أنسي الحاج - ماركسيّات..

يتساءل المؤرخ أندريه بورغيير: ماذا يبقى من الإسهام الماركسي في الفكر التاريخي الراهن منذ انهيار جدار برلين وتساقط الأنظمة الشيوعيّة؟ ويجيب بأن هذا الإسهام باقٍ على حاله لم يصبه تلف ولا يزال برسم الاكتشاف، معلّقاً على قول سارتر أنه قرأ ماركس ولم يفهم شيئاً، بأن الوسط الثقافي الفرنسي لم يُحِط بفكر ماركس الإحاطة الكافية وبقي مريدوه مقتصرين على «دائرة ضيّقة من المناضلين الذين يطالعونه ويستخدمونه على نحو رَعَوي». ويعطي بورغيير مثلاً على حيوية الماركسيّة واستمرار معاصَرَتها هذه العبارة لكلود ليفي ستروس: «نادراً ما أعكف على معالجة قضية سوسيولوجية أو إتنولوجيّة دون أن أقوم قبل ذلك بإنعاشٍ لفكري عبر مطالعة بضع صفحات من (كتابَي ماركس) «لوي بونابرت» و«نقد الاقتصاد السياسي». قصدي من ذلك ليس معرفة ما إذا كان ماركس قد أصاب في توقّع هذا أو ذاك من تطورات التاريخ. لقد علَّم ماركس، مقتدياً في ذلك بروسّو، أن علم الاجتماع لا يقوم على خلفيّة الأحداث، تماماً كما أن الفيزياء لا تقوم على معطيات الشعور. إذا انتقلنا إلى مستوى آخر من الواقع، يبدو لي أن الماركسيّة تنهج نهج علم الجيولوجيا والتحليل النفسي: ثلاثتها تُظْهر أن الإدراك يكمن في اختزال نموذج من الواقع تحت شكل نموذج آخر، وأن الواقع الحقيقي لا يتبدّى أبداً في الواقع الأسطع، وأن طبيعةَ الحقيقي يبدأ ظهورها أول ما يبدأ في الحرص الذي تبديه على التواري».
■ ■ ■
من المفارقات العربية أن رشيد رضا رأى تطابقاً بين القيم الماركسيّة والمبادئ الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية الأولى.
■ ■ ■
بعد ثورة 1917 البولشفيّة عقد مسلمو الإمبراطورية الروسية الآمال على حلف مع الشيوعيين يعيد إليهم استقلالهم، وتجاوبوا مع نداء لينين بالانضمام إلى حركته، واعداً إيّاهم باحترام ثقافاتهم ومؤسساتهم. غير أن إنشاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي ابتداءً من 1923 بدّد الآمال. وفي المقابل، وكمثال وحيد من نوعه، كان أتاتورك زعيم تركيا الفتاة يتحالف مع الشيوعيين على أنقاض الإمبراطورية العثمانية ثم ينقضّ عليهم ليبني دولته العلمانيّة بنهج شبه أوروبي غربي. لكن تركيا الأنتي شيوعية أعطت بضعة أعلام شيوعيين في الأدب خصوصاً، طليعتهم الشاعر ناظم حكمت.
في البلدان العربيّة عانى الشيوعيون على الدوام من التناقض بين أمميّتهم وبين استهواء الحركات القوميّة لهم أو اضطرارهم إلى مسايرتها تحت شعار مشترك هو مناهضة الإمبريالية. وعلى الجملة، في الصراع بين الغرب والشرق، كان الشيوعيون العرب يسدّدون الفواتير، تارةً باضطهادهم علناً وطوراً بقصقصة أجنحتهم عبر تذويبهم في الديكور المحلّي. وفي التنازع العربي ـــــ الإسرائيلي برزت أكثر فأكثر تناقضات الأحزاب الشيوعية والتناقض القومي ـــــ الأممي والإسلامي ـــــ الماركسي، وبينما كانت النزعات العربية الراديكاليّة في السلطة وفي المعارضة تنادي باقتلاع إسرائيل من الجذور، كانت الأحزاب الشيوعية تركّز على مهاجمة الصهيونيّة كحركة عنصريّة متفرّعة من الاستعمار الغربي. وعلى صعيد آخر، انعكس فشل الأنظمة العربية «الاشتراكيّة» على الشيوعيّة العربية عموماً، أولاً لمصلحة القوميّات وفي ما بعد لمصلحة صعود النجم الإسلامي.
■ ■ ■
نقطة قد تستوجب البحث: الأخلاق في الماركسيّة. جوهريّة؟ غير محبَّذة لأنها غير واقعيّة؟ لأنّها معوّقة في ما يتعلق بممارسة العنف، مثلاً؟ هناك مَن صنّف ماركس في خط نيتشه على صعيد الانعتاق من الأخلاق التقليديّة، بالإضافة إلى انحياز ماركس الطبيعي لسلاح السياسة كأداة كبرى لتحقيق غايات الحرب الطبقية. وحين تقول سياسة لا تعبأ كثيراً بالمناقبيّات عادة. إلاّ أن هذا التصنيف لم يصمد عند الماركسيين الجدّيين، وهم إذ يقرّون بأن الماركسيّة تخلو من أدبيات المناقبيّة التقليدية التي تحفل بها العقائد التبشيرية عادة، يلفتون إلى قيم ثابتة عند صاحب «رأس المال» أبرزها: البُعد الكونيّ، احترام الشخص كغاية في ذاته، والدعوة إلى تحقيق استقلاله الذاتي في جميع الحقول.
هذه القيم أضفتْ على كتابات ماركس روحاً حماسيّاً ميّزها من البحث العلمي الصرف الجاف. عندما ننسى أن الماركسيّة نظام يتوخّى تحرير الإنسان قد نغرق في تفاصيلها العقلانيّة. وهذا ما حصل مراراً، وهو في أساس خلافات والتباسات كثيرة. حتّى لو لم يعيّن المرء قيمه الأخلاقيّة بأسمائها، يكفي أن تكون غايته التحرير أو الحريّة، وتحقيق «سيادة الحريّة محل سيادة الضرورة»، حتّى نتيقّن من أن قيمه ـــــ لا بل «قيوده» ـــــ الأخلاقيّة جزء طبيعي من مشروعه.
■ ■ ■
خلافاً للشائع، لم يُعر ماركس الموضوع الديني أهمية كبيرة. فقد كان مقتنعاً بأن تحسين الظروف الاقتصادية سوف يستتبع تلقائياً تلاشي «الأوهام الدينية». اكتفى، تقريباً، باعتبار الدين «بنية فوقية» غايتها صرف انتباه الشعوب عن القضية الأساسية، أي استغلال الإنسان للإنسان واستعباده. نقّاد كثيرون عابوا على ماركس هذا التبسيط، فالغيبيّة ليست مجرد نتيجة للبؤس المعيشي، ولا يمكن، عن طريق توفير الحقوق الاجتماعية، إلغاء الحاجة إلى تلَمُّس «الغائب». لقد هجس ماركس بالعنصر الاقتصادي كما هجس فرويد بالعنصر الجنسي، وفي كل هجس طغيان، وإن تكن حقائق الحياة وما انكشف وينكشف من أسرار الكائن البشري قد أعطت الحقّ لنظريات فرويد أكثر ممّا أعطته، على صعيد العلاقة بالدين، لكارل ماركس. لعلّ تحرّر الإنسان، روحاً وجسداً، سيظلّ منوطاً باسترجاعه أملاكه النفسيّة أكثر منها حقوقه الماديّة، وتيقّنه من أنه كان ويبقى هو الخارج والداخل، المصوِّر والمصوَّر، الجائع والمُطْعِم، راسم الحدود ومتجاوزها. ممكن للإنسان إن يُسْقط الآلهة حيث يريد، فلا شرط على الخيال ـــــ ولا قيود على الرغبة والحاجة، ولكن شتّان بين إسقاطٍ كهذا تحت وطأة الجهل والاتّباع، وشعور نابع من تَصالُح مع الذات والكون.
■ ■ ■
في كتابهما «الأيديولوجيا الألمانية» (1846) يقول كارل ماركس وفريديريك إنغلز: «أفكار الطبقة المسيطرة هي، في كل زمن، الأفكار المسيطرة». رقصة التوازن اللبنانيّة تقوم على مزيج أفكار «الطبقات» المسيطرة. أو بالأحرى الطوائف المتفاعلة بعضها مع بعض أو ضد بعض سياسيّاً واجتماعيّاً. ترتفع كفّة في الميزان أحياناً على كفّة، ولكن ضمن قوانين الجاذبيّة، وإذا أطاحتها نشبت حروب أهليّة أو تدفّقت موجاتُ هجرة. لبنان ليس أكثر من نقطة غير مرئيّة على خريطة الأرض ويتوقّف على ديموقراطيته الطائفيّة أن تكون هذه النقطة قاتمة أو متوهّجة. أكثر من أيّ وقت مضى ترتدي الديموقراطية في لبنان معنى التعايش، بل معنى التحاضن.
■ ■ ■
حاول شعراء، بينهم أندريه بروتون والعديد من السورياليين، وخاصةً في ثلاثينات القرن العشرين، التوفيق بل التوحيد بين الشعر والعلم، بين الخيالي والسياسي، بين «تغيير العالم» بحسب قول ماركس و«تغيير الحياة» بحسب كلمة رمبو.
رأى الشعراء أن غاية الطموحَين واحدة، وهي تحرير الإنسان، غير أن الوسائل اختلفت حدّ التضارب الجارح. فمقتضيات العمل السياسي تستوجب انضباطاً معيّناً وأعمالاً فعّالة في الواقع المباشر، فيما يريد الشاعر الحريّة، بل التحرير التام من كل ضغط. كثيرون من التغييريّين اعتنقوا الثورة عن طريق التأمّل في حقائق التاريخ والاقتصاد ومكابدة العمل السياسي، على عكس معظم الشعراء إن لم نقل جميعهم. فهؤلاء ينطلقون من الإحساس والحلم والتأثّر، وإذا استهوتهم نظريّة فبمقدار كونها ترجمة لإحساسهم وحلمهم وتأثّرهم، ترجمة لا تلزمهم تأدية فروض عمليّة أو واجبات حزبيّة، فكل ما ينتمي إلى نظام، أيّاً يكن النظام، مرفوض، خصوصاً الأنظمة الشموليّة، وبالأخصّ منها تلك التي لا تعير كبير شأن للجانب النفساني والخيال الطَلْق والفكر الحرّ.
وأكثرُ مَن عبّر عن هذا التمزّق بين ثوريّتي الماركسيّة والسورياليّة هو بروتون نفسه، حين قال ما معناه إنه، مثلما رفض فكرة تعالي الله أو مجاوزته، يرفض فكرة تعالي المادة أو مجاوزتها. ففكر الإنسان متفوّق على المادة وعلى التاريخ، وحرّيته مطلقة لا يُملى عليها من خارج، فلا شيءَ سابق على الوجدان ولا شيءَ يقدر على استعباده، ويستحيل اختزال الفرد وأفكاره بالتاريخ والمجتمع.
هذه المشكلة عاناها غير الشعراء أيضاً وغير السورياليين. سارتر نفسه عاش ما يشبهها، وإن يكن خلافه مع الشيوعيين قد حصل لأسباب أخرى وظلّ يؤرجحه بين مدّ وجزر حتى الرمق الأخير. ولعلّنا نستطيع، ببعض التبسيط والمجازفة، اختصار هذه المشكلة الثقافيّة بالتعارض الأساسي بين العالم الداخلي للكاتب أو الفنّان وحاجة هذا العالم إلى النبض على هواه بصدق وصيرورة مفتوحة على مجاهلها ـــــ وعقيدة خارجيّة جاهزة، مغلقة، لا تعبأ بشيءٍ يخالف أو يتجاوز حدود المادة والمعطى التاريخي وتنظر إلى ما يجادلها في هذا نظرة سخرية أو عداء.
وأبعد من السورياليّة والشيوعيّة يطرح الفيلسوف فردينان آلكييه هذا السؤال: «لماذا الفكر السياسي المسمّى يساريّاً يندرج مع الفكر الثقافي الأشدّ رجعيّة والأكثر تخلّفاً؟ ولماذا التمرّد، الذي من خلاله ينتفض الإنسان على الضغوط التي ترهقه، يبدو متعارضاً مع الثورة؟».
■ ■ ■
في مقدمة كتابه «نقد الاقتصاد السياسي» يتنبّأ ماركس بقرب «زوال عهد ما قبل التاريخ للمجتمع البشري»، مطلقاً على الماضي كلّه حكماً مُبْرماً. بصرف النظر عن صحّة التنبّؤ أو عدمها، يستوقفنا هذا الأمل الوحشي. كثيرٌ من النتاج الماركسي المتراكم منذ ماركس لم يعد قابلاً للقراءة، لكنّ ما يُبقي هذه الشعلة حيّة ليس الحرف بل الحلم. ما يبقيها حيّة وما يشكّل خطرها الأكبر: فحول هذه اليوتوبيا وتحت ستارها هُدِم ما هُدم وقُتل مَن قُتل وارتُكبت ضد مجتمعات بأسرها فظاعات ومجازر. شأن كل حقّ يقع بين أيدي غير أصحابه. الخيانة مضمونة، سواء عبر انتهاك أمانة الأصل أو بالإفراط في الأمانة حتى التحجّر. مفارقة فاجعة لم يعرف لها التاريخ نهاية. العدل يُنتج ظلماً والحلم كابوساً والمساواة دبابة تُسوّي المعترضين بالأرض.
العودة إلى ماركس مرغوبة دوماً للقراءة. هو وإنغلز. هل يُحتمل أن يصبحا من جديد أساساً لثورات سياسيّة تنشئ أنظمة توتاليتاريّة جديدة تبدأ بالقول إنها ستتجنّب الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة الشيوعيّة السابقة؟ وماذا ستعني بالأخطاء: مبالغة الدكتاتوريّة أم «تقصير» الدكتاتورية؟ وأيّ حظ لمثل هذا الاحتمال بالتحقّق والنجاح بين معسكرَي الرأسماليّة والأصوليّات الدينيّة؟ وقبل ذلك وبعده: هل حُكم على الإنسان بأن لا يَرتجي غير ما سيندم على حصوله؟
■ ■ ■
نلتفت إلى مصادر أخرى. إلى طاقات الفنّانين ومخيّلات الشعراء. الجمال. هؤلاء هم آباؤه وأبناؤه. الاستمتاع بالجمال حقّ كوني شامل وسلوك فردي خاص في وقت واحد، والحريّة هنا مكفولة بلا نصوص. ما من سلطة إلاّ الإعجاب والحبّ. ما من دم يسيل بل هو انفراج السعادة. وراء جباه الخلاّقين، شعراء وفنّانين، تجلس مصادر الزمان، ومن هذه الجباه تخرج، على شكل لحظات من الرعشة والسحر، تلك الأبديّة التي أُسقطت عن الإنسان يوم حُكم عليه بالموت، وتُعاد إليه جمالاً أدبيّاً وموسيقيّاً وتشكيليّاً، جمالاً يضاهي، لو عشنا فيه، ألف حياةٍ خالدة في الجنّة.
أعلى