سفيان صلاح هلال - ديستوبيا السياسة وتوظيف المخيلة الجمعية في رواية "نادي المحبين" للكاتب صبحي موسى قراءة:

في العمل الفني دائما فكرة، يتوجه إليها الكاتب باللغة والتقنية والظلال التخييلية لتبث نتاج عقله ومشاعره فيما نسميه الرؤيا الإبداعية، وهذه المكونات هي التي تحدد قيمة العمل ودرجة قبوله عند الناس خاصتهم وعامتهم، والمشكلة التي قد تواجه المبدع والمتلقي في السرد هي تلك الظلال التخييلية للعمل، فمن المعروف أن متلقي الشعر لا ينتظر المباشرة من الشاعر ويكون مستعدا لتأويل اللغة والتراكيب، أما متلقي السرد الروائي بالذات فهو يؤوّل الأحداث ويُخيّل طبيعة الخطاب، والتي تختلف من مجتمع إلى مجتمع، فالخطاب في حد ذاته ليس مفردات جافة تؤدي وظائف لغوية جامدة، لكن له دلالاته التي قد تختلف من مجتمع لمجتمع حتى في أهل اللغة الواحدة، وكلنا يذكر أمر خالد بن الوليد الشهير في إحدى حروبه "دفئوا أسراكم" والتي قيل: إنه كان يقصدها لغة؛ لتدفئة الأسرى من البرد، لكن الأمر وصل للحرس بمعناه التخييلي في مثل هذه الظروف في هذه البيئة؛ فقتلوا أسراهم.
وفي اللغة المصرية العميقة الأبعاد، هناك الكثير من الكلام يحود عن معانيه اللغوية ويعرض أو يواري دلالات أخرى مثل كلمة "كوسة" والتي تدل على ثمرة الكوسة عند بائع الخضار، ولكنها أيضا تدل في خطابات كثيرة على استخدام الوساطة والمحسوبية، ومثل هذا ما فعله صبحي موسى في (نادي المحبين) -روايته الصادرة في هذه الأيام عن دار سما -2021- من وجهتين: الأولى استخدامه لمفردة محب والتي شاعت في تصنيف الإخوان أيام يناير 2011 وما بعدها إلى إخواني ومحب! ليصنع معادلا مكافئا بين أندية المحبين جنسيا والتنظيمات باعتبارها ملتقى غريب الأفكار، الثانية استخدامه للواط كمعادل موضوعي للسياسة العالمية، وتخليطها للأمور تحت مفهوم الغاية تبرر الوسيلة للوصول إلى غايات لا تستقيم فيها طبائع الأشياء. والحقيقة رغم أن الرواية تعتبر من روايات ديستوبيا السياسة، فقد مرت أحداثها المفجعة بسلاسة أكسبتها لها هذه المفارقات بين استخدامات اللغة للمفردات وتوريات المخيلة لمعاني أخرى دفينة؛ مما أعطاها مسحة من السخرية أو الكوميديا السوداء، فالحقيقة أنه لا فرق بين مُعتقِدٍ ومحب له؛ وهذا نوع من التدليس في استخدام الألفاظ لتمرير مفاهيم غير حقيقية وترسيخها يفجر الضحك، كما أن المصريون يقولون: "فلان "لوّاط" رغم أن لسانه عسل" وهم لايقصدون هنا أنه ممارس للمثلية الجنسية ، لكن هذا حين يكون الشخص يخلط ويخيل ويثير الفتن ويتدخل هنا وهنا فيما يعنيه وفيما لا يعنيه بجميل منظره وكلامه. وهذا ما رآه الكاتب وجعله ظل عمله في الجزء الأول، حيث بطله الإعلامي الذي يمارس البحث السياسي وأيضا يمارس اللواط بمعناه الجنسي، يقدم الروائي عمله بقول: "لا شيء في التاريخ واضح كما نعتقد؛ فكل حدثٍ له أكثر من رواية ومصدر " هكذا يبدأ الكاتب ملمحا لنا بعدة معاني، لكنه يشرح أهم مقاصده حين نختلف ليس أمامنا غير الإنجاز ننظر إليه، فطارق ابن زياد الفاتح العظيم لا أحد يعرف بالتحديد بلده الأصلي وقصة حياته الشخصية؟ لكن الجميع يعرف إنجازاته كقائدعظيم وهذا هو الأهم.
يعبر بنا الكاتب بعد هذا التقديم لعدة أفكار تلمح لمكونات الإنجاز كالإتقان وحب العمل والخبرة "فالرب نفسه احتاج إلى ستة أيام كي ينتهي من أعمال الدنيا، الرب الذي يمكنه أن يقول للأشياء كن فيكون، لم يستعمل كلمته السحرية هذه، وفضّل أن ينجز مملكته العظيمة برويّة وعلى مهل، الرب الذي لا يخطئ لم يحتج لأن ينهي عمله في يوم وليلة، كما لو أنه كان يستمتع بفكرة العمل نفسها. وأظن أن هذه المقدمات كانت ضرورية للدخول في الرواية وتلمح أن الإخوان أرادوا أن يحكموا على عجل وهم لم يتقنوا السياسة بعد وقد تناسوا أن تمسّحهم بالدين لن يسندهم كثيرا مالم يقدموا إنجازا وهذا ما حدث.. كما أنه يعبر بهذه المفاهيم عن الصبر والجهد المتقن للوصول لغاية وهذا ما فعله البطل، وحسن النجار الذي يرمز للجيش لاستعادة مصر في الجزء التاني؛ لذلك فكما بدأت الرواية تردد هذه المقاطع مع تأمل القاهرة الخديوية المبنية على غرار باريس عاصمة النور المعاصر، فقد انتهت تردد نفس المقاطع بعد استعادتها عبر تجربة مريرة.
تحكي الرواية بجزءيها أحداث 25 يناير 2011 وما ترتب عليها من اختطاف مصر حتى استعادتها بعد كفاح لم يستمر طويلا وإن كان شاقا.
- العمل لايكتفي برصد الأحداث وتوثيقها، ورغم وضوح ميول الكاتب وانحيازه ضد تيارات الإسلام السياسي والذي ظهر جليا بوصفهم بالشذوذ الفكري في قوله ردا على أحدهم حين أراد أن ينال منه ويصفه بالشذوذ الجنسي "أيهما أكبر بشاعة عندالله، الشذوذ الجسدي الذي يضر بفرد أم الشذوذ الفكري الذي يضيع أمة؟ "؛ فالرواية بها قدر كبير من التحليل المبني على معلومات حقيقية منها مخططات عالمية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يتوافق مع متطلبات دول كبرى مثل أمريكا -خاصة بعد معانتها من الإرهاب في أحداث بُرجيِّ التجارة - وطموحات دول صغرى مثل تركيا وبعض دول الخليج، وهذا الكلام من اجتماع لعشرة مفكرين سياسيين من بلاد مختلفة بأمريكا يختصر لنا فكرة مساندة التدين السياسي :"والداء هنا هو التطرف الذي أنتج إرهابيين قادرين على تهديد أي مكان في العالم، أما العلاج فهو استخدام هؤلاء المتطرفين بأحلامهم في استعادة دولة الخلافة، وإن لم نجِدْهم فعلينا خلقُهم، ومدُّهم بمختلف الأفكار البراقة لبناء الدولة الراشدة، الدولة التي ستوحّد العرب تحت راية الإسلام، حينها ستسود الفوضى، ويبدأ نزيف الجيوش وسقوط الأنظمة" وفي الواقع أن الكاتب يعرض كثيرا من أسباب رفضه لتيارات التدين السياسي وأهمها إدراكه أنهم مجرد أداة غير ناضجة لا تعي متغيرات العالم لتحقيق أحلام غير نبيلة لأهل المطامع. الرواية في بنيتها الفنية قسمها الكاتب إلى قسمين: الفقد، والاستعادة.. في الجزء الأول تعرض الكاتب بحرفية وثقافة عالية لكيفية صناعة السياسات وصناعة محركي الأحداث، فالموضوع ليس بالبساطة التي يتصورها الكثيرون/ مجرد أحداث ترد على بعضها ناتجة عن حاجات حقيقية للشعوب أو الأنطمة... إن الأحداث السياسية مخططات كبرى تبدأ بالْتقاط المفكرين النابغين؛ ثم وضعهم تحت السيطرة باستغلال نقاط ضعفهم حتى لو كانوا حالات انسانية تصل لحد التراجيديا، فالبطل في نادي المحبين مفعول به سالب جنسيا لتعرضه وأمه للقهر الجنسي تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية حولته لمنبطح، لكن هذا لم يجعل السياسة تعمل على علاجه وتنحية الظروف المسببه لانبطاحه، بل على العكس الكل استغل نقطة ضعفه لصالحه بقدر ثقافة المجتمع المحيط به، فالإخوان والأمير الخليجي بعثوا إليه بطعم لصيده وهم الدعاة للدولة الدينية والذين يجب أن يكونوا أبعد ناس عن استخدام مثل هذه الأشياء الخارجة على تعاليم ما يدعون إليه، والأمريكان وعدوه ووعدوا شريكته بمساندة أندية المثليين، وحتى من يرمز للأمن الوطني لم يسلم من استغلال نقطة ضعفه في مجتمع لا يرضى عنها. كان المزج بين ممارسة السياسة وممارسة اللواط موفقا فنيا، فكلاهما يسعى لإشباع رغباته بكل الوسائل سواء توافق الشكل مع المضمون أو تضادا، لهذا رسم الكاتب معظم المحركين للأحداث لهم ميول شاذة وأساليب شاذة لا ترعي دينا ولا إنسانية ولا صداقة ... فالسياسة عالم تحكمه المصالح، وهو متغير لا تحكمه المحبة والشعارات، فالأمير داعي الدولة الدينية يعطي حتى للشاذ من وجهة نظره، لا يعطيه المال فقط بل يعطيه من يشبع شذوذه كما أعطى "حمد" للبطل المفكر وأعطاه مليون دولار مقابل مقال، ووعد "إنعام" بحزب وقانون لحقوق المثليين! وسلب منهما هذا عندما انقلب عليهما، حتى أن البطل لم يعرف كيف سحبت أمواله من حسابه الشخصي، واليسار استغل انعام " ظلَّت تحكي كيف استخدمها كل من في الحزب لصالحه، وهي تتحمّل
رغباتهم وأغراضهم على أملِ أن تصبح صحفيّة بحق" وقد تعطى الإذن ثم يتبرأ منك من أعطاك إياه إذا ظهر أن التصرف قد يضر بمصالحه، كما حدث من المنشق عن التنظيم حين كشف أمره، والحاكم "أردوغان" يرى موت لوطي خسارة، لأنه يحقق مصالحه السياسية!
إن اللواط السياسي يطال كل مناحي الحياة فالطل الموهوب يجب أن يحصل على لقب علمي يتناسب مع حجم موهبته لذا تم إقناعه بنيل الدكتوراه ووفرت له كل وسائل الحصول عليها من أكبر الجامعات الفرنسية المتخصصة!
حقا إن الجزء الأول ثري بالمعلومات والثقافة السياسية وموفق فنيا في بناء الشخصيات وتشكيل الأحداث بما يخدم توجهات الكاتب ورؤياه.
جاء الجزء الثاني وكأنه إجابة عن سؤال كان يلح على ذهن القارئ بطول وعرض الجزء الأول: إذا كان الكل يرى مصالحه ولايرى مصالح الشعوب، وإذا كان الكل كاذب ولوطي، فما المخرج؟
يرى الكاتب أن المخرج في الوعي والانحياز لطبيعة الأشياء فكيف نصدق أن من يمتلكون شبكات تهريب البضائع أو المخدرات أو البشر دعاة تدين أو إنسانية أو ديمقراطية؟، "قلت له المهم أن نتحدث عن تزييف الوعي،" فالوعي لن يوقعنا في براثن صناع الأخبار الموجهة والذين تدعمهم شبكات وسياسات كبرى تفوق تصور المتلقي؛ حتى أن مقالا واحدا دفع فيه أكثر من مليون دولار غير الهدايا وثمن الشبكات المروجة والمعقبين عليه!
وكما تم توظيف اللواط في الجزء الأول توظيفا يخدم رؤيا الكاتب لما يحدث سياسيا ضد مصر والعراق وسوريا وليبيا وكل من يعيق مصالح أمريكا؛ تم توظيف التعافي منه لخدمة الجزء الثاني والذي استعادت فيه مصر نفسها وعادت إلى طبيعتها فقد تزوج البطل المريض العجوز بصباح الشابة وعاد طبيعيا وأنجب طفلا ، وربما كانت فقرته التي يقول فيها
"إذا سمحنا للغرباء بالدخول إلى غرف نومنا، فما الذي يمكننا عملَه غير أن ننجز ما يتوقعونه منا، فلم تعد لحياتِنا قيمة بعد الآن؛ لأن كلانا كان محضَ ورقة في أيديهم، ولم يعودوا بحاجة إليها".. نعم علينا بالوعي الفردي والجمعي فهو المنقذ، فحركة رفض التي انبثقت من حركة كفى بدأت بفكرة فرد لتلتف حولها الجموع محدثة ثورة اسقطت تنظيما تدعمه أعتى دول العالم ومعاونيها من أعتى الأغنياء وكما صورها الكاتب لم تكن هذه الحركة أكثر من لحظة وعي .




1646730332054.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى