محمد السلاموني - عن المنهج النقدى

منذ ما يزيد عن اربعين عاما وممارستى للنقد الأدبى والمسرحى لم تنقطع سوى اضطرارا، ولفترات قصيرة، بغرض إجراء مراجعات لفلسفة النقد هو نفسه فى علاقته بالأدب والمسرح إيمانا منى بأن اختيار المنهج- بما هو "المفاهيم النظرية والأجراءات التطبيقية" التى ينتهجها الناقد فى مقاربة النصوص والعروض- لا يجب أن يستند "أى اختيار المنهج" إلى كل جديد يتم الإعلان عنه، بدعوى المعاصرة والعلمية والتطور... إلخ، لأن الأمر لا يتعلق بالجديد باعتباره كذلك، أيا ما كان ما حظى به من ذيوع وانتشار، وأيا ما كان الداعون والمشايعون له، ذلك لأن "المنهج النقدى الجديد" لا يجب أن يُعامل كما لو كان جيلا جديد من التكنولوجيا الأكثر تطورا
، فذلك أليَق بتجار وباعة السِّلع، أمَّا فى المجال الثقافى فالأمر مختلف جذريا.
على الناقد متابعة كل جديد، فى مجاله وفى غيرمجاله، والعمل طوال الوقت على الإرتقاء بأدواته المفاهيمية والإجرائية، لا شك فى هذا، ولكن...
المناهج، كمفاهيم وإجراءات، أو كتقنيات ينشئ بها الناقد مقاربته النقدية، ليست محايدة، ذلك أن كل تقنية تنطوى بداخلها بالضرورة على نظرية ما؛ محايثة لها، وهو ما يعنى أن أفق اشتغالات التقنية محدَّد سلفا، وليس بالإمكان فصل التقنية عن محتواها النظرى سوى بالإمساك بهذا المحتوى، وبالأحرى بالنظام أو النسق الفلسفى المؤسس لها... هذا كى يتمكن الناقد من حرفها عن مسارها.
المتابع الجيد للمسيرة النقدية لدينا، بإمكانه ملاحظة أن النقاد لا عمل لهم سوى الإنبهار المتواصل بكل جديد، وإذا أمكن لك العودة سنوات قليلة إلى الوراء، ستجد أنهم تحوَّلوا من النقد الإجتماعى والتاريخى "الماركسى خاصة" إلى البنيوية ومنها إلى السيميولوجيا ثم الباختينية، تليها التداولية... انتهاءا بالتفكيكية... هكذا، بسرعة فائقة- دون أن ينتبهوا إلى وجود انقطاعات جذرية "أو تصَدُّعات" بين كل هذه "الفلسفات- المناهج"، وأن كل تلك التحولات، عدا نفور القارئ من النقد، لم تسفر عن شئ...
الناقد والمؤلف والقارئ:
هناك من المناهج ما يند عن الحصر، للدرجة التى يقف معها الناقد أمام النص حائرا؛ فأى من تلك المناهج عليه أن يتَّبِع فى مقاربة النص؟...
حديثى هنا سينصب على القاعدة النقدية الذهبية- بالنسبة لى بالطبع.
تلك القاعدة تقول بضرورة أن تتأسس المقاربة النقدية على "المشترك الجمالى" بين المؤلف والقارئ، أعنى على المفاهيم السائدة فى المجتمع عن الأدب والفن- وبتعبير أكثر دقة، على "تعريف المجتمع للأدب والفن"، مع العمل المتواصل على الإرتقاء بهذا التعريف .
الفكرة، ببساطة، تستند إلى عدم وجود منطق فى إجراء مقاربة نقدية لنص ما، باتباع مفاهيم وإجراءات لا يعرف عنها المؤلف والقارئ شيئا، ولا تمت بصلة للمرجعية المشتركة للتأليف والتلقى...
فعلى سبيل المثال، النقد الغربى تحول إلى "نقد شكلى"، أى "تقنى"... أما الدلالة، فلم تعد تعنيه فى شئ، ومن هنا كف النقد عن أن يكون "تقييما وتقويما"- أعنى أنه تحول إلى "نقد وصفى" بعد أن تخلى تماما عن "المعيارية"، بل وأكثر من هذا، فالنقد الغربى لم يعد يهتم بالنصوص الأدبية، ومنذ ظهور الشكليين الروس، فى الربع الأول من القرن الفائت، انصب اهتمامه على دراسة "العملية الإبداعية"؛ فى محاولة للإجابة عن سؤال "ما الذى يجعل من الأدب أدبا؟"، وهو ما يطلقون عليه "علم الأدب أو أدبية الأدب"- وانتهى بهم الأمر إلى مجموعة من النتائج العامة "تنطبق على الأدب وغير الأدب أيضا" ؟!- فالسرديات- على سبيل المثال- أو ما يطلقون عليه "علم السرد"، بالإمكان تطبيق نتائجه على الرواية، وعلى الصحافة والتاريخ... إلخ. أعنى أن تلك الدراسات والأبحاث تتخذ من "السرد" موضوعا لها، السرد كظاهرة عامة، وليس السرد الروائى خاصة.
هذا النقد التقنى، لا علاقة له بالأدب على الإطلاق، ويرتبط فقط بالمجتمع الغربى "العلمى- المتمحور حول التقنية"...
السقطة التى طالت التقد الأدبى العربى، تتلخص فى أن النقاد يعملون طوال الوقت على البرهنة على صحة تلك النظريات التقنية، بينما يطبقونها على النصوص، وليس على جودة أو رداءة النصوص ذاتها "؟!".
الناقد والنص والقارئ:
الناقد وسيط بين النص والقارئ، نعم، ولكن بأى معنى؟...
فيما مضى كان الناقد يقوم بدور "الوسيط ، الشارح أو المُفَسِّر للنص"، لكننا اكتشفنا أن هذا المنحى النقدى ينطوى على نوع من "الوصاية" على النص والقارئ معا ، أى بأنه تعبير عن سلطة ثقافية تؤسس نفسها على تجريد القارئ من حرية إنتاج المعنى لنفسه .
ذلك النوع من النقد، لا يزيد عن ممارسة أيديولوجية ضيقة، مقيتة وصفيقة، وبذا فهى تمثل امتدادا لا مرئيا للعنف المرئى الذى تحكمنا به السلطات السياسية والمجتمعية بأشكالها العديدة...
المرجعية "الثقافية- الجمالية" المشتركة بين المؤلف والقارئ، كما تبدو من خلال النص هى "أنماط التمثيل الأيديولوجية العامة السائدة فى المجتمع"، فهى المرجعية المجتمعية التى تُمَكِّننا من الإمساك بالمعنى... وبدونها، أو باستبدالها بمرجعيات لا تمت لمجتمع النص بصلة، ينفلت النص من النقد والنقد من القارئ، وينفلت القارئ منهما معا... وهو ما نعانى منه الأن .
وهذا- كما أشرت من قبل- لا يعنى التوقف عند ما انتهى إليه المجتمع، هو فقط يمثل النقطة المعلومة التى علينا أن ننطلق منها إلى الرحاب الواسعة للأبداع الفردى... وعلى النقد أن يعمل على الإنفتاح بأفق النص على القارئ وبأفق القارئ على النص، ذلك أنه "أى النقد" لا يزيد عن مقاربة "ثقافية- جمالية"، أى محاولة للإقتراب من النصوص ، دون وصاية من أى نوع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى