محمد السلاموني - [5] عن المنهج النقدى

أريد الإشارة هنا إلى موقفى من "المناهج النقدية المعاصرة، المعتمدة أكاديميا"، عسى أن تضئ، ولو قليلا، ما أعنيه بـ "النقد الإيحائى" الذى أدعو إليه.
بادئ ذى بدء، "النقد المعاصر"، وإن بدا للوهلة الأولى أكثر أيغالا فى أعماق النصوص، من النقد السابق عليه، إلاَّ أنه- كما أرى- صار أكثر ابتعادا عن دراسة النصوص؛ مفتَتِنا بنفسه
فى محاولتها التماهى تكنوقراطيا مع "سلطة العِلم". أعنى بذلك أن هناك محاولة لعلمَنة كل ما هو "ذاتى"؛ بتحويلة إلى "موضوعى"- وهى الأيديولوجيا الجديدة الساعية للهيمنة على الوجود برمَّته بتحويله إلى "مواد وأدوات وتقنيات" .
الميتافيزيقا والتقنية:
العقلانية الغربية، بعد كل هذه القرون، لم تبرح بعد الكوجيتو الديكارتى، بل لعلها عثرت فى
"الأبستمولوجيا- نظرية المعرفة العلمية"، بعد حل إشكاليتها مع الفلسفة الهيجلية- التى قيل بأنها ارتدَّت بالأبستمولوجيا التى عمد إلى تأسيسها "ديكارت وهيوم وكانظ..." إلى الميتافيزيقا"، كما ذهب "رورتى- فى مرآة الطبيعة"- على جوهرها الميتافيزيقى، كما ذهب "هيدجر".
فـ "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هو المبدأ العقلانى الذى "يقيم الوجود على العقل"، نافيا عنه كل ما عداه، وبذا تصير المترولوجيا Metrology، أى "علم القياس"؛ الذى هو [علم إجراء عملية القياس مع تحديد نسبة الخطأ المترتبة على عملية القياس. ويشمل هذا العلم جميع النواحي النظرية والعملية في القياس. ومن ثلاث كميات رئيسية هي الطول والكتلة والزمن يمكن اشتقاق جميع الكميات الميكانيكية الأخرى مثل المساحة والحجم والتسارع والقدرة. وأي نظام شمولي للقياس العملي يجب أن يتضمن ثلاث أسس على الأقل، تشمل قياس الكميات الكهرومغناطيسية، ودرجة الحرارة، وشدة الإشعاع مثل الضوء.]. هى كل ما لدينا.
فـ [العلم يتعامل مع مبادئ علمية قابلة للقياس أو تخضع لقوانين الطبيعية الأساسية أو المعايير المنهجية].
تعميم الميتافيزيقا بعد عضونتها بالقياسات الرياضية، تعنى علمَنَة الوجود، بكل ما فيه؛ أى تحويل كل ما هو "معرفة" إلى "علم رياضى"؛ ومن هنا تأتَّى الحديث عن "نهاية الفلسفة".
أما "الأدب"- والفن عامة- فقد تم الدخول إليه من نفق "علمى- تقنى" تحت مُسَمَّى "أدبية الأدب- أو علم الأدب"، فى نفى وإستبعاد لرمزيته- ذلك الإستبعاد الذى ابتدأ بديكارت نفسه "الساخر من رمزية الأيقونات"، على نحو ما ذهب "جيلبرت دوران- فى كتابه الخيال الرمزى"- وتنامى بعد ذلك تِبعا لعقلانيته.
النقد والتقنية:
ما الذى تبقى لنا من الأدب والفن إذن؟.
لا شئ سوى هياكل تقنية جوفاء؛ فارغة من التجربة الإنسانية.
وسنلاحظ بأن هذا المنحى ابتدأ بالفلسفة البنيوية- المناوئة للنزعة الإنسانية- التى تعد الأدب، مجرد تجلى لغوى، أى مجرد تجلِّى لبِنيَة اللغة، هكذا لتصير البِنيَة هى الإرادة الفاعلة، المهيمنة، ويصير الإنسان مجرد "أداة" تتجلى البِنية من خلاله.
جميع المناهج النقدية المعاصرة تقيم عالمها "العقلانى" على هذا التأسيس الفلسفى، وإن بتكييفات مختلفة.
ومن هنا صار للأدب جوهرا لغويا- لا إنسانيا...
نموذج السرديات:
فصل "الراوى عن المؤلف"، والمروى عليه عن القارئ"، وعَدّ "الراوى والمروى عليه" مجرد وظيفتين تابعتين للبنية الخاصة بالمنظور السردى؛ على هذا التأسيس يشَيِّد "علم السرد أو ما يُعرَف بالسرديات" عالمه كله...
ما نلاحظه هنا، هو أن السرديين حينما عمدوا إلى ذلك الفصل، فبنفس القدر الذى فصلوا فيه السرد عن "الإنسان"، فاعله ومتلقيه، فقد فصلوا السرد نفسه عن الأدب؛ وبتعبير آخر، جرَّدوا السرد من خصوصيَّته الأدبية، وعَدُّوه مجرد ظاهرة تعبيرية شائعة تتجلى فى "التأريخ والصحافة وغيرها من المجالات"... وفى الحقيقة- وبإقرار كثير من النقاد- لم يعد هذا المنحى "العلمى- التقنى" على السرد الأدبى بالشئ الكثير.
وهو ما يعنى أن هذا المنحى لم يعد مختصا بدراسة النصوص الأدبية باعتبارها كذلك، بقدر تمحوره حول "العملية السردية ذاتها- كظاهرة تعبيرية عامة". وهو ما أوقع النقاد "الأكاديميين - المتحرِّقين للإستحواذ على مرتبة تكنوقراط الأدب" فى وهم المقاربة النقدية للواقع النَّصِّى، بينما هم يعملون فقط لدعم وتأكيد وإثبات صِحَّة النظرية السردية، أعنى أنهم "يعيشون فى المفاهيم معتقدين بأنها هى الواقع"... وتلك هى الأيديولوجيا بعينها.
فى الحلقة القادمة سأتحدث عن "المنهج الإيحائى".

يتبع...




Войдите на Facebook

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى