إلى الممثل: توهراش الغائب الحاضر بمناسبة اليوم العالمي للمسرح
وأنتَ تقفُ فوق الرُّكْحِ، يُخْتزل فيك كل الوجود.. أنت أيها القادر على الانسلاخ من"أناه" وتقمص كل الأدوار كي تكتمل ذاتك... أنت الراقص بين الأنا والذات، الرافض للاجترار... أنت القديم المتجدد... أعرف أناك وأنت تحاول التخلص من كل الموانع لتصبح ممثلا.. في القصبة مراكش وحديقة أكدال يوم كانت مسرحا لمن لا مسرح له،.. أعجبت بذاتك، عندما نلت جائزة أفضل ممثل في المغرب ثم قرطاج.. لكنك في كل لحظة تتويج، لم تؤمن بأن ذاتك قد اكتملت.. فأنت نسبي ترفض الكمال.. وتلك من مميزات كل ممثل مبدع، كل ممثل يخضع أناه لترويض مستمر من أجل الانعتاق فكنت رياضيا قارئا مقتنصا للطرائف مغنيا وباحثا في الثرات.. رأيت في ذاتك ذلك الطفل المستور في أناك البالغة، فعدت بنا، في أجمل لوحاتك، إلى لا شعورنا العميق، ما إن ترسم على وجهك ضحكة طفل، حتى تنقلنا إلى من زمن التهم إلى عالم البراءة، ومن التلوث إلى الصفاء منحتنا أجمل الدروس في الضحك، واعتليت بذلك منبر الفلاسفة، مترجما قولة نيتشه بإخلاص:"على الإنسان أن يتعلم كيف يضحك.".. في انزياحك بجسدك عن المألوف وفي مفارقاتك اللغوية المفاجئة التي تقلب الحزن إلى فرح، حررت فينا تلك الطاقة المتراكمة التي تولد الكآبة والانعزال، وأخرجتنا من ذلك الكهف المظلم.. جعلتنا نعانق الحلم.. ولا أمل في الحياة بدون حلم.. عندما كنت تخوض تدريبا في صناعة الأقنعة، مع ذلك الألماني، كنت تعلم بأن القناع في المسرح وسيلة للاختفاء،ابتكرت عددا لا يحصى من الأقنعة ثم قمت بإتلافها.. مزقت كل الأقنعة لتترك لملامح وجهك ولنظراتك قدرة التحول إلى ألوان؛ تتلون بكل ألوان قزح حسب الحوار والأدوار، فحققت التجلي والسفور، وجهك بألف قناع، ملامح وجهك إن انقبضت حزنت الدنيا، وإن استرخت عمَّ الفرح.. عيناك إن دمعت اهتز الوجدان أسى، وإن رفرفت أشفارها رفرف الفرح فراشة داخل القاعة.
كانت ذاتك كممثل، تشَرِّح الواقع المتخلف الذي نحيى فيه... كنت تلتقط أبشع مناظره وأكثرها تقَزُّزاً ونتانةً، وكنا نتلقاها بجمالٍ ومتعة... كان جسدك يرفض الخضوع لما زرعوا فينا الخوف منه، والذي ننبطح له بحكم العادة، كنت أنت الممثل توجه سهامك دون خوف إلى السلطة والسلطان، وإلى الأحزاب والبرلمان وإلى كل ذئب يتقمص هيئة إنسان، فنتطهر من كل الآثام.. تحجم عن الكلام، تأمر جسدك أن يتكلم، فتتحول حركاته إلى كلمات؛ تنظمها من خلال تنقلك داخل مناطق الخشبة.. تارة تختفي في أقصى اليسار حتى يكاد الجمهور يتجاهل وجودك، وتارة تتمركز في وسط اليمين، فترسل رسائلك القوية الحماسية فتولع النار، وعندما تقف على حافة الخشبة وتتنقل بين اليمين والوسط واليسار، يتحسس الجمهور آذانهم كأن حوارك مقبض زم بقوة على كل أذن ليترك الحوار أثرا ورد فعل قويا على كل الحضور.. بذلك أكدت أن المسرح لا مجال فيه للثرثرة، ولا للفضلات اللغوية. وأن البرهان والحجاج لا يتحقق بالعويل والصراخ.. وأن لغة جسدك مفتوحة على كل القراءات السيميائية سواء في ثباته أو تحركه.. لغة جسدك تأكيد على العودة إلى لغة الإنسان الأولى في بدائيتها قبل أن تعرف كل أنواع
التقعيد. لم تكن ذلك الممثل الذي اكتشف بعد شهرة أن المجتمع يعرفونه بأسماء الشخصيات التي قام بأدوارها، إنهم لا يعرفون اسمه الحقيقي فقال "أنا لا أحد" إنهم لا يعرفون كين لسارتر ولكننا نعرف عبد الهادي توهراش فتوهراش كاسم في حد ذاته كله نجومية ولمعان ولا يحتاج إلى أقنعة ولا يحتاج إلى ألقاب؛ ببساطة لأنك حولت كل محيطك إلى مسرح؛ لا تنتهي من بناء ذات في مسرحية حتى تشرع في بناء ذات أخرى.. تأكد لي ذلك عندما صادفتك في حديقة الحارثي بمراكش.. كنت رفقة رفيق دربك عبد العزيز البوزاوي "العشير" وهو يضع يده على كتفك وأنتما تجوبان الممرات الملتوية وتتكلمان بهمس.. رأيتك تسمع إليه لا كأنا بل بذات الممثل، لأنك تمشي وتتحرك وتتكلم بالمسرح.. فخلقت بذلك منطقا خاصا بك بواسطته تزن الأفكار والمشاعر والانفعالات.. عندما مرضت مرضك الأخير لم تستسلم بسهولة للموت واعتبرت المرض دورا مسرحيا عليك القيام به، وكنت توصي رفاقك بالشروع في التداريب وأنك ستلتحق بهم لحظة انتهاء أخبث دور تقمصته في حياتك. صرت تنظر إلى تحولات جسدك وهو يتفكك نظرة شفقة ورحمة ولم تيأس لإيمانك بأن الموت هو نهاية لمسرحية وفي الموت فراق لقوانين لعبة اسمها الحياة.
ودعتنا ذات صباح، وعلى لسانك :" الدنيا كوميديا لمن يفكر، وملهاة لمن يحس".
فلروحك سلام جلال الدين الرومي :
على الضاحكين وفي قلوبهم سنين بكاء أولئك الذين قرروا العيش ولم تحالفهم الحياة بعد.
موسى مليح
مراكش 26/03/2022
للمسرحي الراحل عبد الهادي توهراش
وأنتَ تقفُ فوق الرُّكْحِ، يُخْتزل فيك كل الوجود.. أنت أيها القادر على الانسلاخ من"أناه" وتقمص كل الأدوار كي تكتمل ذاتك... أنت الراقص بين الأنا والذات، الرافض للاجترار... أنت القديم المتجدد... أعرف أناك وأنت تحاول التخلص من كل الموانع لتصبح ممثلا.. في القصبة مراكش وحديقة أكدال يوم كانت مسرحا لمن لا مسرح له،.. أعجبت بذاتك، عندما نلت جائزة أفضل ممثل في المغرب ثم قرطاج.. لكنك في كل لحظة تتويج، لم تؤمن بأن ذاتك قد اكتملت.. فأنت نسبي ترفض الكمال.. وتلك من مميزات كل ممثل مبدع، كل ممثل يخضع أناه لترويض مستمر من أجل الانعتاق فكنت رياضيا قارئا مقتنصا للطرائف مغنيا وباحثا في الثرات.. رأيت في ذاتك ذلك الطفل المستور في أناك البالغة، فعدت بنا، في أجمل لوحاتك، إلى لا شعورنا العميق، ما إن ترسم على وجهك ضحكة طفل، حتى تنقلنا إلى من زمن التهم إلى عالم البراءة، ومن التلوث إلى الصفاء منحتنا أجمل الدروس في الضحك، واعتليت بذلك منبر الفلاسفة، مترجما قولة نيتشه بإخلاص:"على الإنسان أن يتعلم كيف يضحك.".. في انزياحك بجسدك عن المألوف وفي مفارقاتك اللغوية المفاجئة التي تقلب الحزن إلى فرح، حررت فينا تلك الطاقة المتراكمة التي تولد الكآبة والانعزال، وأخرجتنا من ذلك الكهف المظلم.. جعلتنا نعانق الحلم.. ولا أمل في الحياة بدون حلم.. عندما كنت تخوض تدريبا في صناعة الأقنعة، مع ذلك الألماني، كنت تعلم بأن القناع في المسرح وسيلة للاختفاء،ابتكرت عددا لا يحصى من الأقنعة ثم قمت بإتلافها.. مزقت كل الأقنعة لتترك لملامح وجهك ولنظراتك قدرة التحول إلى ألوان؛ تتلون بكل ألوان قزح حسب الحوار والأدوار، فحققت التجلي والسفور، وجهك بألف قناع، ملامح وجهك إن انقبضت حزنت الدنيا، وإن استرخت عمَّ الفرح.. عيناك إن دمعت اهتز الوجدان أسى، وإن رفرفت أشفارها رفرف الفرح فراشة داخل القاعة.
كانت ذاتك كممثل، تشَرِّح الواقع المتخلف الذي نحيى فيه... كنت تلتقط أبشع مناظره وأكثرها تقَزُّزاً ونتانةً، وكنا نتلقاها بجمالٍ ومتعة... كان جسدك يرفض الخضوع لما زرعوا فينا الخوف منه، والذي ننبطح له بحكم العادة، كنت أنت الممثل توجه سهامك دون خوف إلى السلطة والسلطان، وإلى الأحزاب والبرلمان وإلى كل ذئب يتقمص هيئة إنسان، فنتطهر من كل الآثام.. تحجم عن الكلام، تأمر جسدك أن يتكلم، فتتحول حركاته إلى كلمات؛ تنظمها من خلال تنقلك داخل مناطق الخشبة.. تارة تختفي في أقصى اليسار حتى يكاد الجمهور يتجاهل وجودك، وتارة تتمركز في وسط اليمين، فترسل رسائلك القوية الحماسية فتولع النار، وعندما تقف على حافة الخشبة وتتنقل بين اليمين والوسط واليسار، يتحسس الجمهور آذانهم كأن حوارك مقبض زم بقوة على كل أذن ليترك الحوار أثرا ورد فعل قويا على كل الحضور.. بذلك أكدت أن المسرح لا مجال فيه للثرثرة، ولا للفضلات اللغوية. وأن البرهان والحجاج لا يتحقق بالعويل والصراخ.. وأن لغة جسدك مفتوحة على كل القراءات السيميائية سواء في ثباته أو تحركه.. لغة جسدك تأكيد على العودة إلى لغة الإنسان الأولى في بدائيتها قبل أن تعرف كل أنواع
التقعيد. لم تكن ذلك الممثل الذي اكتشف بعد شهرة أن المجتمع يعرفونه بأسماء الشخصيات التي قام بأدوارها، إنهم لا يعرفون اسمه الحقيقي فقال "أنا لا أحد" إنهم لا يعرفون كين لسارتر ولكننا نعرف عبد الهادي توهراش فتوهراش كاسم في حد ذاته كله نجومية ولمعان ولا يحتاج إلى أقنعة ولا يحتاج إلى ألقاب؛ ببساطة لأنك حولت كل محيطك إلى مسرح؛ لا تنتهي من بناء ذات في مسرحية حتى تشرع في بناء ذات أخرى.. تأكد لي ذلك عندما صادفتك في حديقة الحارثي بمراكش.. كنت رفقة رفيق دربك عبد العزيز البوزاوي "العشير" وهو يضع يده على كتفك وأنتما تجوبان الممرات الملتوية وتتكلمان بهمس.. رأيتك تسمع إليه لا كأنا بل بذات الممثل، لأنك تمشي وتتحرك وتتكلم بالمسرح.. فخلقت بذلك منطقا خاصا بك بواسطته تزن الأفكار والمشاعر والانفعالات.. عندما مرضت مرضك الأخير لم تستسلم بسهولة للموت واعتبرت المرض دورا مسرحيا عليك القيام به، وكنت توصي رفاقك بالشروع في التداريب وأنك ستلتحق بهم لحظة انتهاء أخبث دور تقمصته في حياتك. صرت تنظر إلى تحولات جسدك وهو يتفكك نظرة شفقة ورحمة ولم تيأس لإيمانك بأن الموت هو نهاية لمسرحية وفي الموت فراق لقوانين لعبة اسمها الحياة.
ودعتنا ذات صباح، وعلى لسانك :" الدنيا كوميديا لمن يفكر، وملهاة لمن يحس".
فلروحك سلام جلال الدين الرومي :
على الضاحكين وفي قلوبهم سنين بكاء أولئك الذين قرروا العيش ولم تحالفهم الحياة بعد.
موسى مليح
مراكش 26/03/2022
للمسرحي الراحل عبد الهادي توهراش