النّاقِدَةُ الْأَدَبِيّّةُ سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيٍنِ عَلَيْهِ السَّلامُ حَكَمَتْ بَيْنَ الشّاعِرَيْنِ ، بَعْدَ أَنْ عابَتْ عَلَى جَريرٍ بَيْتًا.
جاءَ جَريرٌ إلى بابِ سُكَيْنَةَ، وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْها فَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ. وَخَرَجَتْ إلَيْهِ جارِيَةٌ لَها فَقالَتْ: تَقُولُ لَكَ سَيِّدَتِي: أَأَنْتَ الْقائِلُ: الْكامِلُ
طَرَقَتْكَ صائِدَةُ الْقُلُوب وَلَيْسَ ذا
حِينَ الزِّيارَةِ فَارْجِعي بِسَلامِ
قالَ: نَعَمْ. قالَتْ: فَأَلا قُلْتَ: فَادْخُلِي بِسَلامِ، وَأَخَذْتَ بِيَدِها، وَأّدْنَيْتَ مَجْلِسَها، وَقُلْتَ لَها ما يُقالُ لِمِثْلِها! أَنْتَ عَفيفٌ، وَفيكَ ضَعْفٌ، خُذْ هَذِهِ الدَّراهِمَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ.
ثُمََ خَرَجَ الْفَرَزْدَقُ حاجًّا، فَلَمّا قَضَى حَجَّهُ عَدَلَ إلى الْمَدينَةِ وَدَخَلَ إلَى سُكَيْنَةَ فَسَلَّمَ. فَقالَتْ لَهُ: يا فَرَزْدَقُ مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أَنا، قالَتْ: كَذَبْتَ! أَشْعَرُ مِنْكَ جَريرٌ الَّذي يَقُولُ: الْوافر
بِنَفْسِيَ مَنْ تَجَنُّبُهُ عَزِيزٌ
عَلَيَّ وَمَنْ زِيارَتُهُ لِمامُ
(لِمامُ: بَيْنَ الْحِينِ والْآخَرِ)
وَمَنْ أُمْسِي وَأُصْبِحُ لا أَراهُ
وَيَطْرُقُنِي إذا هَجَعَ النِّيامُ
فَقالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَذِنْتِ لِي لَأَسْمَعْتُكِ أَحْسَنَ مِنْهُ. قالَتْ: أَقيمُوهُ! فَأُخْرِجَ.
ثُمَّ عادَ عَلَيْها مِنَ الْغَدِ، فَدَخَلَ عَلَيْها؛ فَقالَتْ:
يا فَرَزْدَقُ! مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أنا. قالَتْ: كَذَبْتَ! صاحِبُكَ جَرِيرٌ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ يَقولُ:
الكامِل
لَوْلا الْحَياءُ لَهاجَنِي اسْتِعْبارُ
وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ وَالْحَبيبُ يُزارُ
كانَتْ إذا هَجَرَ الضَّجيعُ فِراشَها
كُتِمَ الْحَدِيثُ وَعَمَّتِ الْأَسْرارُ
لا يَلْبَثُ الْقُرَناءُ أنْ يَتَفَرَّقُوا
لَيْلٌ يَكُرُّ عَلَيْهِمُ وَنَهارُ
(اسْتِعْبارُ: نُزولُ الْعَبَراتِ وَهِيَ الدُّموعُ، تَدُلُّنا هَذِهِ الْأَبْياتُ عَلَى تَرَدِّي مَكانَةِ الْمَرْأَةِ، حَتَّى أنَّ الزَّوْجَ كانَ لا يَزورُ قَبْرَها خَجَلًا. وانْقَلَبَتِ الْآيَةُ الْيَومَ. الْأَرْمَلَةُ لا تَزورُ قَبْرَ زَوْجِها، في مُجْتَمَعِنا بِحُجَّةِ انْقِطاعِ الْعَهْدِ بَيْنَهُما، فَأَصْبحَ كَالْأَجْنَبِيِّ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنّى يُؤْفَكونَ)
فَقالَ كَقَوْلَهُ السّابٍقِ، وَغَدا إِلَيْها في الْيَوْمِ الثّالِثِ فَوَجَدَ عِنْدَنا جَوارِيَ كَالْأقْمارِ، فنَظَرَ إلَى واحِدَةٍ مِنْهُنَّ راقَتْهُ، فَسَأَلَتْهُ سُكَيْنَةُ: يا فَرَزْدَقُ، مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أَنا. قالَتْ: كَذَبْتَ، صاحٍبُكَ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ يَقُول: مِنَ البسيط
إنَّ الْعُيونَ الَّتي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حَتَّى لا حَراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكانا
أَتْبَعْتُهُمْ مُقْلَةً إنْسانُها غَرِقٌ
هَلْ ما تَرَى تارِكٌ لِلْعَيْنِ إنْسانا
(الْمُقْلَة: الْعَيْنُ، إنْسانُ الْعَيْنِ : بُؤبُؤُ الْعَيْنِ ، غَرِقٌ: مُبْتَلٌ بِالدَّمْعِ)
فَقالَ الْفَرَزْدَقُ: يا بِنْتَ رَسولِ اللَّهِ! ضَرَبْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكِ آباطَ مَطِيَّتِي، لَمْ تَسْمَحي لِي بِالْإنْشاد، وَكَذَّبْتِنِي وَفَضَّلْتِ جَريرًا عَلَيَّ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لا دَخَلْتُ الْمَدينَةَ أبَدًا إنْ لَمْ تُنْصِفيني.
قالَتْ سُكَيْنَةُ: اُطْلُبْ يا فَرَزْدَقُ. قالَ أُريدُ الْجارِيَةَ فُلانَةَ. قالَتْ هيَ لَكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَها فَإنِّي آثَرْتُكَ بِها عَلَى نَفْسي.
———
كِتابُ الْأَغاني لِأَبي الْفَرَجِ الْأَصْبَهاني ٨: ٣٧ بِتَصَرُّفٍ
جاءَ جَريرٌ إلى بابِ سُكَيْنَةَ، وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْها فَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ. وَخَرَجَتْ إلَيْهِ جارِيَةٌ لَها فَقالَتْ: تَقُولُ لَكَ سَيِّدَتِي: أَأَنْتَ الْقائِلُ: الْكامِلُ
طَرَقَتْكَ صائِدَةُ الْقُلُوب وَلَيْسَ ذا
حِينَ الزِّيارَةِ فَارْجِعي بِسَلامِ
قالَ: نَعَمْ. قالَتْ: فَأَلا قُلْتَ: فَادْخُلِي بِسَلامِ، وَأَخَذْتَ بِيَدِها، وَأّدْنَيْتَ مَجْلِسَها، وَقُلْتَ لَها ما يُقالُ لِمِثْلِها! أَنْتَ عَفيفٌ، وَفيكَ ضَعْفٌ، خُذْ هَذِهِ الدَّراهِمَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ.
ثُمََ خَرَجَ الْفَرَزْدَقُ حاجًّا، فَلَمّا قَضَى حَجَّهُ عَدَلَ إلى الْمَدينَةِ وَدَخَلَ إلَى سُكَيْنَةَ فَسَلَّمَ. فَقالَتْ لَهُ: يا فَرَزْدَقُ مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أَنا، قالَتْ: كَذَبْتَ! أَشْعَرُ مِنْكَ جَريرٌ الَّذي يَقُولُ: الْوافر
بِنَفْسِيَ مَنْ تَجَنُّبُهُ عَزِيزٌ
عَلَيَّ وَمَنْ زِيارَتُهُ لِمامُ
(لِمامُ: بَيْنَ الْحِينِ والْآخَرِ)
وَمَنْ أُمْسِي وَأُصْبِحُ لا أَراهُ
وَيَطْرُقُنِي إذا هَجَعَ النِّيامُ
فَقالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَذِنْتِ لِي لَأَسْمَعْتُكِ أَحْسَنَ مِنْهُ. قالَتْ: أَقيمُوهُ! فَأُخْرِجَ.
ثُمَّ عادَ عَلَيْها مِنَ الْغَدِ، فَدَخَلَ عَلَيْها؛ فَقالَتْ:
يا فَرَزْدَقُ! مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أنا. قالَتْ: كَذَبْتَ! صاحِبُكَ جَرِيرٌ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ يَقولُ:
الكامِل
لَوْلا الْحَياءُ لَهاجَنِي اسْتِعْبارُ
وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ وَالْحَبيبُ يُزارُ
كانَتْ إذا هَجَرَ الضَّجيعُ فِراشَها
كُتِمَ الْحَدِيثُ وَعَمَّتِ الْأَسْرارُ
لا يَلْبَثُ الْقُرَناءُ أنْ يَتَفَرَّقُوا
لَيْلٌ يَكُرُّ عَلَيْهِمُ وَنَهارُ
(اسْتِعْبارُ: نُزولُ الْعَبَراتِ وَهِيَ الدُّموعُ، تَدُلُّنا هَذِهِ الْأَبْياتُ عَلَى تَرَدِّي مَكانَةِ الْمَرْأَةِ، حَتَّى أنَّ الزَّوْجَ كانَ لا يَزورُ قَبْرَها خَجَلًا. وانْقَلَبَتِ الْآيَةُ الْيَومَ. الْأَرْمَلَةُ لا تَزورُ قَبْرَ زَوْجِها، في مُجْتَمَعِنا بِحُجَّةِ انْقِطاعِ الْعَهْدِ بَيْنَهُما، فَأَصْبحَ كَالْأَجْنَبِيِّ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنّى يُؤْفَكونَ)
فَقالَ كَقَوْلَهُ السّابٍقِ، وَغَدا إِلَيْها في الْيَوْمِ الثّالِثِ فَوَجَدَ عِنْدَنا جَوارِيَ كَالْأقْمارِ، فنَظَرَ إلَى واحِدَةٍ مِنْهُنَّ راقَتْهُ، فَسَأَلَتْهُ سُكَيْنَةُ: يا فَرَزْدَقُ، مَنْ أَشْعَرُ النّاسِ؟ قالَ: أَنا. قالَتْ: كَذَبْتَ، صاحٍبُكَ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ يَقُول: مِنَ البسيط
إنَّ الْعُيونَ الَّتي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حَتَّى لا حَراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكانا
أَتْبَعْتُهُمْ مُقْلَةً إنْسانُها غَرِقٌ
هَلْ ما تَرَى تارِكٌ لِلْعَيْنِ إنْسانا
(الْمُقْلَة: الْعَيْنُ، إنْسانُ الْعَيْنِ : بُؤبُؤُ الْعَيْنِ ، غَرِقٌ: مُبْتَلٌ بِالدَّمْعِ)
فَقالَ الْفَرَزْدَقُ: يا بِنْتَ رَسولِ اللَّهِ! ضَرَبْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكِ آباطَ مَطِيَّتِي، لَمْ تَسْمَحي لِي بِالْإنْشاد، وَكَذَّبْتِنِي وَفَضَّلْتِ جَريرًا عَلَيَّ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لا دَخَلْتُ الْمَدينَةَ أبَدًا إنْ لَمْ تُنْصِفيني.
قالَتْ سُكَيْنَةُ: اُطْلُبْ يا فَرَزْدَقُ. قالَ أُريدُ الْجارِيَةَ فُلانَةَ. قالَتْ هيَ لَكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَها فَإنِّي آثَرْتُكَ بِها عَلَى نَفْسي.
———
كِتابُ الْأَغاني لِأَبي الْفَرَجِ الْأَصْبَهاني ٨: ٣٧ بِتَصَرُّفٍ