رضوى عاشور - تقرير السيدة راء عن اليوم الأخير فى الأسبوع.. قصة

إنها بحيرة. كان الشاعر الرومانسى فى زمان قديم يصور نفسه جالسا على ضفافها، ومن خلفه تماما أو ربما فى جانب من المكان صفصافة حلت أغصانها كضفائر إمرأة حزينة. يحدق فى ماء البحيرة فيرى وجه نرجس على صفحتها جميلا وبائسا ويطابق وجهه،فيشغله وجهه. يشفق على روحه. يتمتم: من يرثى لك يا مسكين؟ ثم يبدأ مرثيته.
لا صفصافة هنا ولا وجه نرجس، بل سيارتى أركبها إلى الوظيفة. يقذفنى سائق عابر بمسبة وهو يتجاوزنى. ألعن أمه،وأواصل. فى وظيفة الخراب أناطحه كأننى أقوى ثم أركب سيارتى عائدة إلى البيت. تمنحنى الإشارة الحمراء حيزا لاكتمال سؤال: أبدو هشة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء قبل أن تستقر على الأرض. كيف ناطحت إذن؟
فى المساء أعاود الخروج إلى الشارع، بلى حذائى ولابد من شراء حذاء آخر. أنتقل بين الواجهات الزجاجية لمحال الاحذية، ثم ادخل محلا منها وأشترى. أتمتم لنفسى وأنا أمشى فى الشارع " ما الذى يحدث لحلم تأجل؟ "
يبقى السؤال معلقا وأنا أقود سيارتى ببطء يمليه ازدحام شارع الجلاء. إشارة المرور مرة أخرى، أتوقف فألمح جرذا يقطع الطريق بشكل مباغت.
" هل تفوح رائحته كلحم فاسد " الحلم،وليس الجرذ.
" ربما تجرجره كحمل ثقيل".
أخيرا أصل البيت. اصف سيارتى ، أصعد، الدرج، وأدير المفتاح فى الباب. أعد لنفسى قهوة وشطيرة محشوة بالجبن، وأفتح التلفزيون أتابع نشرة الأخبار ثم جزءا من فترة الإعلانات يقطعها تليفون من زميل فى العمل تبرع بدرس فى السلوك الوظيفى " الحكمة تقتضى أن تأخذى الاصغر منك بالشدة، والأكبر باللين، الإصطدام مع رئيسك فى العمل حماقة، لابد من كسر سمُّه بالمسايسة والمجاملة والالتفاف الحكيم. المواجهة دائما خاسرة. إفعلى ما بدا لك مع مرؤسيك، واجهيهم كما يحلو لك. قومى إعوجاجهم بالعصا على رؤوسهم إن اقتضى الأمر. اراك تغعلين العكس، وهذا خطا فادح". شكرته وأنهيت المكالمة. " ما الذى يحدث لحلم تأجل؟"
أغلقت التلفزيون واتصلت بصديقتى. حكت لى عن يومها وحكيت، أفضنا فى الكلام
ثم قلت : - لدى مشروع قصة.
قالت: - لا تتحدثى عنها. اكتبيها.
ولكنى أردت الحديث: قلت:
إمرأة فى مقتبل العمر تستعد للقاء الرجل الذى تحبه. تتزين وتغادر بيتها وتشترى باقة ورد وتذهب إلى محطة القطارات وتنتظر. يصل قطار تتطلع تبحث. لم يأت. يصل قطار آخر. يتعاقب وصول القطارات. تذبل الورود. تمر الساعات. الأيام والأسابيع والسنين. تكتهل المرأة وهى على حالها واقفة ثم تشيخ.
قاطعتنى صديقتى:
- وتموت ويشيعون جنازتها من مسجد " عمر مكرم". وينتهى الفيلم بنشيد بلادى بلادى لك حبى وفؤادى فتبكى العوانس بحرقة بينما جمهور الترسو يصفر،ويهتف: " سينما اونطة هاتوا فلوسنا". ويشتبك الطرفان. وتأتى قوات الأمن المركزى لفض الشغب فيسقط غثنان واحدمن كل فريق. قتيل الترسو تنشر صورته فى الجريدة وتحتها عبارة الإرهابى الذى تسبب فى الشغب وراح ضحيته. أما صورة شهيدة العوانس فتتجاهلها الصحافة القومية ولكن المنظمة المصرية لحقوق المرأة تسارع بإرسال صورتها إلى أوروبا وأمريكا حيث تقرر كافة الجماعات النسوية اعتبار يوم عرض الفيلم وسقوط المرأة يوما عالميا للعوانس!
لم اضحك. مرت لحظات من الصمت ثم:
- غضبت؟
- لم أتصور أن مشروع القصة ردىء إلى هذا الحد؟!
- ميلودرامى.
قررت أن أغير الموضوع. حكيت لها عن الكتاب الذى انتهيتمن قرائته وعن المرأة التى رفضت ان تتطلع إلى وليها بعد أن وضعته:
- بقيت على تلك الحال عدة أيام نائمة فى فراشها على جانبها الأيمن. وجهها إلى الحائط وعيناها محدقتان فى بياضه. حملوا لها الصغير. وضعوه بجوارها . حدثوها ولكنها لم تحرك ساكنا.
- وماذا حدث بعد ذلك.
-لا أدرى!
-ألم تقولى أنك انتهيت من قراءة الكتاب؟
- نعم ولكن الكتاب ليس عنها. ترد حكايتها فى ثلاثة اسطر فقط.
قبل أن تنهى المكالمة قالت:
- هل تستطيعين كتابة قصتك على طريقة أفلام شارلى شابلن الصامتة؟
- كيف؟
- مضمون حزين وشكل فكاهى. وتلخيص كاريكاتورى وإيقاع سريع.
- لا أفهم!
- كأفلام الكارتون. هل بإمكانك أن تفعلى ذلك؟!
-لا أدرى. لاأظن!
وضعت السماعة وجلست للكتابة.
المشروع الأول: القصة الميلودارمية

أدهشتها صورتها فى المرآة. كانت تحممت واعتنت بزينتها وتصفيف شعرها وارتدت أجمل ثيابها. ولكن ذلك كله لم يكن ليفسر لها ذلك التغيير المفاجىء من فتاة لطيفة الملامح إلى تلك الحسناء التى تطالعها فى المرآة. غادرت المنزل إلى محل الزهور. انتقت ورودا قرمذية لها سيقان طزيلة لفها البائع فى السلوفان بعد أضاف لها غصونا دقيقة أوراقها أشبه باوراق شجر السرو وإن تميزت عنها بزهور بيضاء منمنمة. كان البائع على وشك أن يربط الباقة بشريط أبيض، ولكنها سارعت بإعلامه انها تريد شريطا وردى اللون. ناولته النقود وسارت إلى المحطة. باقة الورد فى يدها وعلى شفتيها اغنية.
فى المجطة تطلعت إلى الساعة الكبيرة المثبتة فى الجدار وإلى الساعة الصغيرة فى معصمها. كان الوقت متطابقا. بإمكانها أن تجلس فى المقهى لقضاء الخمس وعشرين دقيقة الباقية على وصول القطار. طلبت قدحا من القهوة ونسيت أن تحتسيه ثم قامت إلى الرصيف.
يقترب القطار من محطة الوصول. يرتج جسدها رجا بضجيج القطار وصفيره ودقات قلبها. تختار موقعا يمكنها من متابعة كل القادمين. يمرون بها كلهم يمرون. لم يأت. استعلمت عن موعد وصول القطار التالى.
وصلت سبع قطارات.
انتصف الليل.
قال ناظر المحطة إن القطار التالى يصل صباحا. وكانوا لحسن الحظ لا يغلقون مقهى المحطة فى الليل.
المشروع الثانى: القصة على طريقة الأفلام الصامتة

ارتدت ملابسها بسرعة خاطفة، ثم غادرت المنزل ركضا. فى الأسانسير تطلع إليها جارها باستغراب، فانتبهت إلى انها تمسك فردتى الحذاء فى يدها . لبست الحذاء وغادرت الأسانسير ركضا إلى بائع الزهور. اصطدمت برجل ثم بامرأة ثم بشجرة فاعتذرت للشجرة. إشترت زهرة وطارت بها غلى المحطة. وصل القطار. دست رأسها فى نوافذه. صعدت ألى كل العربات.تفرست فى الوجوه. جثت على ركبتيها وبحثت تحت الكراسى. اعتلت المقعد وجاست بيديها بين الأمتعة المصفوفة على الأرفف المثبتة على الجانبين. قفزت من القطار وقد أوشك على القيام. انتظرت القطار التالى. حاذى الرصيف. اندفعت إليه، تعثرت بالأمتعة. اصطدمت بالركاب.سألت. وصفت. استخدمت يديها فى تعزيز الكلمات بالإشارة. هزوا رؤوسهم. هرولت إلى مكتبة قريبة من المحطة. اشترت ورقا مقوى وقلما. كتبت بخط اسود سميك أسمه وأوصافه وانتحت جانبا من الرصيف رافعة اللافتة. لا أحد يتوقف. ركضت خارج المحطة واشترت جرسا.عادت إلى الرصيف ووقفت تدق الجرس تحاول لفت انتباه المارة إلى اللافتة.توالت القطارات. تصل. ترحل. تشرق الشمس. تغيم الشمس. تصفر الريح. يهطل المطر. يذهب الشتاء. يأتى الصيف. يشتد القيظ. قرصها االجوع فأكلت الزهرة وواصلت الانتظار. لم تنتبه أن ما كتبته على اللافتة اختلط حبره بماء المطر فلم يعد مقروءا ولا مفهوما. لم تنتبه أن شعرها الذى بلله المطر وجففته الشمس ثم بلله المطر من جديد صار اشعثا وأن ثوبها اصبح باليا كابى اللون ومتهدلا على جسمها الضامر. وأن المارة يضعون بجوارها بعض القروش ثم يسرعون الخطو مبتعدين.
* * *
صديقتى على حق القصة ميلودرامية. تناولت حبة مهدئة ودخلت إلى فراشى حاولت. مرة أخرى. تأمل مشروع القصة فقطع تأملى الإستغراق فى النوم
أعلى