د. علي خليفة - قصَصُ القُصَّاص أحد فنون الفرجة عند العرب في العصور القديمة

(1)
يعد القصص الذي كان يلقيه القصاص عند العرب في العصور القديمة - خاصة في العصر العباسي - أحد فنون الفرجة؛ وذلك لأننا نرى فيما وصلنا من أخبار قصصهم اندماجهم في أداء هذه القصص التي يحكونها بطريقة يبدو خلالها أنهم يتقمصون الشخصيات المختلفة
في هذه القصص، ويعبرون عنها، كما يبدو أنهم يعبرون بطريقة قصصهم عن الأحداث المختلفة في هذه القصص، والتطورات التي تحدث فيها، والنهايات التي تنتهي إليها.
(2)
ومما يلفت النظر في هذا الأمر أن بعض هؤلاء القصاص كانوا على قدر قليل من الثقافة، وفي الوقت نفسه كانوا على قدر كبير من الادعاء، وكانوا يقصون حكايات غريبة وعجيبة، وكان بعض الجمهور المشاهد لما يقدمونه من هذه القصص يستوقفهم، وينبههم لما في قصصهم من غرائب لا تجوز على العقل، وتحدث عند ذلك مفارقات ومواقف طريفة، وردود فعل غريبة من هؤلاء القصاص المدَّعين.
ويعرض لنا الجاحظ في النادرة التالية شخصًا مدعيًا للعلم من هؤلاء القصاص، فيقول:
"كان عندنا بالبصرة قاص لا يحفظ شيئًا سوى حديث جرجيس.
فقص يومًا فبكى رجل من النظارة، فقال القاص: أنتم لأي شىءتبكون؟ إنما البلاء علينا معاشر العلماء".
ومن الطريف أننا نرى بعض هؤلاء القصاص كانوا يدركون ضحالة علمهم، ويواجهون الجمهور الذي يلقون عليه قصصهم بهذه الحقيقة، ولكن هذا لم يمنعهم من الاستمرار في عملهم بالقص لهذا الجمهور، كما نرى في هذه النادرة الطريفة:
"وقال بعضهم: سمعت قاصًّا يقول: إني لأقص عليكم ووالله
إني لأعلم أنه لا خير عندي، ولكن تبلَّغوا بي حين تجدوا خيرًا مني".
وكثيرًا ما نرى بعض أشخاص من الجمهور يعلقون على هؤلاء القصاص خلال قصصهم الذي فيه ذكر عجائب وغرائب يسترسلون في ذكرها وعرضها، كما نرى في هذا الخبر:
"وذُكِرَ أن أبا سعيد الرفاعي سُئِل عن الدنيا والدائسة، فقال:
أما الدنيا فهذه التي أنتم فيها، وأما الدائسة فهي دار نائية من هذه الدار،
لم يسمع أهلها بهذه الدار ولا بشىء من أمرها، وكذلك نحن لم نسمع بذكر تلك الدار؛ إلا أنه قد صحّ عندنا أن بيوتهم من قثاء، وسقوفهم
من قثاء، وأنعامهم من قثاء، وأنفسهم من قثاء، وقثاءهم أيضًا من قثاء.
قالوا: يا أبا سعيد زعمت أن أهل تلك الدار لم يسمعوا بأهل هذه الدار، ولا بشىء من أمرها، وكذلك نحن لهم، وأراك تخبرنا عنهم بأخبار كثيرة، قال: فمن ثم أعجب أيضًا!".
وقد لا يكتفي بعض أفراد من جمهور هؤلاء القصاص المتابع لقصصهم وحكاياتهم الغريبة التي يصعب تصوّر حدوثها أو يستحيل وقوعها - بالاعتراض الهادئ، ولكننا نرى بعض أفراد من هذا الجمهور يعترضون من خلال إلقاء التعليقات الساخرة على ما يقصه هؤلاء القصاص، كما نرى في هاتين النادرتين:
"قال قاص بالمدينة في قصصه: ودّ إبليس أن لكل رجل منكم خمسين ألف درهم يطغى بها.
فقال رجل من القوم: اللهمّ أعط إبليس سئوله فينا".
و"قص قاصٌّ فقال: إذا مات العبد وهو سكران، دُفن وهو سكران، وحشر وهو سكران.
فقال رجل في طرف الحلقة لآخر: هذا والله نبيذ جيد يساوي الكوز منه عشرين درهمًا".
وبعض هؤلاء القصاص لم يكونوا يكتفون بإلقاء قصصهم التي فيها ذكر أمور عجيبة وغريبة يصعب أو يستحيل تصديقها، ولكنهم كانوا يقومون بعمل حيل غريبة، يمثلون من خلالها مواقف معينة يستدرجون بها النظارة إليهم؛ ليحصلوا على بعض الأموال منهم،
كما نرى في هذه الرواية.
"قال الجاحظ: وقفتُ على قاصٍّ وقد اجتمع عليه خلق كثير وفيهم جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلتُ أشير إلى الناس أنه هو ذا يجوِّد، قال: وهو يفرح بذلك.
فلم يُعْطَ شيئًا، فالتفت إليَّ خفيًّا وقال: الساعة إن شاء الله أعمل الحيلة، ثم صاح: حدَّثَ فلان عن فلان عن فلان عن النبي : قال رب العالمين : "ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلا عوضته الجنة".
أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع؟ قال الناس: ما هما؟ فبكى قال: هما الخصيتان، وهو يتباكى ويكرر، فجعل كل واحد من الخصيان يحل منديله حتى اجتمعت له دراهم كثيرة".
وفي الرواية التالية نرى حيلة أخرى يقوم بها قاص من هؤلاء القصاص بالاتفاق مع زوجته، ويستغل في تنفيذه لها من خلال أدائه التمثيلي مع زوجته - سذاجة الجمهور المتابع لهما؛ حتى يحصلا على بعض النقود منه:
"قصّ واحد ومعه تعاويذ يبيعها، فجعلوا يسمعون قصصه
ولا يشترون التعاويذ، فأخذ محبرته، وقال: من يشتري منِّي كل تعويذة بدرهم، حتى أقوم وأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي كتبته في هذه التعاويذ.
فاشتُرِيَتْ منه التعاويذ في ساعة وجمع دراهم كثيرة، وقالوا له: قم فادخل الآن في المحبرة.
فنزع ثيابه وتهيأ لذلك، والجهال يظنون أنه يغوص فيها. فبدرت امرأة من خلف الناس وتعلقت به، وقالت: أنا امرأته، من يضمن
لي نفقتي حتى أتركه يدخل؟ فإنه دخلها عام أوّل، وبقيت ستة أشهر
بلا نفقة".
وهكذا رأينا أن هؤلاء القصاص كان ما يقومون به من قص هو أحد فنون الفرجة عند العرب قديمًا، لاسيما ما كان يقوم به أولئك القصاص الموهوبون في القصّ والذين كانوا يحسنون عرض قصصهم وتقمُّص الشخصيات التي فيها.
وأيضًا رأينا في بعض النوادر والروايات تجاوب الجمهور مع هؤلاء القصاص، خاصة من كانوا منهم يدَّعون العلم والمعرفة، ويقصون خلال ذلك القصص والحكايات العجيبة التي يصعب
- أو يستحيل- تصديقها، وهذا التجاوب من أفراد من جمهور أولئك القصاص يكشف ما في قصص هؤلاء القصاص من ادعاء، وفي الوقت نفسه يظهر التداخل والتفاعل الكبير بين عرض هؤلاء القصاص لقصصهم، والجمهور المتلقي لهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى