الصحافية المنسية منذ ثلاثين سنة في بيروت، ثم أصرخ: هل تعرفينها يا سارة؟ هل تعرفين عذراء الشهداء، أيتها الانتحارية الناجية؟
.
Raff Boyadjian
كلماتُها عن اسمي تثيرني، فأحدّق في عنقها المغروسة بجمود جذع شجرة قديم متين وسط كتفيها العريضتين العاريتين، وأسألها: هل نمشي؟ فتحمل عن الطاولة محفظتها المزركشة الحائلة الألوان، وتقف قائلة: نمشي... نمشي. ثم تتدارك محدّثةً نفسها: لكن سيارتَكِ... من زمان لم يصطحبني أحد في سيارته الخاصة في شوارع مدينة. تسبقني متجهة نحو مدخل المطعم، فأناديها باسم ريتا، أقترب منها وأسألها إن كان يعجبها لفظ هذا الإسم بصوتي. لكن غريبتي التي سمّيتها ريتا، تقول من دون أن تلتفت اليّ: منذ سنتين لم ارَ ابني المتوحد في لبنان. لقد تركته مع والده، زوجي اللبناني الوفيّ، المتزوج قبلي وبعدي، وها أنا تائهة في هذه الدنيا، أمشي فتكلّمني الظلال. وأنت - تسألني - ألا تكلّمك الظلال؟ هل تسمعين الآن ظلّك؟ أنا أسمعه يكلّمني... في طفولتي، مذ مشيت للمرة الأولى في مقبرة قبالة بيت أهلي في دمشق، أخذتْ تكلّمني الظلال. هل تعرفين دمشق؟ هل زرتها؟ هل تحبّين المشي ليلاً في المقابر؟
أتوقف عن المشي، ألتفت سريعاً الى وجه محدّثتي، فألمحه نحاسياً مشرقاً، وينبعث منه نور متجمد، قبيل تحوله سوداوياً حالكاً، كأن كلامها أضاء وجهها بذلك النور الذي انطفأ فجأة، من دون أن أنتبه في أيّ من اللغات تتكلم. مجرداً من اللغات يرتسم ما تقوله في مخيلتي، فتتراءى لي طفلةً في فستان أبيض تركض وسط ضباب فجر في مقبرة. فجرٌ كفجر المنتحرين، أو كفجر الذين يساقون الى الاعدام عند الفجر. انظري، انظري، تقول، تمدُّ يدها اليسرى أمامي، تقرّبها من وجهي، فأبصر على باطن معصمها وشماً للرقم 2011 في لون أقل سواداً من ذاك الذي يلوّن أظفار أصابعها. رقم ماذا هذا الرقم، أسألها متضاحكة، هل هو رقم ظلٍّ من الظلال التي تكلّمينها، أم رقم مقبرتك المفضلة؟ لا أنتظر منها جواباً. أمشي، فتتبعني ضاحكة، تمدّ يدها اليسرى أمام وجهي، تقول: كانت 2011 أطول سنة في حياتي. حياتي التي أمشي فيها الى الوراء، مذ عدتُ من موسكو الى بيروت. وفي سهرة رأس سنة 2011 وشمتُ رقمها على معصمي، ورحتُ أنام في نهاراتها نوماً كهفياً ثقيلاً، أصحو منه مبنّجة الحواس بعيد الغروب بقليل، فأهجم بكل حواسي وغرائزي على الليل، أمتصّ دم الليل، حتى تخثّر دمه البيروتي في جسمي.
كلماتها هذه تُريني الليل ينير وجهها برغوة ضوء قمري يسيل مخادعاً على جسمها المتثاقل الذي تخيَّلتُها تحمله، تسير به هائمة هائجة مخمورة، كامرأة ليل في بيروت. لكنني في نبرة لا تخفى سخريتها المراوغة، أسألها: والآن، هل أنت صاحية الآن، يا ريتا؟ لا، لا، إنني أنفر من هذا الإسم، سمِّني سارة، ألا يعجبك سارة؟ على الأقل يوحي بأزمنة قديمة، تجاوبني، ثم تتابع: لا، لست صاحيةً. أترك الصحو لك سيدتي ماريان. فجأة تنقل الكلام الى فضاء آخر، فتتراءى لناظريَّ أضواءُ الشارع شبحيّة نائية، فيما هي تقول إنها تحسب أن عزوفها المزمن عن الكلام، تضاعف مع ازدياد أعداد القتلى في سوريا. أقاطعها في نبرة ساخرة: كل هذا الكلام، وأنتِ عازفة عن الكلام! فكيف إذا تكلمتِ يا سارة؟! لا تكترث لسخريتي. تقول إن القتلَ والموتَ في سوريا كانا فضاءً لشبقِ حياتها الليلية الهستيري الدامي في بعض السهرات الماجنة. سهراتٌ تعوّدت فيها أن تجلس منزويةً مستوحدة، صامتةً صمتاً شَروداً في أوقات طويلة بين أصدقاء وصديقات، يرتجلون التعارفَ والسهر في ليالي بيروت: لبنانيون، سوريون، وأحياناً عراقيون وفلسطينيون ومصريون، غالباً ما تعارفوا عبر شبكة الـ"فايسبوك". تصف تلك السهرات بأنها فوضوية صاخبة، وفي نهاياتها قبيل الفجر بقليل تنام وسواها من الساهرين، في غرفٍ وبيوت لإقامة موقتةٍ عابرة، فتصحو بعد الظهر على أسرّةٍ وفرشٍ ومقاعد للنوم الموقت العابر. ترى حولها وجوه أشخاصٍ لا تكاد تتذكر أنها رأتهم من قبلُ، أو رأتهم كما في منام، فلا تدري ماذا تفعل وإلى أين تذهب، ولا في أيّ ناحية من المدينة هي الآن، ولا كيف، ومع مَن، وفي أيّ وقت وصلت ليلة أمس الى هذه البيوت.
يستوقفني في كلامها مشهد يقظتها بعد الظهر، فأتخيّلها وسط جمع من نساء ورجال أنصاف عراة؛ أجسامهم وأجسامهن المخمرّة بنوم ثقيل بعد ليل مجون جماعي، ملقاة بإهمال على مقاعد وفرش مبعثرة فوضوياً في صالونٍ، أثاثاته قديمة مهملة. يثيرني في المشهد ذلك الرخاء المتعب الثقيل في أجسام تتنفس من جلدها، وأفسد تنفسُها الهواءَ في المكان، بعد انطفاء شهوتها واستغراقها في نوم تلقائي بعمق الشهوة المنطفئة.
أسألها: لكن من أين أنتِ يا سارة؟ أمن سوريا أم من لبنان؟ فتجاوبني سريعاً: تستكثرين عليَّ أن أكون من البلاد والمدن التي عشتُ وأعيشُ فيها؟ أنا من دمشق، من جنوب لبنان، من موسكو، ومن بيروت... أما هنا في باريس، فلم يمتلئ قلبي وجسمي وروحي بغير الصقيع. سنتان أو أكثر في باريس، من دون أن أقوى على نطق أكثر من عبارات محطمة في الفرنسية. أكره نظام العيش البارد في أوروبا بمقدار ما يثيرني العيش في خرائب الحياة في بلدان الفوضى والتعاسة والخراب والدم.
يبهرني كلامها، فأقول لها إن المقابر، حتى المقابر في تلك البلاد صاخبة، ويتكدّس فيها الموتى كتكدّس الأحياء الصاخب في عمرانها الفوضوي، كسهرات المجون الجماعي التي وصفَتْها في بيروت، كالحرب البدائية التي أسمع القليل من أخبارها في سوريا. أفكر في أنها على حافة الأربعين من عمرها، وأن الجمود الصلب في حركتها ومشيتها يبديان جسمها أثقل من أن تقوى على حمله، فتبذل جهداً داخلياً مضاعفاً كي تجرّه خلفها وتمشي في العدم، من دون أن تمتلك من الدنيا حتى ثيابها الداكنة على جسمها الذي لا شيء يربطه بالعالم وبأحدٍ إلا على نحو آنيّ عابر، فيما يتهيأ لها أن الأرض تكاد تنخسف من ثقله تحت قدميها، كأنما في داخله مرجلٌ تغلي فيه عتمةُ الليل. ومن ذلك المرجل يطلع صوتها الأليم المتفحم في حنجرتها الصدئة بالنوم النهاري الكابوسي الثقيل، بعد نوبات أرق طويلة وتدخين شره متواصل حتى الفجر.
بعد لحظاتٍ من الصمت تروي أنها لا تدري سبباً واضحاً لارتيادها المقبرة في طفولتها وفتوتها في دمشق، وأن جلوسها مستوحدة في السكون المقابري، منح وجهها جماله البرّي، فأخالُها مسكونة بقرين لها، هو مَن يتكلم فيها، ويقول ضاحكاً: لحم، عصافير، ملح، نبيذ أبيض، ومانغا؛ جواباً منها عن سؤالي: هل أنتِ جائعة يا سارة؟ ماذا تحبّين أن تأكلي الآن؟ إنني أدعوكِ الى العشاء في مطعم قريب.
* * *
كمَن يتعرّف الى الشخص الذي كانه في زمن آخر قديم، أحدّق في وجه سارة، بعدما جلسنا الى طاولة صغيرة في مطعم أعلم أنه يقدم وجباتٍ فرنسية، ووصلنا اليه في سيارتي. أطلب من النادل زجاجة نبيذٍ فرنسي، تاركةً لها أن تختار نوعه وأدعوها سارتي الجميلة، فأُفاجأ بأن في نبرة صوتي اللاهي غلمةً صبيانية قديمة، كأنها صدىً لصوتها عندما لفظتْ، بشبقٍ ضاحكٍ فاحش في ماديته، أسماء المآكل التي تحبّها. رنين هاتفها في حقيبة يدها العتيقة المزركشة، يقطع تحديقي الصامت في وجهها. تتناول الحقيبة من حيث علّقتها الى ظهر الكرسي خلفها، تضعها أمامها على الطاولة، منشغلة في البحث عن الهاتف. بالرغم من أنها كادت تُدخِلُ رأسها بعد يديها الى الحقيبة، لم تجده فيها إلا بعدما أفرغت محتوياتها على الطاولة الصغيرة أمامنا، وكان الهاتف قد توقف عن الرنين، فتناولتْه وأعادت طلب الرقم الذي اتصل بها.
فجأة تقول في نبرة غاضبة: لماذا تتصل بي؟! ماذا تريد بعد؟! كدتُ أموت ليلة أمس في الفندق... لا، لا أحب أن أراكَ ثانيةً، لا أريد. تقطع المكالمة، وفي حركة متوترة غاضبة ترمي الهاتف الى الطاولة، فألمح في حركتها هذه دوراً استعراضياً، كأنها تؤدّيه أمام مرآة متخيلة، ترى فيها أناقة وجهها المغوية الفاحشة، على خلاف حال ثيابها الرخيصة المدعوكة، كأنها تنام فيها من دون أن تبدلها منذ أيام. يُحضِر النادل زجاجة النبيذ، يحار أين يضعها مع كأسين على الطاولة الصغيرة المبعثرة عليها حاجياتها التي تسارع في إزاحتها وتكديسها دفعةً واحدة في حقيبتها. يصبّ النادل النبيذَ في الكأسين، يضع الزجاجة على الطاولة وينصرف، فأرفع كأسي قائلة: لنشربَ نخب نجاتك من الموت يا سارة. فيما نتناول أول جرعتين من نبيذنا الأبيض البارد، تتبادل عيوننا المبتسمة نظرةً طويلةً ثابتةً، فألمحُ في طرفي بياضِ عينيها الواسعتين حول دائرتي السواد الفاحم في وسطهما، مشحتين من دم يخيّل إليَّ أنهما ساخنتان. تعيد كأسها الى الطاولة، ثم تقول: سايكو، دائماً يبليني الله بهم، سايكو. سأروي لكِ قصته، وما حدث لي معه ليلة أمس، ثم أخذت تروي: نادر، إسمه نادر. في العشرين من عمره، أو أكثر بقليل. بعد الكأس الرابعة لمحتُهُ من بعيد في ملهى ليلي دخلتُ اليه في منتصف الليل، بعدما مشيتُ وحيدة لساعات هائمة في شوارع المدينة. وسط زحمة الأجسام الشبحية والديكور المقابري والإضاءة الشحيحة في الملهى، توجهتُ اليه، وقفتُ أمامه، عينايَ في عينيه، وبعد هنيهات من الصمت قلت له: أموت إذا لم تنمْ معي هذه الليلة، هيا تعال نرقص، ورقصنا. لا أتذكر كيف وصلنا الى غرفة الفندق. ما إن نزع عني ثيابي ودخلني، حتى أخذ يروي لي سيرة حياته: وُلد في ساحل العاج من أب لبناني مهاجر من قرية جنوبية. أمّه قريبةٌ لوالده الذي سبقه أهلها في الهجرة، فأنجب منها ولدين أبيضين - قال مشدداً: أبيضين أبيضين، فيما هو يبلغ نشوته ويقذف في داخلي، ثم تابع روايته: أخوان أبيضان لي، قبل أن أولدَ أسودَ من خادمة زنجية اغتصبها والدي أثناء عملها في بيتنا. فاجأني انتصابه من جديد في داخلي قائلاً إن زوجة والده حاولت قتله خنقاً في سريره، حينما كان في الخامسة من عمره، فأرسله أبوه الى لبنان ليقيم عند أهله في بيروت. ما بين العاشرة والثامنة عشرة، أمضى خمس سنوات في مدرسة داخلية بباريس، ثم هرب الى أميركا، وعاد منها الى باريس بعد سنة، من دون أن يشفى من وصمته العائلية واللبنانية: سواد بشرته، ولادته سفاحاً من خادمة سوداء مغتصبة. أقاطعها بسؤالي: وأنتِ يا سارة ما الذي جذبك إليه؟، فتجاوبني ضاحكة: على الرغم من رغبتي المعتادة في الاكتشاف والمجازفة، وحدسي العابر بأن أمراً ما غريباً قد يحدث بيني وبينه، لم أكترث كثيراً بقصته، وأذكر أنني قلت له، إن سواد بشرته يثيرني، وأتمنى أن أكون سوداء مثله.
كلي الآن، هيا كلي يا سارة، أنت جائعة، أقول لها، بعدما وضع النادل على الطاولة أمامنا طبقين في كلٍّ منهما شريحة كبيرة من لحم العجل، مضمخة بمرق تفوح منه رائحة شهية نفاذة.
تسحرني أناقتها المترفة في تناولها الطعام، وتفاجئني: على مهل تأخذ بالشوكة قطعة من اللحم، في حركة استعراضية تلقائية متباطئة تضعها في فمها، تطبق شفتيها، وكمَن تتذوق نبيذاً فاخراً تسترسل في مَضغها، كأن فكّيها لا تتحركان، فيما يشعّ وجهها وعيناها بطيف ابتسامة بعيدة متخابثة تنطوي على خجل مخادع. أناقتها في تناولها الطعام تظل على حالها، على الرغم من أنها لطَّختْ ببقعتين من المرق قماشَ بلوزتها عند أسفل صدرها، فتقول متضاحكة: دائماً أنا هكذا، ألطّخ ثيابي عندما أتناول الطعام، كما يلطّخ ضوء النهار جلدي ويؤلم حواسي، فيحيا جسمي نهاراته في فوضى حسية عمياء. أما في الليل فتملأني سعادة عبثية مفرطة في ترفها، هي الوجه الآخر لفشلي السعيد في أن أعثر على معنى أو اتجاه ما لحياتي. يغويني هذا الفشل السعيد، يجعلني مغوية، فأبدّد شبق أنوثتي الليلي على رجال لا أعرفهم، وأنساهم في النهارات التالية.
تعود إلى رواية ما حدث لها مع الشاب الأسود في الفندق، فأرسم لما ترويه مشاهد وصوراً في مخيلتي: تخرج من قمرة الدوش الزجاجية الى غرفة الفندق، منشفة كبيرة بيضاء تلفّ جسمها. تمد ذراعيها العاريتين، قائلة للشاب الأسود: هيا، تعال خذني الآن. في مشهد آخر تقفز إلى السرير. في وسطه، على الملاءة السوداء المدعوكة، تجلس، بين فخذيها العاريتين تُفرِغ ما تحويه حقيبة يدها العتيقة المزركشة. الشاب الأسود، صيدها ووليمتها الليلية، يقف عارياً يدخن خلف زجاج النافذة. صامتة تتلفّت نحوه والى أصابع يديها المنشغلة بحشو السجائر بمسحوق حشيشة الكيف، بعدما أخرجت قطعة منها من علبة فضية قديمة مشغولة، عادةً ما توضع فيها القلائد. أخيراً أُبصِرُها عاريةً ممددة على السرير، تضحك مقهقهة بعد بلوغها نشوة الجماع، فتلتفت نحو الشاب الأسود الممدد الى جانبها وتقول: أحياناً أبلغها للمرة الثامنة أو التاسعة في ليلة واحدة.
قبالتي في المطعم أرى على شفتيها تلك الابتسامة المشعّة المائلة الى الجهة اليمنى من فمها، كاشفةً عن أسنانها المثيرة، فيما تسيل على خديها دمعتان، فأتلقفهما ساخنتين بكفّ يدي، وبلساني ألعق سائل دمعها عن أصابعي، محدّقةً بثباتٍ في عينيها. ابتسامتها المائلة تتحول ضحكات خافتة متواطئة، قبيل أن تروي المشهد الاخير من ليلتها في غرفة الفندق: صحوتُ من إغماتي ما قبل الأخيرة، فرأيتُهُ ممدداً قربي على عرض السرير، رأسه متدلٍّ عن حافته، عيناه تحملقان في جمود الموت في السقف، عضوه منتصب مرتعش على إيقاع تنفسه اللاهث المتسارع. اعتليته، أدخلتُه فيَّ بطيئاً بطيئاً، فأخذ انتصابه ينبض في داخلي قوياً. فاجأني انقلابُه عليَّ، واعتلاؤه إيّايَ بحركة عنيفة. بعنفٍ قبض عنقي بكفّيه، وأخذ يخنقني جاحظ العينين فوقي، مقهقهاً قهقهات هستيرية. عتمةٌ حالكة تغشى عينيَّ المفتوحتين، بلا ألم تكاد حنجرتي تنفجر في كفّيه. حين أفقتُ من إغماءتي الأخيرة، من دون أن أدرك كم استمرت من الوقت، لاح لي ما يشبه قمراً مكتملاً مشعّا، كأنه في صورة بعيدة خلف زجاج النافذة، ثم انتبهتُ إلى أنني ممددة على الموكيت قرب السرير، وجسمي يرتعش بارداً مبلّلاً بعرق غزير. لا أتذكر كيف دخلتُ الى الحمّام، أتقيأ وأتقيأ، وماء حنفية المغسلة يتدفق على رأسي الذي، حين رفعتُه أخيراً، لمحتُه في المرآة كدجاجة حيّة منتوفة الريش. يذكّرني مشهد رأسي ووجهي في المرآة بدكّان بائع الدجاج قرب بيتنا في دمشق. لمرة واحدة في طفولتي أخذتني أمي معها الى دكانه، فأغمي عليَّ حينما رأيتُ البائع يُخرِج من آلة معدنية دجاجةً عارية من الريش، ويرميها على لوح خشبي ضخم، فيهوي فتىً بالساطور على عنقها، فيقطع رأسها بضربة واحدة. مذذاك لم أعد أمرُّ أمام ذلك الدكان، وصرت أتقزّز، أتقيأ، وأمرض طوال النهار، كلما شممتُ رائحة الدجاج، فتوقفت أمي عن طبخه في بيتنا.
والحشيشة، منذ متى تدخنين الحشيشة يا سارة؟، أسألها.
الحشيشة؟ - تقول - في أواسط الثمانينات بقرية والدي في جنوب لبنان، بدأت أدخّنها بعد أيام من توقيعي طلباً تعهدتُ فيه القيام بعملية استشهادية ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب، وقدَّمتُ الطلب سراً لمسؤول خليتي في الحزب الشيوعي اللبناني.
يا للمصادفات!... أنتِ، أنتِ أيضاً يا سارة؟! كيف اهتديت إليَّ؟! - أفكر - فيما يبزغ في ذاكرتي طيف صديقتي الصحافية المنسية منذ ثلاثين سنة في بيروت، ثم أصرخ: هل تعرفينها يا سارة؟ هل تعرفين عذراء الشهداء، أيتها الانتحارية الناجية؟
.
Raff Boyadjian