محمد السلاموني - [3] عن المنهج النقدى: الناقد كفاتح أفق

[3]
الناقد كفاتح أفق:


أشرت فى المقالات السابقة إلى أن
[على النقد أن يعمل على الإنفتاح بأفق النص على القارئ وبأفق القارئ على النص، ذلك أنه "أى النقد" لا يزيد عن مقاربة "ثقافية- جمالية"، أى محاولة للإقتراب من النصوص، دون وصاية من أى نوع.].
بادئ ذى بدء، يتَّسِع الأفق، حين يتَّسِع، لنرى بالعين الأخرى، التى هى "البصيرة الجمالية"...
نعم، الناقد يرى ما وراء العماء الذى يختبئ فيه النص... ذلك أن اللغة النَّصِّيَّة دائمة الإقامة فى المفارقات- أعنى أنها "عادة ما تقصد قول الكثير فى الخفاء، على العكس مما تقول فى العَلَن"؛ ذلك أن اللغة لَعِب قانونه المراوغة... وليست الدوال اللغوية سوى السَّراب الذى يمنحك الوَهم.
الناقد هو الذى يُمسِك بالسَّراب ويضعه على المائدة، ليبدأ الحَفر... الحفر فى السَّراب، ليس بحثا عن الأصل الذى انحدر منه هذا السَّراب، ذلك أن ليس ثمة وجود لأصل ما، وكل ما هنالك هو "آثار"؛ آثار عوالم وتجارب عَبَرتنا وانتهى الأمر، لكنها تركت وراءها ما "يدل" عليها؛ وهناك فرق بين "ما يدُل" و"ما يمَثِّل"...
الباحث عن "الأصل"، يبحث عما "يُمَثِّل"، أما الباحث عن مجرد "البداية"، فيبحث عما "يدُل".
السَّراب، بما هو الظاهر النَّصِّى الذى تمنحه لنا اللغة، لا يزيد عن صورة تلمع بـ "المعنى"، وهى مصدر العماء النَّصِّى، أما "الأفق الدلالى" فمختبئ وراء هذا الإلتماع الذى يغشى الأعيُن...
الناقد يدرِك أن المفارقة التى ينطوى عليها النص تعمل دائما على "إخفاء الأفق الدلالى"...
ـــ : [نعم، هناك "أفق" مختبئ وراء هذا النص وعلىَّ أن أحفر وأحفر وأظل أحفر حتى أزيل أتربة المعنى، دون أن أعِدُ أحدا بالإمساك بذلك الأفق، فأحد لا يمسِك بالأفق أبدا؛ لأن الأفق ليس شيئا مختبئا وراء الصورة الخارجية للنص.].
لاحظ معى، ظاهر النص "صورة"، وطالما أنها مجرد صورة، إذن فهى صورة لشئ ما... ومع ذلك لا شئ هناك سوى "أفق" فقط .
تلك هى لعبة المفارقة التى يوهِمنا بها النَّص.
لذا يقال بأن هناك ما يسَمَّى بـ "صَدَفَة الأسطورة"، من يكسرها لا يجد شيئا.
والناقد يعرف أنه لن يعثر على شئ إذ أقْدَم على كسر صَدَفَة النَّص.
إذن، ما الأفق الذى يبحث عنه الناقد فيما وراء الظاهر النَّصِّى؟.
إنه ما "يوحى" به النَّص.
وهو ما يعنى أن العلامات التى يحتشد بها الظاهر النَّصِّى: التقنيات المتعلقة بالشكل، الأقوال، المواقف، العلاقات الدرامية... إلخ، لا تزيد عن مؤشِّرات دالة على وجود عالم آخر "طى النَّص"، أو "منطوٍ داخل النص"؛ هو المسكوت عنه الذى أذِنَ للمصرح به فى النَّص بأن يوجد ويحتَّل ظاهر النَّص.
المفارقة النَّصِّيَّة تكمن هنا حصرا؛ أعنى أن علامات الظاهر النَّصِّى "المترابطة خارجيا، والمُفضِيَة إلى معنى ما- نشترك جميعا فى الإمساك به"، ليست سوى السَّراب الذى يوهِمنا بأنه هو النَّص، "كل النَّص"... وهو ما ينطلى على كثير من النقاد، لا سيما الشكليون والمؤدلجون منهم، بينما هو لا يزيد عن "سراب العالم النَّصِّى"...
وهو ما يعنى أن المراوغة- التى هى لُعبَة النَّص الأثيرة- توقعنا فى شَرَك "تضلِّلنا"؛ بالوَهم الذى تبثه فينا، لنعتقد بثقة، بأن ما أمسكنا به من ظاهر النَّص هو "حقيقة النَّص"...
/ [ملحوظة: كمقاربة أوَّلية- ما ذهب إليه نيتشه من أن "العمق هو الظاهر نفسه"، وأن ما نعتقد أنه العمق لا يزيد عن مجرد "ثَنيَة أو طَيَّة"- لو فهمناه بمعناه المباشر "الظاهر"، سنجد أن نيتشه، هو نفسه، فى مشروعه الفلسفى النقدى "الجنيالوجى- أى الباحث عن الأصل والنشأة"، كان "حفارا كبيرا فيما وراء السطح. وإن كان يعتقد بأنه بقوله هذا إنما يحَرِّضنا على القفز فوق "الماورائى الميتافيزيقى"، فقد جانبه الصواب- على ما أعتقد- لأن الميتافيزيقا ليست أكثر من اشتغال على السطح، فلديها السطح هو العمق نفسه "اللاهوت- المَصَب الميتافيزيقى الأعظم- يقول بأن ظاهر الوجود يدل على باطنه". ذلك أن "بحثها- أى الميتافيزيقا- ينصَب على ما وراء الشئ، وعَدّه كامنا فى ظاهر الشئ- هذا على الرغم من استعمالاتها للإصطلاحات الباطنية بسخاء"./ أعنى أن بحثها عن الماهية والجوهر وكل ما هو ماهوى يتأسس على "التطابق والوحدة..." بين الداخل والخارج؛ وهو ما بلوره واستكمله هيجل فى دياليكتيكه- ثم، ألم يذهب أرسطو إلى أن ماهية الشئ كامنة فى باطنه وليست منفصلة عنه، كما ذهب أفلاطون من قبل؟. وبالتالى، فما ذهب إليه دولوز، فى "قلب الأفلاطونية" لا يزيد عن موقف من الحالة الأفلاطونية الخاصة، والفريدة فى تاريخ الفلسفة؛ المتمحورة حول الفصل بين الماهية والشئ المحاكى لها.].
وإن بدا لى أن جميع الفلاسفة كانوا يبحثون فيما وراء السطح، بحثا عن الماورائى- أما الإختلاف بينهم فيتوقف فقط على تعريف كل منهم لما هو "سطح" وما هو "ماورائى".
ثم... أليست الفلسفة، هى نفسها، بحثا فى الماهيات؟؛ هذا وعلى رغم من اختلاف مواقف الفلاسفة بشأن "الماهية"، إلاَّ أنهم، فى نهاية الأمر، تعاطوا معها بطريقة أو بأخرى؟.
ما الأفق الذى يبحث عنه الناقد فيما وراء الظاهر النَّصِّى؟.
يتبع...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى