د. إبراهيم خليل العلاف - جماعة رواد الادب والحياة في الموصل : فصل من تأريخ العراق الثقافي

ظاهرة التجمعات الأدبية في العراق ، والتي تنامت في الستينات والسبعينات في القرن الماضي ، ترجع بجذورها الى العشرينات ، فالشبان المثقفون الذي التفوا حول (صحيفة الصحيفة ) التي صدرت سنة 1924 ببغداد، يعدون من أوائل تلك التجمعات وكانوا من رواد التغيير والتجديد في الادب والفن والسياسة ، ومن بين هؤلاء برز حسين الرحال ومحمود احمد السيد ومصطفى علي . وفي الثلاثينات ظهرت ( جماعة مجلة المجلة ) التي صدر عددها الأول سنة 1938 في الموصل بجهود كل من ذو النون أيوب وعبد الحق فاضل ويوسف الحاج ألياس . وفي النجف الأشرف ظهرت ( جماعة منتدى النشر ) (1935) ، وكان من مؤسسيها الشيخ محمد رضا المظفر والسيد هادي فياض . وفي 1943 تأسست ( الرابطة الثقافية ) وكان عبد الفتاح إبراهيم ، ومحي الدين يوسف ، وخدوري خدوري ، وطه باقر من أركانها . وفي أواسط الستينات صارت التجمعات الأدبية من أبرز ملامح المشهد الثقافي العراقي المعاصر، وتؤشر الوثائق المتداولة حقيقة وجود أكثر من تجمع أدبي في العراق ولعل ( جماعة كركوك الأدبية ) التي تأسست بين عامي 1964 و 1968 من أبرزها وكان أنور الغساني، وجليل القيسي،وجان دمو، وسركون بولص، وصلاح فائق سعيد، وفاضل العزاوي ،ويوسف سعيد، ومؤيد الراوي، ويوسف الحيدري من أركانها.. كما اصدر حميد المطبعي في النجف الأشرف ( مجلة الكلمة ) التي استمرت في الصدور بين 1967 و 1975 ، وكانت بحق مسرحا لحركة أدبية طليعية .
وجماعة رواد الأدب والحياة التي نكتب عنها هي تجمع ثقافي ظهر في الموصل سنة 1954، وكانت من بواكير التجمعات الأدبية العراقية المعاصرة وقد ضم التجمع عند ظهوره أربعة أدباء مؤسسين قدر لهم فيما بعد ان يقوموا بدور فاعل في الحياة الثقافية العراقية المعاصرة وهم : محمود المحروق ، وشاذل طاقة ، وهاشم الطعان ، وغانم الدباغ . وقد عدوا من رواد الأدب العراقي الحديث ، وكانوا ذوي توجه تقدمي يساري ، بحثوا عن التغيير ولجأوا الى الشعر والقصة ليكونا الميدان الذي يعبرون من خلاله عن طموحاتهم في إيجاد أدب يرتبط بالحياة وهمومها . ومما بنبغي تسجيله في هذا الصدد ان الصحفي البارع الاستاذ عبد الباسط يونس ( 1928 – 2000 ) وكان يصدر جريدة في الموصل باسم الراية ( برز عددها الأول في 11 نيسان 1951 ) قد أفسح لهم في جريدته بابا مستقلا يحمل عنوان : ( باب رواد أدب الحياة ) ويشير الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب في مقالته الموسومة : (( محمود المحروق 1931 – 1993 )) التي نشرها في جريدة الحدباء ( الموصلية ) بعددها 595 الصادر في 123 تشرين الأول 1993، الى ان مجلة الرسالة الجديدة ( البغدادية )، قد وثقت نشاطات هذه الجماعة وذلك في عددها الصادر في 17 آيار سنة 1954 ويمكن الرجوع إليه للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه الجماعة الأدبية التي بعد ذلك برز اركانها في ميدان الشعر والقصة والمقالة .
ولنتساءل عن القاسم المشترك الذي ربط بين أولئك الرواد ونقول ان جميعهم من مدينة الموصل، وان الرغبة في التجديد ومحاربة الأنماط السكونية في التعبير والخروج عن المألوف المتداول في الشعر والقصة هي ما كان يجمعهم والأبعد من ذلك محاولتهم التصدي للتعقيدات الشكلية التي كانت تميز الحياة الثقافية العراقية آنذاك فضلا عن انهم كانوا في عمر متقارب تقريبا فمعظمهم من مواليد الثلاثينات من القرن الماضي ، أي ان أعمارهم عند ظهورهم كانت تتراوح بين 15 – 25 عاما . وكانوا تقدميين يساريين في آرائهم ومنطلقاتهم الفكرية، لكن ثمة أمر لابد من التأكيد عليه، وهو ان الصراعات الفكرية والسياسية بين الأحزاب والتي تفاقمت بعد ثورة 14 تموز 1958 ، أدت الى احداث التباعد بينهم ، وكما يقول الأستاذ الدكتور عبد الإله احمد في كتاب الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، فان معظم أولئك الرواد ذهبوا ضحية الأحداث السياسية العاصفة المتقلبة والتي أجهزت عليهم ، او حالت بينهم وبين تطور أنفسهم على نحو يتيح لهم تحقيق ما بدا انهم مؤهلون لتحقيقه .
فمحمود المحروق ( 1931 – 1993 ) هذا الرجل الذي يعد من رواد الشعر الحديث ، الذي عرف فيما بعد بـ ( الشعر الحر ) لم ينل ما يستحقه من اهتمام ، عصفت به السياسة ، فضاع في أتونها وانتهى الأمر به قبل ان يموت مصححا في جريدة الحدباء ، هذا الرجل نظم في السادس من آذار 1948 وعمره ( 17 ) سنة قصيدة ( ظلام ) ،والتي تعد أول تجربة أدبية عراقية في الشعر الحر ، وقد ظهرت منشورة في جريدة صوت الكرخ ( البغدادية ) ،( العدد 48 في 8 تشرين الثاني 1949) وجاء فيها :
مضينا .. وفي قلبنا تهاويل جياشة بالعناء
وكنا .. وكان الزمان لنا .. ملاحم ننشرها بالهناء
ونرشف من نخبها .. رحيق الهوى والحياة
وفي قلبها سكبنا الدموع .. شآبيب تدنو بنا للفناء
وتدفعنا للسبات .. فتندب احلامنا ونمضي وما من رجوع
وعندما كتب هذه القصيدة ، كانت نازك الملائكة تكتب في اللحظة ذاتها قصيدتها
( الكوليرا ) ،وكان بدر شاكر السياب يكتب كذلك قصيدته ( هل كان حبا ؟!)..لقد نظم المحروق قصيدة ظلام ونوع فيها القوافي ووزع فيها في التفعيلات توزيعا جديدا ، وان ظلت الصور واللغة والتراكيب ضمن موقفه الرومانتيكي الطاغي )) هكذا يقول ذو النون الاطرقجي في دراسته عن الشعر في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، (ج5 ، ص 378) .
ومحمود المحروق كان مدركا منذ البدء انه يفتح طريقا جديدا في الشعر وقد تحدث في 30 آذار 1993، وعبر جريدة الحدباء عن تجربته تلك قائلا بان أحد الأسباب التي يراها تقف وراء قيام حركة التجديد في الشعر وظهور الشعر الحر هي: (( الثورة على الأساليب القديمة في القصيدة العمودية ، والابتعاد عن السطحية والتقريرية والمباشرة وإدخال الألفاظ الرقيقة العذبة التي تعطي للشعر الحديث طراوة خاصة ، وجوا موسيقيا كأنه السلسبيل )).
ولا ينبغي الذهاب بعيدا في معرفة ردود الفعل على قصيدة ظلام ولكن لابد من القول انه اصدر ديوانه الأول بعنوان (( قيثارة الريح)) قبل ان يخرجوا للسياب بعد سنوات وسنوات ديوانا بالعنوان نفسه . فبين الإصدارين سبع عشرة سنة ( الموصل – 1954 .. بغداد – 1971 ) .
وقد ندب الأستاذ الدكتور عبد الوهاب العدواني نفسه للحديث عن قيمة الديوان وصاحبه فقال في مقالة كتبها في جريدة الحدباء ( 12 تشرين الاول 1993 ) أي بعد أيام من رحيل المحروق ان المحروق لم يكن شاعرا حسب ، بل كان ناقدا له باع طويل في معرفة الشعر وفهمه واستيعابه وتمثله ، ومع ان الأدباء العراقيين قد استقبلوا ديوان المحروق ، كما قال الناقد سامي أمين في عدد آب 1954 من مجلة الآداب البيروتية ، بشيء غير قليل من العنف ، وكتبوا عنه كتابات اتسع فيها المجال للإشارة الى عيوبه واغراقه في الرومانسية ،لكن ذلك لم يلغ ان المحروق قد أظهر في شعره موقفا وطنيا وانسانيا . لقد كان بحق مثقفا ملتزما بقضايا مجتمعه .
ولم يكن المحروق لوحده متميزا في موقفه هذا بل كان زملاؤه كذلك .. فشاذل طاقة وغانم الدباغ وهاشم الطعان كانوا يبغون تثوير اللغة العربية ، وهم وان تعمدوا الاغراق في الغموض والامعان في التأثر بخطى بعض أساليب الغرب الأدبية، الا انهم كانوا ذوي موهبة خلاقة ، وثقافة أصيلة ، وصدق بين ، فشاذل طاقة ( 1929-1974 ) كان شاعرا رومانتيكيا منذ بدايات نضجه الفني ، فلقد اجتمع لديه الحب والموت وقصائده في ديوانه الأول ( المساء الأخير ) الذي ظهر مطبوعا في الموصل سنة 1950 متماثلة في رسم عالم الحزن والأحلام والفراق والجنون والموت ، في مشاركة للطبيعة في هذه المشاعر)).( انظر دراسة ذو النون الاطرقجي عن الشعر في الموصل المشار اليه آنفا ).
كان شاذل طاقة ، شأنه شأن زملائه رواد الأدب والحياة ، منهمكا في الإتيان بالجديد .. فبعد اكماله الاعدادية سنة 1947 دخل عالم الصحافة حتى قبل تخرجه من دار المعلمين العالية ( كلية التربية بجامعة بغداد فيما بعد ) سنة 1950، وهو يحمل الليسانس في الأدب العربي . ولم يقف عند هذا الحد بل أسرع مع زملائه يوسف الصائغ وهاشم الطعان وعبد الحليم اللاوند سنة 1956 لاصدار مجموعة شعرية مشتركة تحت عنوان (( قصائد غير صالحة للنشر )) ففتح وزملائه بابا لتجربة جديدة في الأدب العراقي الحديث .. تجربة اتسمت بالتجديد وقد ورد في مقدمةديوانه : ( المساء الاخير ) قوله ان هذا الضرب من الشعر ( الشعر الجديد ) ليس مرسلا ولا مطلقا من جميع القيود ، ولكنه يلتزم شيئا وينطلق عن اشياء .. ولعل من حق الفن ان اذكر ان هذا الضرب ليس مبتكرا ، ولم يكن قط وليد هذا العصر وشبابه ، كما يحلو لبعضهم ان يقول ، فان جذوره ممتدة في الشعر الأندلسي ... )) .ونجد ان نازك الملائكة تذهب في مقدمة ديوانها ( شظايا ورواد ) الذي أصدرته سنة 1949 المذهب نفسه . من هنا نجد، كما يقول الأستاذ ماجد السامرائي في كتابه : ( شاذل طاقة : دراسات ومختارات ) بيروت 1976، (( ان الرعيل الأول من المجددين ، وبالذات في تجاربه الاولى )) يتقارب مذهبا ، كما يتقارب مواقف شعرية . ولعل ابرز خصائص تلك الحركة التجديدية انها تتميز بعودة الشاعر الى الارتباط بالحياة هذا فضلا عن الصياغة الجديدة للشعر، وزوال الازدواج بين الحس والفكر ، بين التعقل والشعور وأخيرا استخدام الشاعر للكثير من الأجواء والتعابير والمصطلحات الشعبية والتبسيط في استخدام الأساليب اللغوية . والملاحظ ، يقول ذو النون الاطراقجي، ان شعراء هذه المرحلة ، ومنهم شاذل طاقة، وهاشم الطعان، كانوا الصق من غيرهم بالصيغ التراثية في قصائدهم العمودية، بينما جاءت محاولاتهم في الشعر الحر في لغة بسيطة دقيقة .. وبتراكيب مكثفة او ذات نكهة شعبية قريبة من الواقع وهذا هو سر ارتباط أدبهم بالحياة وسر تسميتهم بـ ( رواد الأدب والحياة ).
ويقف هاشم الطعان ( 1931 – 1981 ) هذا الشاعر الرائد ، الذي مارس التعليم الثانوي فترة من الزمن ثم أكمل دراساته العليا ونال الدكتوراه ، ليكون علامة بارزة على صدق الفن والادب واقترابهما من الحياة .. قال عنه شاذل طاقة مرة انه (( صادق في فنه ، مخلص في تعبيره )). أصدر هاشم الطعان سنة 1955 مجموعته الشعرية الاولى بعنوان : (لحظات قلقة ) .. لكنه وبعد صدور مجموعته الشعرية الثانية ( غدا نحصد ) سنة 1960 انسحب من الشعر، كما يقول حميد المطبعي في موسوعته (اعلام العراق في القرن العشرين) .. ونستطيع هنا التأكيد على الحقيقة التي أشرنا اليها آنفا وهي ان هاشم الطعان كان واحدا من الذين اضرت الصراعات السياسية التي شهدها العراق بعد ثورة 1958 به، وكانت سببا من اسباب عزوفه عن الشعر، وتوجههه نحو العمل الاكاديمي .. واذا كانت الجامعة قد كسبت استاذا متميزا له كتب وتحقيقات يعتد بها ، الا ان الساحة الثقافية العراقية قد خسرته مبدعا .
أما غانم الدباغ ( 1923 – 1991 ) ، الركن الرابع من اركان جماعة رواد الادب والحياة ، فقد كان اكبر زملائه سنا ، كما انه لم يكن شاعرا بل قاصا رائدا .. وروائيا مبدعا استوحى أجواء قصصه من واقع حياة الموصل وقصباتها وقراها ابان عمله في سلك التعليم الابتدائي وقد وجدت بعض قصصه طريقها للنشر منذ ان كان طالبا في دار المعلمين الابتدائية التي تخرج فيها سنة 1944 . انصرف الى العمل الصحفي اواخر الخمسينات من القرن الماضي وشغل مناصب عديدة منها عضويته في هيئة تحرير مجلة الاديب المعاصر في السبعينات . كانت له مجاميع قصصية وتعد مجموعته القصصية ( الماء العذب ) التي طبعت سنة 1970 باكورتها ، وانشغل لفترة بالترجمة وظهرت له سنة 1950 مجموعة مترجمة بعنوان ( قصص من الغرب ) وقد نقل الاستاذ حميد المطبعي في موسوعته عن الاستاذ الدكتور عمر محمد الطالب تقييمه لغانم الدباغ وجاء فيه (( ان غانم الدباغ من القصصيين العراقيين الذين سبروا غور شخصياتهم وتعمقوا في تحليلها واستبطان دوافعها وغرائزها .. )) وقصصه تصور آلام مجتمعه ويستقي موضوعاته من الغرائز المكبوتة وفوران الشباب والحرمان من لذاذات الحياة ...)) .
ان بدايات جماعة رواد الأدب والحياة ، وان تبدو قلقة ، توحي بافكار ونزعات تجديدية تبتغي التغيير وعدم الركون لما هو متوارث وكلاسيكي ، فان المسألة التي لا يمكن تجاهلها هي ان لروادها فضل الاجتهاد والتجريب وانتهاج طريق غير مألوف في التعبير عن كوامن النفس العراقية التواقة الى الحرية والحق والصدق وهذا هو ما منح اعمال هذه الجماعة قيمة الوثيقة الادبية المعتمدة في التأريخ لحياة العراق الثقافية المعاصرة .


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الجماعات والمدارس والحركات والصالونات الأدبية
المشاهدات
576
آخر تحديث
أعلى