محمد السلاموني - الميتافيزيقا والخراب

يوغل الوجود البشرى فى الزمن ، فيما قبل الأديان السماوية الكبرى ، المعروفة ، بكثير ... وتثبت علوم التاريخ والآثار واللغة المقارن والميثولوجيا ... إلخ ، أن معرفة الإنسان بالوجود مكتنزة بالعلم ؛ فهناك حضارات تكونت واندثرت لتأتى بعدها حضارت تلو أخرى ، حتى أن الحضارت التى نعرفها (كالمصرية القديمة والبابلبة والأشورية والفينيقية والصينية واليونانية والرومانية والإسلامية والغربية الحديثة) ، إن هى إلا حلقات (متصلة ، منفصلة) فى سلسلة الحضارات الإنسانية ..
هذا وما الأديان السماوية إلا نتاجا للتراكم المعرفى الإنسانى نفسه - ففيما عدا التنبوء ببعض الأشياء ؛ كعادة (الكهنة والسحرة والمنجمين القدماء) ، لا تحتوى الأديان على جديد يذكر ... بل ويمكن الزعم بأنها لا تزيد عن (غربلة) للتراثات المعرفية القديمة ، و (انتخاب) منها ...
لكن ما يعنينى هنا ، هو أن ظهور الأديان الكبرى المعروفة ، وانتشارها وتوزع العالم عليها ، كان بمثابة الكارثة الكبرى فى المسيرة الحضارية البشرية ، إذ انقطعت عن توالدها من بعضها البعض وعن تنوعها واختلافها (أو قل بأن وتيرة التغير صارت أبطأ من ذى قبل بكثير) / أعنى أن الأديان عمدت نحو (تثبيت) المعرفة البشرية ، فهى أول محاولة كبرى (لوضع شروط ثابتة ، أى حدود راسخة ، للمعرفة البشرية) ، ومن ثم (لتقنين) العلاقات البشرية - فى إطار هدف أعلى ، يرتكز على (إدراك ماهية الوجود كما أرادها الله) ...
ولم تكن تلك الأديان سوى بلورة وتكثيف - دعت إليه الحاجة التاريخية حينذاك - لتوحيد العالم (تحت راية مقدس ما) ، بفرض ثقافة محددة على الثقافات الأخرى (فكما أن الأديان نفسها كانت مجرد إلتهام - وصهر وهضم - للأديان السابقة عليها ، كان إنتشارها ، كذلك ، إلتهاما للمختلف والمغاير والمتعدد) ..
فعلى سبيل المثال ، إذا كان (القرآن) يمثل معجزة لغوية ، وتحولا فى البنية الأسلوبية العربية ، إذ دفع بالنثر (العربى) نحو آفاق أرحب ... فما قيمة تلك المعجزة اللغوية الخاصة بالتراث اللغوى العربى خارج جزيرة العرب - حيث تقيم شعوب أخرى تمتلك لغات وأساليب تعبيرية خاصة بها ، ومختلفة تماما بطبيعة الحال ؟..
يكفى أن نذكر (ملحمة جلجامش) فقط ، للتدليل على أن اللغات الأخرى المجاورة جغرافيا لجزيرة العرب ، كانت أكثر تطورا وثراءا من المعلقات العربية مجتمعة ؛ التى هى مفخرة العرب (باعتبارها النموذج اللغوى الجاهلى الذى تجاوزه القرآن) ..
غير أن ما أريد الحديث عنه هنا تحديدا ، هو أن مفهوم (الزمن الخطى ، المتصاعد نحو إدراك هدف ما - هو هدف الله من الوجود) ، ذلك الذى أتى به الأنبياء ، عوضا عن التصور القديم عن الزمن الدائرى (عود على بدء) ، كان ولايزال هو المفهوم الكامن وراء فكرة (التقدم) التى تأسست عليها الحداثة الغربية ؛ كما تبلورت واكتملت على يد (هيجل) ..
تلك الفكرة ، الميتافيزيقية بجلاء ، هى التى أفسدت التاريخ ، ذلك أنها صارت هى (فكرة التاريخ) نفسه ، هذا وقد ارتبطت بها أنظمة المعرفة تماما ، مما يعنى أن المعرفة تحولت إلى (أنظمة) تتماهى بداخلها فكرة التاريخ (التاريخ الساعى إلى إكتماله) ، أو أن التاريخ يتطور (يتقدم) ، من خلال الأنظمة المعرفية المختلفة ، بهدف الوصول إلى (...) ..
وهو ما حاولت (مابعد البنيوية وما بعد الحداثية) فضحه ، بالكشف عن أنه مجرد (تمثل) ينبنى على فرضيات لا يبررها سوى (إدعاء التفوق العرقى "الغربى" - كما يقول كلود ليفى اشتراوس ، وغيره) .
وكما نلاحظ ، فالعرب (المسلمون) ؛ (خير أمة أخرجت للناس) ، ومن قبلهم اليهود (شعب الله المختار) ، لقد كان (إدعاء التفوق العرقى) هو الدافع الأيديولوجى ، والأسطورى ، الكامن وراء مشروعاتهما (الإستعمارية) للهيمنة على العالم ..
والفكرة هنا تتلخص فى الإعتقاد بأن (سر الوجود وماهيته ؛ حقيقته) قد تم الإمساك به من قِبَل هذا العِرق تحديدا ، وبموجب ذلك ، صار حاملا رسالة (الله) إلى العالم (!!) ..
أى خراب هذا ؟ ، أى خراب ؟!! ...
اللحظة التاريخية التى نحياها الآن ، كما أعتقد ، هى لحظة الأحتدام القصوى التى بلغتها التناقضات الميتافيزيقية التى شملت كل شئ ، وصنعت تاريخ العالم ، ويبدو أننا نحيا الآن (المشهد الأخير) من تلك التراجيديا السخيفة التى راح ضحيتها ملايين البشر ، ودمرت الوجود بما فيه الكفاية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى