خالد جهاد - لبنان.. شمعة تلعن الظلام

بعيداً عن السياسة والسياسيين لم يكن لبنان على مدار التاريخ بلداً عادياً، فصغر مساحته لم يمنعه من امتلاك مقوماتٍ حضارية وثقافية وتاريخية تضاهي في قيمتها دولاً عظمى عبر احتضانه للعديد من أقدم مدن التاريخ وأهمها، وتقاربه مع الدول المحيطة به في فلسطين وسوريا لم يمنعه من أن يكون له بصمةٌ خاصة به تختلف عنهما، كما يلتقون جميعاً في الكثير من العادات والتقاليد والثقافة بحكم التلاحم والإنصهار التاريخي بينهم، فانتقلت منه إليهم الكثير من روافد الثقافة كما انتقلت بدورها منهم إليه ليكون محطةً هامة مشرقية عربية وعالمية خرجت آلاف الأسماء من المبدعين في مختلف المجالات العلمية والفنية والثقافية والفكرية..

ومما لا شك فيه أن التنوع هو سمة أساسية في لبنان وكنزٌ لم يستفد منه أو لم يستغل بالشكل الصحيح الذي يحوله إلى نقيض ما يعيشه حالياً ونتمنى أن ينتهي بأسرع وقت، فنسي الكثيرون أجمل ما ميزه كمنارةٍ من منارات الشرق ومنبعٍ للحرف والكلمة ومقصدٍ للكتاب والأدباء والمفكرين والمثقفين والشعراء من مختلف الدول وليس فقط من الدول العربية، إضافةً إلى العديد من المحطات الهامة والخطوات الثقافية الريادية التي شكلت نقلةً نوعية أخذت شكلاً وهويةً خاصة على أرضه، سواءاً كان البلد الأول في تنفيذها عربياً أو من بين الأوائل الذين كانوا سباقين فيها، فكان البلد الثاني عربياً من حيث بدء بث الإرسال التلفيزيوني عام ١٩٥٨ بكفاءةٍ عالية وأفكارٍ خلاقة ومواهب سابقةٍ لعصرها أصبحت مدرسةً للإعلام في العالم العربي بعد عامٍ واحد من بدء بث التلفزيون العراقي، وبدأ بعدها أيضاً رحلةً ممتدة فكان أول من يقوم ببثٍ مباشر على الهواء وأول من قدم ما نعرفه اليوم بالمسلسلات أيضاً بشكلٍ مباشر قبل توفر تقنيات التسجيل لاحقاً..

كما أن عالم الصحافة اللبنانية كان متسعاً ومتنوعاً ويحتوي على العديد من المدارس والأسماء والرؤى والأساليب المتنوعة في نقل الخبر وتغطيته وصياغته على اختلاف نوع تلك الصحافة بين سياسية واجتماعية وثقافية وفنية تقدم لجمهورٍ متنوع ومتعدد الإنتماءات سواءاً كان داخل لبنان أو خارجه، فيذكر الكثيرون وصول العديد من المطبوعات اللبنانية إلى الكثير من الدول العربية أو حتى طلبها من الذين يزورون لبنان كشيءٍ متميز يحضرونه معهم في طريق عودتهم، ومما ساعد في ذلك تحول هذا البلد إلى مركز ثقلٍ دولي كونه مسرحاً للكثير من الأحداث السياسية ذات البعد والتأثير العالمي ومقصداً لكبار الشخصيات والمفكرين والمبدعين من شتى المجالات..

وحمل هذا البلد دوماً في تكوينه أكثر من بعد كونه يتمتع بجمال الطبيعة واحتضانه للفكر والثقافة التي كانت كالخبز والهواء، فيذكر جميعنا أسماء المكتبات ودور النشر العديدة والمتنوعة والشهيرة في لبنان والتي كانت تضم من شتى أصناف الأدب وأجناسه، إلى جانب المطبوعات التي انفرد بها وقدمها بإخراجٍ فني مفعم بالذوق والجمال إلى جانب جودة الورق والطباعة حتى في كتب الأطفال التي كانت على مستوىً عالٍ نشتاق اليوم اليه، دون أن ننسى حركة الترجمة النشطة لأهم الإصدارات العالمية والتي لم تتوقف حتى في فترة الحرب الأهلية في لبنان، وبرغم استمرارها لفترة خمسة عشر عاما ً إلا أنه يصعب على الكثيرين تصديق مدى غنى هذه الفترة فنياً وفكرياً وثقافياً عند العودة إلى تلك الحقبة بغية توثيقها وكم احتوت على شهاداتٍ ولحظاتٍ تاريخية يصعب تكرارها في الوقت الحالي..

كما شهدت المرحلة التي تلت الحرب الأهلية منذ عام ١٩٩٠ وحتى ما قبل الأزمة الحالية في لبنان شكلاً آخر من الحياة ومساحات ٍ مختلفة وملونة لم يعرف العالم العربي لها مثيلاً، فبالعودة إلى الكثير من اللقاءات والحوارات والإصدارات لأهم الأسماء العربية والغربية في زياراتها إلى لبنان لا نستطيع إلا أن نقول أنه علامةٌ فارقة وهامة حتى على أكثر من صعيد كونه قادراً على جمع المتناقضات دون أن يكون متناقضاً في ذلك متسقاً مع شخصيته وأسلوبه ومشرعاً أبوابه حتى لناقديه وهو شيء نادر جداً، فنستطيع على سبيل المثال رؤية مختلف الجنسيات العربية من المبدعين هناك دون أن يحتاجوا للذوبان في المجتمع اللبناني ومحتفظين بلهجتهم الأم مسترجعاً في الذاكرة أسماءاً من مختلف الدول المغاربية على وجه الخصوص والتي كانت تتعامل بسلاسة وأحب الجمهور اللبناني أن يتعرف عليها وعلى ثقافتها عن قرب وكان لوجودها نكهةٌ محببة ومميزة بشكلٍ عفوي..

كما كانت كوادره تحظى بتقدير ٍ واحترام كبيرين أغنى المكتبة العربية وكان لتعاونها مع أسماءٍ سورية نكهة خاصة جداً مهما قيل في ذلك فكنا نرى تلاقي ذلك الجمال بين بلدين يحظيان بمخزونٍ هائل من الإبداع يعود بالثراء علينا جميعاً، وفي هذا المقال نبحث عن الجمال والقيم التي افتقدناها لنسلط الضوء عليها، ولنتسائل كيف لنا أن نسترجع أجمل ما فينا لنستطيع تخطي كل سلبيات الماضي والحاضر ولنعلم كم الجمال والحضارة الذي تزخر به بلادنا ونجهل الكثير عنه وعن قيمته الحقيقية، وبرغم انقطاع الكهرباء والمياه والظروف القاسية التي تمر بها بلادنا لربما كانت المحبة التي نتمنى أن تغمرنا هي بمثابة الشمعة التي نوقدها لنلعن بها الظلمات كما هو لبنان، رسالة أمل لازالت تؤمن ببزوغ فجرٍ جديد..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى