4- ابن وكيع التنيسي:
فهذا ابن وكيع في المنصف يردد نفس الملاحظات السابقة فيقول : «إن مرور الأيام قد أنفد الكلام، فلم يُـبْقِ لمتقدم على متأخر فضلا إلا سبق إليه، واستولى عليه»( ) إلا أنه يرى الحل كامنا في اتجاه الشعراء إلى تخطي المنظوم للأخذ من المنثور، لأنه منجم شبه غُفْلٍ؛ العارفُ به قليل والجاهل به كثير، و«لأن المعاني المستجادة والحكَم المستفادة إذا وردت منـثورة كانت كالنوادر الشاردة، وليس لها شهرة المنظوم السائر على ألسنة الراوين…وقد أبقى قائل الحكم المنثورة لسارقها من فضيلة النظم ما يزيد في رونق مائها…فإذا جلاها النظم نسبت إلى السارق، واستُحقت على السابق»( ). وهذا الذي اقترحه ابن وكيع لا يعدو أن يكون فتحا لباب جديد يتغذى منه النقد الذي كاد يستنفد غرضه من موضوع السرقات في هذا العصر، ونتذكر في هذا الباب تلك الرسالة التي ألفها الحاتمي الموسومة ب"الرسالة الحاتمية"( )، في سرقات المتنبي من أقوال أرسطا طاليس، فهي ليست مجرد سرقة من النثر العربي، بل فوق ذلك، من نثر اليونان. فما قاله ابن وكيع تنظيرا كان قد قام الحاتمي بتطبيقه في دراسته هذه، ومن أمثلة ذلك: «قال الحكيم: إذا كانت الشهوة فوق القدر، كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.
قال المتنبي : [الخفيف].
وَإِذاَ كَانت النُّفوسُ كبَارا تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجْسامُ»( )
ويذكر ابن وكيع عشرين وجها للسرقة، عشرة منها للسرقة المحمودة والعشرة الثانية للسرقة المذمومة لا تزيد ولا تنقص فأوجه الجودة عنده هي :
1.الأول من ذلك استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل
2.والثاني نقل اللفظ الرذل إلى الرصين الجزل.
3.والثالث نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه
4.والرابع عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد أن كان هجاء
5.والخامس استخراج معنى من معنى احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه
6.والسادس توليد كلام من كلام، لفظهما مفترق ومعناهما متفق
7.والسابع توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات.
8.والثامن مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام، وإن كان الأول أحق به لأنه ابتدع والثاني اتبع.
9.والتاسع مماثلة السارق المسروق منه في كلامه بزيادته في المعنى ما هو من تمامه.
10.والعاشر : رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظه على لفظ من أخذ عنه( ).
وبعد استيفاء الأوجه العشرة الأُوّل، يمثل لكل وجه بما يراه مناسبا من الشعر، فمما أورده، مثلا ، في الوجه الأول قول "طرفة بن العبد": [الطويل]
أَرَى قَــــبْرَ نَــحَّـامٍ بَخِيلٍ بِـمـالِـهِ كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البـَطالَــةِ مُفسدِ( )
ويرى أن "ابن الزبعرى" اختصره فقال: [الرمل]
والعَطِيَّاتُ خِساسٌ بينَهُمْ وسواءٌ قَبْرُ مُـــــثْرٍ وَمُــقــِــلّْ( )
«فقد شغل صدر البيت بمعنى، وجاء ببيت طرفة في عجز بيت أقصر منه؛ بمعنى لائح، ولفظ واضح»( ).
وأما العشرة المذمومة فهي ببساطة معكوسات الأوجه السابقة وأضدادها:
1.الأول: نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير
2.الثاني: نقل الرصين الجزل إلى المستضعف الرذل
3.والثالث: نقل ما حسن مبناه ومعناه إلى ما قبح مبناه ومعناه
4.والرابع: عكس ما يصير بالعكس هجاء بعد أن كان ثناء
5.والخامس: نقل ما حسنت أوزانه وقوافيه إلى ما قبح وثقل على لسان راويه.
6.والسادس: حذف الشاعر من كلامه ما هو من تمامه.
7.والسابع: رجحان كلام المأخوذ عنه على كلام الآخذ منه.
8.والثامن: نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي.
9.والتاسع: نقل ما يثير على التفتيش والانتقاد إلى تقصير أو فساد.
10.والعاشر: أخذ اللفظ المدعى هو ومعناه معا( ).
فمن أمثلته على القسم الرابع مثلا قول أبي نواس : [مجزوء الرمل]
فَهْـوَ بِالمَالِ جَوَادٌ وهو بالعِرْضِ شَحِيحُ( )
عكسه ابن الرومي فقال: [مجزوء الكامل حسب القصيدة في الديوان]
ما شِئتَ من مَالٍ حِمىً يأوي إلى عِرْضٍ مُباح( )
وقد أورد أمثلة هذا القسم دون تعليق منه، كما يفعل في بعض الأحيان، وإذا تأملنا الوجه الرابع، تبين لنا أن ابن وكيع لا ينظر إلى جمال الشعر، بل تحكمه نظرة مسبقة ترى كل "مدح" جميلا وأي "هجاء" قبيحا. فهو يربط الجمال بالمضمون، ومن هنا لا يمكن الاتفاق معه على رداءة بيت ابن الرومي. كما يمكن اعتبار جميع الأحكام التي أوردها على كثير من الأوجه المذكورة مجرد انطباعات يخطئ فيها ويصيب، مما يجعله بعيدا عن الموضوعية التي لاحظناها جليا في ما كتبه ابن سلام وابن طباطبا والقاضي الجرجاني. فإن كان هذا، هكذا في ديباجة الكتاب، وإزاء شعر بعيد عن الغرض الذي يستهدفه، فكيف سيكون تعامله مع هذا الغرض، وهو شعر المتنبي الذي لا يكن له الاحترام، في سائر الكتاب؟ هذا ما نبه إليه أحدهم بهامش مخطوط المنصف منتقدا ابن وكيع بقوله : «اعلم أنه نبه أهل علم البديع أن ما يكثر دورانه بين الشعراء مثل تشبيه القد بالغصن واللحظ بالسيف، ونحو ذلك، لا يسمى سرقة، وهنا قد جعل ذلك من السرقات، ولهذا تراه عطل المتنبي من الشعر، وبخسه حقه...بل جعل وجود لفظة واحدة في بيت من شعره سرقة. وإذا تأملت لم تجده كما أخذ نفسه من الإنصاف»( ). ونفس الملاحظة كانت لابن رشيق حين قال عنه : «قدَّم في صدر كتابه...مقدمة لا يصح معها لأحد شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم. وسمى كتابه (المنصف) مثلما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه»( ).
الهوامش :
– المنصف؛ 7.
- نفسه.
– نشرت بمجلة المشرق السنة 29 سنة 1931. ومنشورة في- البديع (لأسامة بن منقذ)؛ 370-398-(ط القاهرة 264-283)
– الرسالة الحاتمية؛ 276 والبديع؛ 370. وشرح ديوان المتنبي؛ 64:4. وفي هامشه إحالات أخرى على غير أرسطو.
– نفسه؛ 9..
– نفسه. وشرح ديوان طرفة؛ 47.
– نفسه. وديوان عبد الله بن الزِّبَعْرَى؛ 41، من كلمة له في يوم أحد.
– نفسه.
– نفسه؛ 27.
– نفسه؛ 31 وديوان أبي نواس؛ 434. آخر بيت في قصيدة مديح.
– نفسه. وديوان ابن الرومي؛ 2: 515.
– نفسه؛ 7 الهـامش رقم1.
– العمدة؛ 1039.
د. المختار حسني
* جريدة " الشمال "، عدد يوم السبت 19 مارس 2022.
فهذا ابن وكيع في المنصف يردد نفس الملاحظات السابقة فيقول : «إن مرور الأيام قد أنفد الكلام، فلم يُـبْقِ لمتقدم على متأخر فضلا إلا سبق إليه، واستولى عليه»( ) إلا أنه يرى الحل كامنا في اتجاه الشعراء إلى تخطي المنظوم للأخذ من المنثور، لأنه منجم شبه غُفْلٍ؛ العارفُ به قليل والجاهل به كثير، و«لأن المعاني المستجادة والحكَم المستفادة إذا وردت منـثورة كانت كالنوادر الشاردة، وليس لها شهرة المنظوم السائر على ألسنة الراوين…وقد أبقى قائل الحكم المنثورة لسارقها من فضيلة النظم ما يزيد في رونق مائها…فإذا جلاها النظم نسبت إلى السارق، واستُحقت على السابق»( ). وهذا الذي اقترحه ابن وكيع لا يعدو أن يكون فتحا لباب جديد يتغذى منه النقد الذي كاد يستنفد غرضه من موضوع السرقات في هذا العصر، ونتذكر في هذا الباب تلك الرسالة التي ألفها الحاتمي الموسومة ب"الرسالة الحاتمية"( )، في سرقات المتنبي من أقوال أرسطا طاليس، فهي ليست مجرد سرقة من النثر العربي، بل فوق ذلك، من نثر اليونان. فما قاله ابن وكيع تنظيرا كان قد قام الحاتمي بتطبيقه في دراسته هذه، ومن أمثلة ذلك: «قال الحكيم: إذا كانت الشهوة فوق القدر، كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.
قال المتنبي : [الخفيف].
وَإِذاَ كَانت النُّفوسُ كبَارا تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجْسامُ»( )
ويذكر ابن وكيع عشرين وجها للسرقة، عشرة منها للسرقة المحمودة والعشرة الثانية للسرقة المذمومة لا تزيد ولا تنقص فأوجه الجودة عنده هي :
1.الأول من ذلك استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل
2.والثاني نقل اللفظ الرذل إلى الرصين الجزل.
3.والثالث نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه
4.والرابع عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد أن كان هجاء
5.والخامس استخراج معنى من معنى احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه
6.والسادس توليد كلام من كلام، لفظهما مفترق ومعناهما متفق
7.والسابع توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات.
8.والثامن مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام، وإن كان الأول أحق به لأنه ابتدع والثاني اتبع.
9.والتاسع مماثلة السارق المسروق منه في كلامه بزيادته في المعنى ما هو من تمامه.
10.والعاشر : رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظه على لفظ من أخذ عنه( ).
وبعد استيفاء الأوجه العشرة الأُوّل، يمثل لكل وجه بما يراه مناسبا من الشعر، فمما أورده، مثلا ، في الوجه الأول قول "طرفة بن العبد": [الطويل]
أَرَى قَــــبْرَ نَــحَّـامٍ بَخِيلٍ بِـمـالِـهِ كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البـَطالَــةِ مُفسدِ( )
ويرى أن "ابن الزبعرى" اختصره فقال: [الرمل]
والعَطِيَّاتُ خِساسٌ بينَهُمْ وسواءٌ قَبْرُ مُـــــثْرٍ وَمُــقــِــلّْ( )
«فقد شغل صدر البيت بمعنى، وجاء ببيت طرفة في عجز بيت أقصر منه؛ بمعنى لائح، ولفظ واضح»( ).
وأما العشرة المذمومة فهي ببساطة معكوسات الأوجه السابقة وأضدادها:
1.الأول: نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير
2.الثاني: نقل الرصين الجزل إلى المستضعف الرذل
3.والثالث: نقل ما حسن مبناه ومعناه إلى ما قبح مبناه ومعناه
4.والرابع: عكس ما يصير بالعكس هجاء بعد أن كان ثناء
5.والخامس: نقل ما حسنت أوزانه وقوافيه إلى ما قبح وثقل على لسان راويه.
6.والسادس: حذف الشاعر من كلامه ما هو من تمامه.
7.والسابع: رجحان كلام المأخوذ عنه على كلام الآخذ منه.
8.والثامن: نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي.
9.والتاسع: نقل ما يثير على التفتيش والانتقاد إلى تقصير أو فساد.
10.والعاشر: أخذ اللفظ المدعى هو ومعناه معا( ).
فمن أمثلته على القسم الرابع مثلا قول أبي نواس : [مجزوء الرمل]
فَهْـوَ بِالمَالِ جَوَادٌ وهو بالعِرْضِ شَحِيحُ( )
عكسه ابن الرومي فقال: [مجزوء الكامل حسب القصيدة في الديوان]
ما شِئتَ من مَالٍ حِمىً يأوي إلى عِرْضٍ مُباح( )
وقد أورد أمثلة هذا القسم دون تعليق منه، كما يفعل في بعض الأحيان، وإذا تأملنا الوجه الرابع، تبين لنا أن ابن وكيع لا ينظر إلى جمال الشعر، بل تحكمه نظرة مسبقة ترى كل "مدح" جميلا وأي "هجاء" قبيحا. فهو يربط الجمال بالمضمون، ومن هنا لا يمكن الاتفاق معه على رداءة بيت ابن الرومي. كما يمكن اعتبار جميع الأحكام التي أوردها على كثير من الأوجه المذكورة مجرد انطباعات يخطئ فيها ويصيب، مما يجعله بعيدا عن الموضوعية التي لاحظناها جليا في ما كتبه ابن سلام وابن طباطبا والقاضي الجرجاني. فإن كان هذا، هكذا في ديباجة الكتاب، وإزاء شعر بعيد عن الغرض الذي يستهدفه، فكيف سيكون تعامله مع هذا الغرض، وهو شعر المتنبي الذي لا يكن له الاحترام، في سائر الكتاب؟ هذا ما نبه إليه أحدهم بهامش مخطوط المنصف منتقدا ابن وكيع بقوله : «اعلم أنه نبه أهل علم البديع أن ما يكثر دورانه بين الشعراء مثل تشبيه القد بالغصن واللحظ بالسيف، ونحو ذلك، لا يسمى سرقة، وهنا قد جعل ذلك من السرقات، ولهذا تراه عطل المتنبي من الشعر، وبخسه حقه...بل جعل وجود لفظة واحدة في بيت من شعره سرقة. وإذا تأملت لم تجده كما أخذ نفسه من الإنصاف»( ). ونفس الملاحظة كانت لابن رشيق حين قال عنه : «قدَّم في صدر كتابه...مقدمة لا يصح معها لأحد شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم. وسمى كتابه (المنصف) مثلما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه»( ).
الهوامش :
– المنصف؛ 7.
- نفسه.
– نشرت بمجلة المشرق السنة 29 سنة 1931. ومنشورة في- البديع (لأسامة بن منقذ)؛ 370-398-(ط القاهرة 264-283)
– الرسالة الحاتمية؛ 276 والبديع؛ 370. وشرح ديوان المتنبي؛ 64:4. وفي هامشه إحالات أخرى على غير أرسطو.
– نفسه؛ 9..
– نفسه. وشرح ديوان طرفة؛ 47.
– نفسه. وديوان عبد الله بن الزِّبَعْرَى؛ 41، من كلمة له في يوم أحد.
– نفسه.
– نفسه؛ 27.
– نفسه؛ 31 وديوان أبي نواس؛ 434. آخر بيت في قصيدة مديح.
– نفسه. وديوان ابن الرومي؛ 2: 515.
– نفسه؛ 7 الهـامش رقم1.
– العمدة؛ 1039.
د. المختار حسني
* جريدة " الشمال "، عدد يوم السبت 19 مارس 2022.