القراءة - في حقيقتها - " نشاط فكري/ لغوي مولد للتباين، منتج للاختلاف، فهي تتباين، بطبيعتها، عما تريد بيانه، وتختلف، بذاتها، عما تريد قراءته. وشرطها، بل علة وجودها وتحققها أن تكون كذلك، أي مختلفة عما تريد أن تقرأ فيه، لكنها فاعلة في الوقت نفسه ومنتجة باختلافها، ولاختلافها بالذات"
وقراءة هذا النص: "امرأة مسكينة"، تستلزم التطرق لخمسة عناصر، باعتباره جنسا تخييليا ينتمي لجنس القصة، له خصوصيته الأدبية، لكنه مجال رحب لتطبيق مفهوم القارئ كما يلي:
العنصر الأول – عنوان القصة:
من المعلوم أن العنوان لأي عمل أدبي، يكون محتملا النقيضين: المعنى المباشر أو المعنى المناقض المخادع، لأنه من أهداف العنوان هو التشويق وجذب القارئ، الأمر الذي يجعل المؤلف يعمل على اختياره بعناية كبيرة، وهنا يمكننا استحضار القارئ الضمني / المضمر عند إيزر Wolfgang Iser الذي يقول بأن الكاتب يستحضره لا شعوريا، ويضعه في الحسبان حين يكتب نصه إنه القارئ "الذي يخلقه النص لنفسه ويعادل شبكة من أبنية استجابة، تغرينا على القراءة بطرائق معينة" ...
والظاهر في عنواننا هذا أن القصة ستعرض لامرأة مسكينة، أجبرتها ظروف الحياة والأقدار أن تسلك مسلكا معينا يجعلنا نتعاطف معها حتى قبل قراءتنا للقصة لنعرف ما بها، وأين تتجلى مظاهر الضعف التي تعاني منه... غير أنه وبقراءتنا للقصة، نكتشف أن البطلة "فتحية" امرأة قوية ومخادعة، بالرغم من ظروفها العصيبة، فقد استمدت قوتها من تقبلها لظروفها وتأقلمها معها أولا ثم مخادعتنا ثانيا عبر قبول لقبها "امرأة مسكينة" ، فالعنوان هنا هو لقب أو حالة أو رغبة عبر عنها الكاتب بقوله: " لم تعد فتحية تبالى بعبارة (ست مسكينة) التي لاحقتها... هي لا تضيق ولا تسر بها، بل تضعها في جيبها مفتاحًا صنعه لها الآخرون قبل أن تضعه هي لنفسها، تستعين به على فتح الأبواب التي لا تستجيب للطرق الأول" .
العنصر الثاني – لغة القصة:
الغالب على لغة القصة العربية الفصحى مع ملاحظة ثلاث نقاط نسجلها كما يلي:
أ-يحيى حقي يوظف بعض الجمل والألفاظ العامية في مثل: دباديب رجليها – جابتك الأرض – حاضر يا ستي – البزازات – تجري على عيالها ...
ب-يحيى حقي يلجأ لتفصيح بعض الألفاظ والعبارات العامية فنجده يقول: ثور الله في برسيمِه بدل ثور الله ف "برسيمُو" كما تنطق في الدارجة المصرية – يقول: يأخذ باله بدل ياخذ بالو - يقول: أُبيض وجهَك بدل يبيِّض وِشّك...إذا نجد أن يحيى حقي يعمل على تفصيح بعض العبارات العامية المصرية لإلحاقها باللغة الفصيحة.
ت-يحيى حقي يستعمل الجمل الدارجة في المجتمع، مع الإبقاء عليها في عاميتها في مثل: الله يخرب بيتها - الله يخرب عقلها – الله لا يرجعها - الحالة مهببة – من تحت لتحت... نستطيع نحن كقراء أن ننطقها فصيحة، أو أن ننطقها في عاميتها.
بهذا الاستقراء في لغة النص نكون قد استحضرنا مفهوم القارئ الأعلى المتفوق عند ميشيل ريفاتير Michel Riffaterre، الذي يؤسس وجود واقع أسلوبي، وكذا القارئ الاستحواذي عند رولان بارت Roland Barthes الذي تكون له لذة الحرف وعشق اللفظ...
العنصر الثالث – شخوص القصة:
الشخصية الأساسية والمحورية الموجودة في القصة هي شخصية فتحية، فباستحضار ما قلناه في العنوان نستطيع أن نذهب في تأويلنا لشخصية هذه المرأة إلى اتجاهين مختلفين:
الاتجاه الأول: أن فتحية شخصية إيجابية: امرأة ناجحة – صالحة – فرضت عليها الظروف الخروج إلى العمل ففعلت ونجحت...هنا تكون دلالة العنوان مباشرة وصريحة ويكون فعلا دالا على المطلوب: فتحية امرأة مسكينة.
دليل ذلك من النص:
•من خلال القراءة السطحية للقصة، نجد أن هذه المرأة قد فرضت عليها الظروف الخروج للعمل، فقامت بذلك وفعلا نجحت.
•هذه المرأة مسكينة مَجنِي عليها، لم تخرج للعمل بإرادتها، بل فرضت عليها الظروف والأقدار ذلك بسبب مرض زوجها وعدم استطاعته توفير احتياجات الأسرة، مما اضطرها لقبول عرض مدير الشركة التي كان يعمل بها زوجها...
•من خلال رصد رؤى الشخصيات داخل النص والذين يحكمون عليها بأنها شخصية إيجابية مسكينة تجري وتعمل من أجل إعالة أسرتها...مما يجعل القارئ أيضا يتبنى حكمهم لا شعوريا.
الاتجاه الثاني: أن فتحية ذات شخصية سلبية: مستغلة – لعوب – عديمة الأخلاق – لا تحب زوجها...
دليل ذلك من النص:
•إظهار مكرها في إبداء مفاتنها لإغراء رئيس الشركة على قبول طلبها في تزوير شهادة تخص زوجها حتى تستطيع أخذ المرتب عنه أطول مدة ممكنة، وهو الأمر الذي نجده في فقرة من القصة "جلست فتحية أمام الرئيس والحمالة معلقة في كتفها...فكت أزرار معطفها فانكشف ثوبها، إنها جاءت لغرضين..."
•حديثها عن حماتها بشكل غير لائق: من خلال الأحداث نجدها تدعو عليها وتقول عنها: هذه "الكركوبة الحمقاء أم اللسان البارع في التنبيط الكتيمي والتلقيح من بعيد لبعيد، مسيرها أن تتركنا في حالنا وتغور وتذهب للإقامة مع ابنتها"
•رؤية عبد الرحيم السلبية لها: "أنت التي تكبرت علينا لأننا فقراء"، مقولة السيد عبد الرحيم أحد أقاربها (ابن خالة ابن عمها).
•استغلالها لعبد الرحيم بالرغم من احتقارها له، المهم ليقضي عنها بعض المشاوير والخدمات..."دب في قلبها احتقار له، انه لم يتغير، هو دائما له عقلية الخادم ونفسيته، يحب التمسك بأطراف الموائد...قالت فتحية في سرها: ولم لا؟ الله أرسله عند الحاجة، سيكفيني مؤونة مشاوير كثيرة ثقيلة"
•حزنها لخبر شفاء زوجها، وأنه سيعود لعمله قريبا " تفاجأ في آخر زيارة من مدير المستشفى...كأنه يزف إليها بشرى أن فؤاد دخل في فترة هدوء...واحتمالات النكسة بعيدة...وبعد أسبوعين يستطيع أن يعود لعمله...اغبر وجهها...سأسافر في الأسبوع المقبل..." وهدفها تمديد بقائه في المستشفى حتى لا تضطر لإلغاء سفرها.
لكن ومن خلال قراءة النص نجد أن يحيى حقي قد مزج لشخصية فتحية تداخلا لما هو سلبي بالإيجابي في مواقف محددة تجعل القارئ يقف موقف حيرة من أمر هذه المرأة، الشيء الذي يجعله يُحكِّم عقله وتجاربه وثقافته وخبرته بالناس ليقيمها كما يشاء، هنا نستحضر النظرية التواصلية لإمبرتو إيكو Umberto Eco، في استحضار القارئ النموذجي الذي يعتبر النص المقروء عبارة عن آلة كسولة، تحتاج إلى قارئ قادر على أن يتحرك تأويليا ( تأويل شخصية فتحية) كما تحرك تداوليا ( الكاتب /المرسل – المستقبل/القارئ – القناة التواصلية/ النص) وفي هذا السياق يقول "إيكو": "إنّ كلّ قراءة تعيد الحياة للنّص وفق منظور معيّن أو ذوق أو إنجاز شخصي personnelle Exécution ، ومن هذه المواقف مثلا:
• فتحية تريد حل مشاكلها وتبحث عن استعطاف الناس لها (أمر إيجابي)، فتستخدم وتستعرض زينتها أمام مدير شركة زوجها لبلوغ هدفها (أمر سلبي).
•من المواقف التي يندمج فيها التأويلان معا: رؤيتها لنفسها بأنها امرأة شجاعة – صلبة – معتمدة على نفسها... ( أمر إيجابي) واستحضارها لكيفية رؤية أقاربها لها: أنانية – قاسية – متسلطة...( أمر سلبي).
•حين ذهبت للعمل، كانت تتعمد إظهار زينتها لزملائها حتى تكسب نوعا من الدلال فتستطيع بالتالي الذهاب للعمل متأخرة...(أمر سلبي)، ووصف الزملاء لها بأنها امرأة جادة ونقية السمعة...( أمر إيجابي)
•في آخر مشاهد القصة، تظهر فتحية بأنها حققت الإنجاز الذي خططت له بالنجاح في عملها، بأن وقفت على الطائرة والتقطت لها الصور، ونزلت تلك الصور بالمجلات... ( أمر إيجابي)، مع الإشارة إلى أنه سيصبح بينها وبين مديرها تعامل بشكل من الأشكال...(أمر سلبي)، "وكانت الرحلة إلى أوروبا أول خطوة للعلالي، وأيضا أول ثمرة لهذا العلالي، إذ كان مدير الشركة مسافرا بالطائرة ذاتها" ، هنا نستحضر القارئ الضمني/ المضمر الذي قال به إيزر Wolfgang Iser، ذلك الذي يكون قادرا على التفاعل مع النص ، القارئ الذي وضعه المؤلف في حسبانه وهو يكتب القصة، وهو أيضا القارئ الذي يخلقه النص لنفسه، ليملأ فراغاته وبياضاته كما هو حال هذا المشهد الأخير في احتمالية إنشاء علاقة قد تكون منحرفة بين فتحية ومديرها...
•هذا الاستقراء لمواقف ازدواجية شخصية فتحية بين ما هو إيجابي وما هو سلبي داخل المحكي الذي قدمه يحيى حقي، يجعلنا نطبق ونستثمر القارئ المخبر كما حدده ميشيل ريفاتير Michel Riffaterre ، والذي يعمل كأداة استطلاع تستعمل لاكتشاف كثافة المعنى الكامن المسنن في النص.
العنصر الرابع – تقنية القص : الارتداد/ الاسترجاع Flashback
تقنية قصصية وظفها الكاتب يحيى حقي مرتين، تقوم على استرجاع أحداث حدثت في الماضي عبر ذهن بطلة القصة فتحية، المرة الأولى حين تذكرت تاريخها مع زوجها فؤاد منذ أن رآها بمنزل إحدى صديقاتها...إلى مرضه ودخوله المستشفى وهو الحدث الذي بدأت به القصة.
والمرة الثانية حين تذكرت فتحية مرحلة الصبا واللعب في الطفولة مع عبد الرحيم، وكيف كان يتحمل أذاها له، وما بينته من خلال هذا الاسترجاع من انطباع لها عن شخصيته...
وهنا أيضا نكون أمام القارئ المخبر لمشيل ريفاتير Michel Riffaterre الذي يستحضر الواقع الأسلوبي وكذا القارئ الاستحواذي غير البريء الذي حدده رولان بارت Roland Barthes عاشق اللفظ ...
بعد ذلك تجدني وصلت للقراءة النقدية التي تدرس (نماذج) العمل الأدبي ووحداته، وهنا سأقف على نقطتين:
النقطة الأولى تتعلق بلغة القصة:
•يحيى حقي استخدم أربع مستويات للغة:
oفصحى التراث: يتضعضع – نؤوم الضحى – دموع سخان – لم أرك منذ دهور...
oفصحى العصر
oالعامية المفصحة
oالعامية الدارجة
•الجمع بين مستويين لغويين في جملتين متتابعتين لنفس الشخصية، في مثل قول الطبيب: حاضر يا ستي، لا أحب أن أغضبك.
•من ذلك يظهر أن هذا المزج اعتبر نقطة سلبية في تأليف هذه القصة، لأنه يذهب حلاوة الاتساق التي يريد أن يشعر بها القارئ وهو يتناول قصة يحيى حقي.
النقطة الثانية تتعلق بالاستطراد في التفاصيل غير المفيدة:
المفروض أن القصة القصيرة من خصائصها الاختزال والتركيز على الأحداث الهامة فالمهمة، لكننا نجد أن يحيى حقي قد خاض في أحيان كثيرة في وصف مستطرد وتفاصيل زائدة لا تخدم حتى متوالية الأحداث...
خلاصة القول، إن التعامل مع النصوص التخييلية باستحضار مفهوم القارئ، سيظل موضوعا إشكاليا، على اعتبار التداخل الموجود بين مجموع أنواع القراء التي جاءت بهم النظريات التداولية، وأيضا لأن النص التخييلي هو في حد ذاته مجموعة من التقنيات والأجناس والأنماط المتجددة، ناهيك عن الخصائص الأسلوبية لكل أديب على حدة، في عصر تراجع فيه مستوى القراءة والاطلاع إلا من ثلة صغيرة من النقاد والأدباء أنفسهم...لكن ومع ذلك يمكننا القول أننا في هذه الخطوة الأخيرة لنقد هذا العمل الأدبي ليحيى حقي قد عملنا على مزج واستحضار أنواع متعددة من القراء، أولها القارئ النموذجي عند إيكو Umberto Eco الذي يعمل على تجميع الوحدات الدلالية والكشف عن سياقاتها الجديدة والأهم تفاعلاتها مع الذات القارئة .
القارئ الضمني / المضمر عند إيزر Wolfgang Iser المتفاعل مع النص وأيضا القارئ غير البريء لدى رولان بارت Roland Barthes الذي تكون له لذة الحرف وعشق اللغة، والقارئ الأعلى المتفوق عند ريفاتير Michel Riffaterre المهتم بالواقع الأسلوبي ...لنصل إلى القارئ المثالي عند ستانلي فيش Stanley Fish، الذي يعمل كل ما في استطاعته ليجعل نفسه مخبرا يهتم بوصف معالجة النص من طرف القارئ وهو دوركم أيها الأفاضل.
لائحة المصادر والمراجع
1- علي حرب: قراءة ما لم يقرأ: نقد القراءة، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، ع6، س1989ـ ص41-52. انظر (تحديدا ص42).
2 - كتاب " سارق الكحل"، القصة الثالثة: "امرأة مسكينة"، ص، 80 /2000م
3- فولفغانغ إيزر Wolfgang Iser : فعل القراءة، ص 30
4 - أمبرتو ايكو، العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2007
5 - أنظر كتابه ، امبرتو ايكو Le bruissement de la longue فصل Sur le lecture ص 38
6 - لذة النص، رولان بارت، ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط3 ، 2003/103
وقراءة هذا النص: "امرأة مسكينة"، تستلزم التطرق لخمسة عناصر، باعتباره جنسا تخييليا ينتمي لجنس القصة، له خصوصيته الأدبية، لكنه مجال رحب لتطبيق مفهوم القارئ كما يلي:
العنصر الأول – عنوان القصة:
من المعلوم أن العنوان لأي عمل أدبي، يكون محتملا النقيضين: المعنى المباشر أو المعنى المناقض المخادع، لأنه من أهداف العنوان هو التشويق وجذب القارئ، الأمر الذي يجعل المؤلف يعمل على اختياره بعناية كبيرة، وهنا يمكننا استحضار القارئ الضمني / المضمر عند إيزر Wolfgang Iser الذي يقول بأن الكاتب يستحضره لا شعوريا، ويضعه في الحسبان حين يكتب نصه إنه القارئ "الذي يخلقه النص لنفسه ويعادل شبكة من أبنية استجابة، تغرينا على القراءة بطرائق معينة" ...
والظاهر في عنواننا هذا أن القصة ستعرض لامرأة مسكينة، أجبرتها ظروف الحياة والأقدار أن تسلك مسلكا معينا يجعلنا نتعاطف معها حتى قبل قراءتنا للقصة لنعرف ما بها، وأين تتجلى مظاهر الضعف التي تعاني منه... غير أنه وبقراءتنا للقصة، نكتشف أن البطلة "فتحية" امرأة قوية ومخادعة، بالرغم من ظروفها العصيبة، فقد استمدت قوتها من تقبلها لظروفها وتأقلمها معها أولا ثم مخادعتنا ثانيا عبر قبول لقبها "امرأة مسكينة" ، فالعنوان هنا هو لقب أو حالة أو رغبة عبر عنها الكاتب بقوله: " لم تعد فتحية تبالى بعبارة (ست مسكينة) التي لاحقتها... هي لا تضيق ولا تسر بها، بل تضعها في جيبها مفتاحًا صنعه لها الآخرون قبل أن تضعه هي لنفسها، تستعين به على فتح الأبواب التي لا تستجيب للطرق الأول" .
العنصر الثاني – لغة القصة:
الغالب على لغة القصة العربية الفصحى مع ملاحظة ثلاث نقاط نسجلها كما يلي:
أ-يحيى حقي يوظف بعض الجمل والألفاظ العامية في مثل: دباديب رجليها – جابتك الأرض – حاضر يا ستي – البزازات – تجري على عيالها ...
ب-يحيى حقي يلجأ لتفصيح بعض الألفاظ والعبارات العامية فنجده يقول: ثور الله في برسيمِه بدل ثور الله ف "برسيمُو" كما تنطق في الدارجة المصرية – يقول: يأخذ باله بدل ياخذ بالو - يقول: أُبيض وجهَك بدل يبيِّض وِشّك...إذا نجد أن يحيى حقي يعمل على تفصيح بعض العبارات العامية المصرية لإلحاقها باللغة الفصيحة.
ت-يحيى حقي يستعمل الجمل الدارجة في المجتمع، مع الإبقاء عليها في عاميتها في مثل: الله يخرب بيتها - الله يخرب عقلها – الله لا يرجعها - الحالة مهببة – من تحت لتحت... نستطيع نحن كقراء أن ننطقها فصيحة، أو أن ننطقها في عاميتها.
بهذا الاستقراء في لغة النص نكون قد استحضرنا مفهوم القارئ الأعلى المتفوق عند ميشيل ريفاتير Michel Riffaterre، الذي يؤسس وجود واقع أسلوبي، وكذا القارئ الاستحواذي عند رولان بارت Roland Barthes الذي تكون له لذة الحرف وعشق اللفظ...
العنصر الثالث – شخوص القصة:
الشخصية الأساسية والمحورية الموجودة في القصة هي شخصية فتحية، فباستحضار ما قلناه في العنوان نستطيع أن نذهب في تأويلنا لشخصية هذه المرأة إلى اتجاهين مختلفين:
الاتجاه الأول: أن فتحية شخصية إيجابية: امرأة ناجحة – صالحة – فرضت عليها الظروف الخروج إلى العمل ففعلت ونجحت...هنا تكون دلالة العنوان مباشرة وصريحة ويكون فعلا دالا على المطلوب: فتحية امرأة مسكينة.
دليل ذلك من النص:
•من خلال القراءة السطحية للقصة، نجد أن هذه المرأة قد فرضت عليها الظروف الخروج للعمل، فقامت بذلك وفعلا نجحت.
•هذه المرأة مسكينة مَجنِي عليها، لم تخرج للعمل بإرادتها، بل فرضت عليها الظروف والأقدار ذلك بسبب مرض زوجها وعدم استطاعته توفير احتياجات الأسرة، مما اضطرها لقبول عرض مدير الشركة التي كان يعمل بها زوجها...
•من خلال رصد رؤى الشخصيات داخل النص والذين يحكمون عليها بأنها شخصية إيجابية مسكينة تجري وتعمل من أجل إعالة أسرتها...مما يجعل القارئ أيضا يتبنى حكمهم لا شعوريا.
الاتجاه الثاني: أن فتحية ذات شخصية سلبية: مستغلة – لعوب – عديمة الأخلاق – لا تحب زوجها...
دليل ذلك من النص:
•إظهار مكرها في إبداء مفاتنها لإغراء رئيس الشركة على قبول طلبها في تزوير شهادة تخص زوجها حتى تستطيع أخذ المرتب عنه أطول مدة ممكنة، وهو الأمر الذي نجده في فقرة من القصة "جلست فتحية أمام الرئيس والحمالة معلقة في كتفها...فكت أزرار معطفها فانكشف ثوبها، إنها جاءت لغرضين..."
•حديثها عن حماتها بشكل غير لائق: من خلال الأحداث نجدها تدعو عليها وتقول عنها: هذه "الكركوبة الحمقاء أم اللسان البارع في التنبيط الكتيمي والتلقيح من بعيد لبعيد، مسيرها أن تتركنا في حالنا وتغور وتذهب للإقامة مع ابنتها"
•رؤية عبد الرحيم السلبية لها: "أنت التي تكبرت علينا لأننا فقراء"، مقولة السيد عبد الرحيم أحد أقاربها (ابن خالة ابن عمها).
•استغلالها لعبد الرحيم بالرغم من احتقارها له، المهم ليقضي عنها بعض المشاوير والخدمات..."دب في قلبها احتقار له، انه لم يتغير، هو دائما له عقلية الخادم ونفسيته، يحب التمسك بأطراف الموائد...قالت فتحية في سرها: ولم لا؟ الله أرسله عند الحاجة، سيكفيني مؤونة مشاوير كثيرة ثقيلة"
•حزنها لخبر شفاء زوجها، وأنه سيعود لعمله قريبا " تفاجأ في آخر زيارة من مدير المستشفى...كأنه يزف إليها بشرى أن فؤاد دخل في فترة هدوء...واحتمالات النكسة بعيدة...وبعد أسبوعين يستطيع أن يعود لعمله...اغبر وجهها...سأسافر في الأسبوع المقبل..." وهدفها تمديد بقائه في المستشفى حتى لا تضطر لإلغاء سفرها.
لكن ومن خلال قراءة النص نجد أن يحيى حقي قد مزج لشخصية فتحية تداخلا لما هو سلبي بالإيجابي في مواقف محددة تجعل القارئ يقف موقف حيرة من أمر هذه المرأة، الشيء الذي يجعله يُحكِّم عقله وتجاربه وثقافته وخبرته بالناس ليقيمها كما يشاء، هنا نستحضر النظرية التواصلية لإمبرتو إيكو Umberto Eco، في استحضار القارئ النموذجي الذي يعتبر النص المقروء عبارة عن آلة كسولة، تحتاج إلى قارئ قادر على أن يتحرك تأويليا ( تأويل شخصية فتحية) كما تحرك تداوليا ( الكاتب /المرسل – المستقبل/القارئ – القناة التواصلية/ النص) وفي هذا السياق يقول "إيكو": "إنّ كلّ قراءة تعيد الحياة للنّص وفق منظور معيّن أو ذوق أو إنجاز شخصي personnelle Exécution ، ومن هذه المواقف مثلا:
• فتحية تريد حل مشاكلها وتبحث عن استعطاف الناس لها (أمر إيجابي)، فتستخدم وتستعرض زينتها أمام مدير شركة زوجها لبلوغ هدفها (أمر سلبي).
•من المواقف التي يندمج فيها التأويلان معا: رؤيتها لنفسها بأنها امرأة شجاعة – صلبة – معتمدة على نفسها... ( أمر إيجابي) واستحضارها لكيفية رؤية أقاربها لها: أنانية – قاسية – متسلطة...( أمر سلبي).
•حين ذهبت للعمل، كانت تتعمد إظهار زينتها لزملائها حتى تكسب نوعا من الدلال فتستطيع بالتالي الذهاب للعمل متأخرة...(أمر سلبي)، ووصف الزملاء لها بأنها امرأة جادة ونقية السمعة...( أمر إيجابي)
•في آخر مشاهد القصة، تظهر فتحية بأنها حققت الإنجاز الذي خططت له بالنجاح في عملها، بأن وقفت على الطائرة والتقطت لها الصور، ونزلت تلك الصور بالمجلات... ( أمر إيجابي)، مع الإشارة إلى أنه سيصبح بينها وبين مديرها تعامل بشكل من الأشكال...(أمر سلبي)، "وكانت الرحلة إلى أوروبا أول خطوة للعلالي، وأيضا أول ثمرة لهذا العلالي، إذ كان مدير الشركة مسافرا بالطائرة ذاتها" ، هنا نستحضر القارئ الضمني/ المضمر الذي قال به إيزر Wolfgang Iser، ذلك الذي يكون قادرا على التفاعل مع النص ، القارئ الذي وضعه المؤلف في حسبانه وهو يكتب القصة، وهو أيضا القارئ الذي يخلقه النص لنفسه، ليملأ فراغاته وبياضاته كما هو حال هذا المشهد الأخير في احتمالية إنشاء علاقة قد تكون منحرفة بين فتحية ومديرها...
•هذا الاستقراء لمواقف ازدواجية شخصية فتحية بين ما هو إيجابي وما هو سلبي داخل المحكي الذي قدمه يحيى حقي، يجعلنا نطبق ونستثمر القارئ المخبر كما حدده ميشيل ريفاتير Michel Riffaterre ، والذي يعمل كأداة استطلاع تستعمل لاكتشاف كثافة المعنى الكامن المسنن في النص.
العنصر الرابع – تقنية القص : الارتداد/ الاسترجاع Flashback
تقنية قصصية وظفها الكاتب يحيى حقي مرتين، تقوم على استرجاع أحداث حدثت في الماضي عبر ذهن بطلة القصة فتحية، المرة الأولى حين تذكرت تاريخها مع زوجها فؤاد منذ أن رآها بمنزل إحدى صديقاتها...إلى مرضه ودخوله المستشفى وهو الحدث الذي بدأت به القصة.
والمرة الثانية حين تذكرت فتحية مرحلة الصبا واللعب في الطفولة مع عبد الرحيم، وكيف كان يتحمل أذاها له، وما بينته من خلال هذا الاسترجاع من انطباع لها عن شخصيته...
وهنا أيضا نكون أمام القارئ المخبر لمشيل ريفاتير Michel Riffaterre الذي يستحضر الواقع الأسلوبي وكذا القارئ الاستحواذي غير البريء الذي حدده رولان بارت Roland Barthes عاشق اللفظ ...
بعد ذلك تجدني وصلت للقراءة النقدية التي تدرس (نماذج) العمل الأدبي ووحداته، وهنا سأقف على نقطتين:
النقطة الأولى تتعلق بلغة القصة:
•يحيى حقي استخدم أربع مستويات للغة:
oفصحى التراث: يتضعضع – نؤوم الضحى – دموع سخان – لم أرك منذ دهور...
oفصحى العصر
oالعامية المفصحة
oالعامية الدارجة
•الجمع بين مستويين لغويين في جملتين متتابعتين لنفس الشخصية، في مثل قول الطبيب: حاضر يا ستي، لا أحب أن أغضبك.
•من ذلك يظهر أن هذا المزج اعتبر نقطة سلبية في تأليف هذه القصة، لأنه يذهب حلاوة الاتساق التي يريد أن يشعر بها القارئ وهو يتناول قصة يحيى حقي.
النقطة الثانية تتعلق بالاستطراد في التفاصيل غير المفيدة:
المفروض أن القصة القصيرة من خصائصها الاختزال والتركيز على الأحداث الهامة فالمهمة، لكننا نجد أن يحيى حقي قد خاض في أحيان كثيرة في وصف مستطرد وتفاصيل زائدة لا تخدم حتى متوالية الأحداث...
خلاصة القول، إن التعامل مع النصوص التخييلية باستحضار مفهوم القارئ، سيظل موضوعا إشكاليا، على اعتبار التداخل الموجود بين مجموع أنواع القراء التي جاءت بهم النظريات التداولية، وأيضا لأن النص التخييلي هو في حد ذاته مجموعة من التقنيات والأجناس والأنماط المتجددة، ناهيك عن الخصائص الأسلوبية لكل أديب على حدة، في عصر تراجع فيه مستوى القراءة والاطلاع إلا من ثلة صغيرة من النقاد والأدباء أنفسهم...لكن ومع ذلك يمكننا القول أننا في هذه الخطوة الأخيرة لنقد هذا العمل الأدبي ليحيى حقي قد عملنا على مزج واستحضار أنواع متعددة من القراء، أولها القارئ النموذجي عند إيكو Umberto Eco الذي يعمل على تجميع الوحدات الدلالية والكشف عن سياقاتها الجديدة والأهم تفاعلاتها مع الذات القارئة .
القارئ الضمني / المضمر عند إيزر Wolfgang Iser المتفاعل مع النص وأيضا القارئ غير البريء لدى رولان بارت Roland Barthes الذي تكون له لذة الحرف وعشق اللغة، والقارئ الأعلى المتفوق عند ريفاتير Michel Riffaterre المهتم بالواقع الأسلوبي ...لنصل إلى القارئ المثالي عند ستانلي فيش Stanley Fish، الذي يعمل كل ما في استطاعته ليجعل نفسه مخبرا يهتم بوصف معالجة النص من طرف القارئ وهو دوركم أيها الأفاضل.
لائحة المصادر والمراجع
1- علي حرب: قراءة ما لم يقرأ: نقد القراءة، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، ع6، س1989ـ ص41-52. انظر (تحديدا ص42).
2 - كتاب " سارق الكحل"، القصة الثالثة: "امرأة مسكينة"، ص، 80 /2000م
3- فولفغانغ إيزر Wolfgang Iser : فعل القراءة، ص 30
4 - أمبرتو ايكو، العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2007
5 - أنظر كتابه ، امبرتو ايكو Le bruissement de la longue فصل Sur le lecture ص 38
6 - لذة النص، رولان بارت، ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط3 ، 2003/103