في الأيّامُ الأولى لوصولنا إلى القاهرة، اتّفق الزّملاء على حضور حفلة غنائية ضمّت مجموعة كبيرة من المطربين منهم محمد عبد المطلب وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ومحمد قنديل ومحرم فؤاد وعبد اللطيف التلباني وعبد الوهاب الدوكالي. كانت تذكرة الدّخول لكلٍّ منّا بنصف جنيه، وفي هذه الأثناء سحرتنا الأوبرا المصريّة مبنى ومعنى، كان بناؤها من الفخامة والعراقة ما يبعث في النفس الرّهبة والرّغبة، وقد شاهدنا فيها أهم العروض لمسرح شكسبير، وأذكر حمدي غيث في دور هملت أو مكبث على المسرح والسيف في يده، وهو يرتدي قلنسوة الأمير.
وكم شهدنا مسرحيّات مختلفة على المسرح القومي المصري ومسرح البالون ومسرح الجيب والمسارح الأهلية وسط القاهرة وفي أحيائها المختلفة ، وكم شهدنا في دور السينما من أفلام عربية وأجنبية. أذكر أن أستاذنا عبد المحسن بدر وهو يدرّسنا مسرحية(بجماليون) لتوفيق الحكيم وجّهنا إلى مشاهدة فلم (سيّدتي الجميلة My fair lady) المأخوذ عن مسرحية بجماليون لبرنارد شو.
حضرنا عروضًا للسيرك وعروضًا للسحر وخفّة اليد، وكان رمضان وموسم سيّدنا الحسين من أمتع المناسبات التي كنّا نحرص على ألاّ تضيع بهجتها. نؤمّ سرادق الغناءْ الشعبي الذي يتبارى فيه المطربون الشعبيًّون حيث تتجلّى خضرة محمد خضر بأغانيها الشعبيّة الجميلة. وخضرة هي زوجة جامع التراث الموسيقي الشعبي المشهور المشتغل بالمأثورات الشعبيّة زكريا الحجاوي، وما عليك سوى أن تدفع خمسة قروش ثمن فنجان الشاي الكشري الذي يؤهلك بجدارة للحضور والاستمتاع.
،في موسم الحسين يمكنك أن تشتري من معارض الكتب بأرخص الأسعار، فمن الكتب التي اقتنيتها كتاب الأغاني الذي صدر في ستة عشر جزءًا وفصلة صغيرة. اشتريت الكتاب بستة عشر قرشًا للجزء الواحد، بخصم عشرين بالمائة من سعره الأصلي، وهو عشرون قرشًا، ولك أن تشتري كتابًا مترجمًا مثل كتاب إي إم فورستر (بناء الرواية) ترجمة إبراهيم الصّيرفي بثمانية قروش.
وأذكر يومًا أن اتحاد الطلاب أعلن عن رحلة إلى الإسكندريّة مدّتها ثلاثة أيّام، ولم يكن المبلغ المطلوب إلّا نصف جنيه. هذا المبلغ يغطي السفر بالقطار ذهابًا وإيابًا، والإقامة في فندق محترم، ووجبات ثلاث من المشاوي والأسماك، زرنا فيها معالم الإسكندرية وزرنا قصر التين وتجولنا فيه ولأوّل مرة أرى نجفة توزن بالأطنان. سرنا على شاطئ القصر وجلست على صخرة تفتّها الأمواج، خلتها صخرة خليل مطران في قصيدة (المساء). وفي هذا اليوم نعى النّاعي الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الشّهير. كان الناس رجالاً ونساءً يعبرون الشارع من الشاطئ إلى أماكن سكناهم بلباس البحر وكانت المدينة أشبه بمدينة أوروبيّة عريقة.
وما لفتني أن الطلاب والطالبات يتعاملون مع بعضهم بعضًا في غاية الأدب، مع أن الغناءْ قد يتجاوز المألوف، مثل أغنية:
شاميّة يا رنق شامي. يا مشقشق على الصواني
قلتها يا حلوة أوريني عَ خدّك وفرّجيني
قالت لي روح يا مسكينِ دا خدّي تفاح الشّام
إلى أن تبلغ الأمور إلى المحظور
قال الشباب مستأذنين الصّبايا: (حنلبّخ) فأُذن لهم، ولم تكن إلاّ البهجة المقرونة بالأدب والاحترام.
وأمّا التهريج الذي يأخذ طابع التمثيل فكان يبعث على البهجة مثل قول أحد الشباب محاكيًا اللهجة السّودانيّة الجميلة وفي حركاتٍ مسرحيّة:
كنتِ ماشي في الأنفوشي. كبّوا ميّة على طربوشي
قلت لي كده يا أنفوشي. إنت ليه بِتَكُبِّ الميّة
طلع لي واحدْ. تخينْ مصارعْ
يتعلّم فيَّ الحركاتْ
ومثلها:
كنت ماشي في المطريّة. كبّوا ميّة على جلابيّة
قلت لي كده يا جلبيّة. إنت ليه بتكبّي الميّة
طلع لي واحدْ تخينْ. مصارعْ
يتعلِّمْ فيَّ الحركاتْ
ومما أذكره أنّ اتحاد الطلبة كان ينظّم يومًا سياحيًّا لزيارة معالم القاهرة مثل زيارة القلعة وسواها مقابل عشرة قروش فقط. لقد زرنا الأهرامات أيّام كان مسموحًا زيارة أقبيتها ودهاليزها وحجراتها وزرنا متاحفها ومكتباتها ونواديها ومسارحها ومقاهيها وآثارها الثقافية كافة، القاهرة التي تنطق بالعراقة والجلال والقدم.
وأذكر زيارة للوادي الجديد حيث واحات الداخلة والخارجة، والوادي الجديد هو الوادي الموازي لوادي النّيل.
ركبنا القطار من باب الحديد باتجاه أسيوط، ومن أسيوط ركبنا الباصات باتّجاه الواحات. استغرقت الرحلة خمسة أيّام ممتعة، أدخل البهجة على المشاركين فيها تلك الفرقة الموسيقية التابعة لكلية الطب البيطري وكلية الطب البيطري كان فيها طاقات فنيّة من موسيقيين وممثلين. وتخلل الأمسيات غناء وموسيقا وقراءات شعريّة.
ولا أنسى ذلك الفتى الواحاتي الذي اقترب منا بحياء ولكن بشغف، يسألنا باهتمام بالغ عن القاهر وكل ما يسمع عنه فيها مما تتوق له النفس ويحلّق به الخيال، أملاً بأن يتحقّق له الحلْمُ في يوم ما، ولعلّه اليوم قد حقّق حلمه وأصبح من خيرة الخيرة في وطنه وأمّته.
شاهدنا النّاس يضعون أقراص العجين في مقابل أشعة الشمس الحارقة في الشتاء، وقد نضج خبزًا لذيذًا شهيًّا. لقد كان الجوّ شديد البرودة ليلاً، حارًا في النّهار. دخلنا قريةً بيوتها طينيّة، وشوارعها وأزقتها مسقوفة. وما أنْ رأتْنا نساؤها حتى هُرعن إلى بيوتهن يحتجبن عنّا. قرية خلتها من زمن الفراعنة. وقد نستغرب إذا عرفنا أن كلّ واحد منّا تكلّف جنيهين اثنين فقط مقابل كلّ شيء.
وهنا لا بد أن أذكر ما قاله صديقي الدكتور أحمد الرشدان طبيب الأسنان إنّ مصر قدّمت تعليمًا مجّانيًّا بكلّ متطلباته لأجيالٍ من المتعلّمين في مصر والعالم العربي.
وكم شهدنا مسرحيّات مختلفة على المسرح القومي المصري ومسرح البالون ومسرح الجيب والمسارح الأهلية وسط القاهرة وفي أحيائها المختلفة ، وكم شهدنا في دور السينما من أفلام عربية وأجنبية. أذكر أن أستاذنا عبد المحسن بدر وهو يدرّسنا مسرحية(بجماليون) لتوفيق الحكيم وجّهنا إلى مشاهدة فلم (سيّدتي الجميلة My fair lady) المأخوذ عن مسرحية بجماليون لبرنارد شو.
حضرنا عروضًا للسيرك وعروضًا للسحر وخفّة اليد، وكان رمضان وموسم سيّدنا الحسين من أمتع المناسبات التي كنّا نحرص على ألاّ تضيع بهجتها. نؤمّ سرادق الغناءْ الشعبي الذي يتبارى فيه المطربون الشعبيًّون حيث تتجلّى خضرة محمد خضر بأغانيها الشعبيّة الجميلة. وخضرة هي زوجة جامع التراث الموسيقي الشعبي المشهور المشتغل بالمأثورات الشعبيّة زكريا الحجاوي، وما عليك سوى أن تدفع خمسة قروش ثمن فنجان الشاي الكشري الذي يؤهلك بجدارة للحضور والاستمتاع.
،في موسم الحسين يمكنك أن تشتري من معارض الكتب بأرخص الأسعار، فمن الكتب التي اقتنيتها كتاب الأغاني الذي صدر في ستة عشر جزءًا وفصلة صغيرة. اشتريت الكتاب بستة عشر قرشًا للجزء الواحد، بخصم عشرين بالمائة من سعره الأصلي، وهو عشرون قرشًا، ولك أن تشتري كتابًا مترجمًا مثل كتاب إي إم فورستر (بناء الرواية) ترجمة إبراهيم الصّيرفي بثمانية قروش.
وأذكر يومًا أن اتحاد الطلاب أعلن عن رحلة إلى الإسكندريّة مدّتها ثلاثة أيّام، ولم يكن المبلغ المطلوب إلّا نصف جنيه. هذا المبلغ يغطي السفر بالقطار ذهابًا وإيابًا، والإقامة في فندق محترم، ووجبات ثلاث من المشاوي والأسماك، زرنا فيها معالم الإسكندرية وزرنا قصر التين وتجولنا فيه ولأوّل مرة أرى نجفة توزن بالأطنان. سرنا على شاطئ القصر وجلست على صخرة تفتّها الأمواج، خلتها صخرة خليل مطران في قصيدة (المساء). وفي هذا اليوم نعى النّاعي الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الشّهير. كان الناس رجالاً ونساءً يعبرون الشارع من الشاطئ إلى أماكن سكناهم بلباس البحر وكانت المدينة أشبه بمدينة أوروبيّة عريقة.
وما لفتني أن الطلاب والطالبات يتعاملون مع بعضهم بعضًا في غاية الأدب، مع أن الغناءْ قد يتجاوز المألوف، مثل أغنية:
شاميّة يا رنق شامي. يا مشقشق على الصواني
قلتها يا حلوة أوريني عَ خدّك وفرّجيني
قالت لي روح يا مسكينِ دا خدّي تفاح الشّام
إلى أن تبلغ الأمور إلى المحظور
قال الشباب مستأذنين الصّبايا: (حنلبّخ) فأُذن لهم، ولم تكن إلاّ البهجة المقرونة بالأدب والاحترام.
وأمّا التهريج الذي يأخذ طابع التمثيل فكان يبعث على البهجة مثل قول أحد الشباب محاكيًا اللهجة السّودانيّة الجميلة وفي حركاتٍ مسرحيّة:
كنتِ ماشي في الأنفوشي. كبّوا ميّة على طربوشي
قلت لي كده يا أنفوشي. إنت ليه بِتَكُبِّ الميّة
طلع لي واحدْ. تخينْ مصارعْ
يتعلّم فيَّ الحركاتْ
ومثلها:
كنت ماشي في المطريّة. كبّوا ميّة على جلابيّة
قلت لي كده يا جلبيّة. إنت ليه بتكبّي الميّة
طلع لي واحدْ تخينْ. مصارعْ
يتعلِّمْ فيَّ الحركاتْ
ومما أذكره أنّ اتحاد الطلبة كان ينظّم يومًا سياحيًّا لزيارة معالم القاهرة مثل زيارة القلعة وسواها مقابل عشرة قروش فقط. لقد زرنا الأهرامات أيّام كان مسموحًا زيارة أقبيتها ودهاليزها وحجراتها وزرنا متاحفها ومكتباتها ونواديها ومسارحها ومقاهيها وآثارها الثقافية كافة، القاهرة التي تنطق بالعراقة والجلال والقدم.
وأذكر زيارة للوادي الجديد حيث واحات الداخلة والخارجة، والوادي الجديد هو الوادي الموازي لوادي النّيل.
ركبنا القطار من باب الحديد باتجاه أسيوط، ومن أسيوط ركبنا الباصات باتّجاه الواحات. استغرقت الرحلة خمسة أيّام ممتعة، أدخل البهجة على المشاركين فيها تلك الفرقة الموسيقية التابعة لكلية الطب البيطري وكلية الطب البيطري كان فيها طاقات فنيّة من موسيقيين وممثلين. وتخلل الأمسيات غناء وموسيقا وقراءات شعريّة.
ولا أنسى ذلك الفتى الواحاتي الذي اقترب منا بحياء ولكن بشغف، يسألنا باهتمام بالغ عن القاهر وكل ما يسمع عنه فيها مما تتوق له النفس ويحلّق به الخيال، أملاً بأن يتحقّق له الحلْمُ في يوم ما، ولعلّه اليوم قد حقّق حلمه وأصبح من خيرة الخيرة في وطنه وأمّته.
شاهدنا النّاس يضعون أقراص العجين في مقابل أشعة الشمس الحارقة في الشتاء، وقد نضج خبزًا لذيذًا شهيًّا. لقد كان الجوّ شديد البرودة ليلاً، حارًا في النّهار. دخلنا قريةً بيوتها طينيّة، وشوارعها وأزقتها مسقوفة. وما أنْ رأتْنا نساؤها حتى هُرعن إلى بيوتهن يحتجبن عنّا. قرية خلتها من زمن الفراعنة. وقد نستغرب إذا عرفنا أن كلّ واحد منّا تكلّف جنيهين اثنين فقط مقابل كلّ شيء.
وهنا لا بد أن أذكر ما قاله صديقي الدكتور أحمد الرشدان طبيب الأسنان إنّ مصر قدّمت تعليمًا مجّانيًّا بكلّ متطلباته لأجيالٍ من المتعلّمين في مصر والعالم العربي.