محمد السلاموني - [6] عن المنهج النقدى

[6]

الإيحاءات التى يثيرها النص الأول "نص المؤلف"، فى عقل ونفس الناقد، تكَوِّن فى مجموعها ما أطلقت عليه "النص الثانى"، وذهبت إلى أن هذا النص الأخير هو النص الحقيقى الذى يشتَغِل عليه الناقد .
وهو ما يجعل من النص الأول مجرد "ذاكرة" للنص الثانى....
المنهج الإيحائى:
بعيدا عن التقنينات والتصنيفات العلمية المقرَّرة والمعتمدة أكاديميا، تلك التى أرهقتنا وألقت بنا فى متاهات لا أول لها ولا آخر، مما انفصل بالنقد نفسه عن النصوص الأدبية، وأدى لتحول النقاد إلى "كهنة- تكنوقراطيين" حائزين على "السِّر- سِر أدبية الأدب"، باسم العِلم؛ دون أن يقدموا إجابة واحدة مقنِعة عن سؤال النص الأدبى، ودون أن يتعلم منهم أحد كيفية قراءة النصوص، وكيفية التفاعل معها بما يثريها هى نفسها من حيث الإنتاج الإبداعى "التأليفى" بعائده الإنسانى و الثقافى...
أقول، بعيدا عن تلك الدراسات اللسانية التى استحوذت لنفسها على الأدب، بدعوى لُغَوِّيَّتِه، مما عاد بالكثير على اللسانيات، دون أن يظفر "الأدب والأديب والقارئ" بشئ منها، أتقدَّم بمسَاهَمتى "المتواضعة- التى أعرف أنها بحاجة إلى مزيد من المثابرة والعمل الجاد لكى تتطور"...
بادئ ذى بدء، يتوزَّع النص الأدبى على "المعنى المباشر"؛ أى المعنى العائم على سطح النص، وعادة ما نمسِك به من خلال "المتن الحكائى أى المادة السردية، والمبنى الحكائى أى الشكل"، و"المعنى الإيحائى"؛ الذى هو المعنى الثانى أو المعنى الرمزى أو الدلالة أو المغزى
، وهو المعنى الكامن فيما وراء الظاهر النَّصِّى ...
السؤال الآن هو: بإمكان أى كان الإمساك بالمعنى الأول، المباشر، من خلال الحكاية والحبكة، أى من خلال الحكاية وكيفية تقديمها أو عرضِها، أى "تنظيمها وترتيبها"، على النحو الذى انتهت به إلينا كقُرَّاء، أما المعنى الإيحائى أو الثانى فشئ آخر؛ وهو المعنى المختبئ وراء السطح النَّصِّى، "باعتباره مناط عمل المناهج النقدية المعاصرة كلها"- هذا المعنى الإيحائى، كيف يمكن لنا الإمساك به؟.
اللغة بين مركزية الشئ ومركزية الدلالة:
اللغة لا "تمثل" الشئ ؛ أى أنها لا تنوب عنه فى الحضور، كما أنها لا تُحضِر الشئ فى الذهن عند ذِكره "نطقا أو كتابة" سوى فى وجوده الكلى؛ الخام، الغفل، المكتفى بذاته والمنغلق عليها؛ خارج الإستعمال والتواصل الإجتماعى؛ "فكلمة "باب"- على سبيل المثال- لا تعنى بابا معينا، بل فكرة الباب فقط ، أى باب، أيا كان"... هذا والتواصل اللغوى "دلالى" بالضرورة، من هنا كانت اللغة "تدل" على معنى الشئ . والمعنى الذى ينطوى عليه دال ما، يستحيل علينا الإستحواذ عليه خارج تاريخ اللغة التى ينتمى إليها، من ناحية، وخارج الصراع الإجتماعى "الأيديولوجى" الذى يتَّخذ من العلامة اللغوية حقلا له .
غير أن هذا لا يعنى أن "الصورة الحسية للشئ- أى الصورة التى ندركها بالحواس" تتلاشى فى مواجهة "المعنى"، "فعندما نسمع أو نقرأ كلمة "باب" تحضِر إلى أذهاننا الصورة المميزة لذلك الشئ الذى نعرِفه كباب"... هكذا، فتلك الصورة تظل قابعة فى العمق التداولى والتواصلى للعلامة اللغوية، بما هى الأصل الذى تتمحور حوله الدوال والمدلولات العديدة، وبدون تلك الصورة يستحيل علينا التواصل .
وبالإمكان الزعم أن الدوال والمدلولات المتعلقة بشئ ما، هى التأويلات المختلفة التى تحاول الإمساك به فى ارتباطاته واعتماداته المتبادلة مع الوجود بأكمله .
ومن ناحية ثانية، الدال نفسه، وبحكم الصلات العديدة التى تربطه بالدوال الأخرى، تتعَدَّد مدلولاته، بما يصنع مركزيته هو التالى ..
هكذا، وما يمكن قوله هو أن إشكالية اللغة تنحصر فى الخلط بين "مركزية الشئ"؛ تلك التى تمحورت حولها فلسفة اللغة السابقة على دى سوسير، و"مركزية الدال"؛ اللاحقة لدى سوسير ؛ ذلك أن المطابقة بينهما- فى الأولى- أفضت باللغة إلى "تمثيل الشئ؛ على إعتبار أن معنى الشئ هو الشئ نفسه"، بينما الفصل بينهما- فى الثانية- أفضى بالدال إلى "الدلالة على الشئ" ، هذا بينما الواقع يقول باستحالة أداء اللغة لوظائفها التواصلية كاملة بدون الأخذ بالمركزين معا، ذلك أن "مركزية الشئ" تظل قابعة فى عمق الذاكرة المرجعية التواصلية بتمحورها حول الدلالة؛ هذا تأسيسا على الفرضية التى تقول بأن عملية الإستحواذ والهيمنة- التى يدور حولها الصراع الإجتماعى "الأيديولوجى"- تهدف، فى الأساس، للهيمنة على الواقع، وما العلامات اللغوية "التى هى حقل لهذا الصراع" سوى الحقل الرمزى الدال على الواقع نفسه، مع ملاحظة أن العلامات اللغوية ليست انعكاسا آليا للعالم، لأن النظام اللغوى ليس هو نظام الأشياء .
من هنا، كان النظام اللغوى ينتسِب للوعى المتراكم بالواقع؛ ذلك الوعى العامر بظلال الواقع نفسه...
وبتعبير آخر، المسافة الفاصلة بين "المعنى المُعجمى- التمثيلى، المرجعى" و"دلالة الجُملة الإستعمالية"، هى المسافة التى تتحوَّل فيها العلامة اللغوية "أى الكلمة" للدلالة على شئ آخر، دون أن تتخلَّى تماما عن الظل "التمثيلى، المعجمى، الأصلى"، إذ تحمله معها...
ولإيضاح الأمر أكثر، أقول:
للعلامة اللغوية تاريخ إستعمالى، وعلى الرغم من أن "الدال" لا يخبئ تحته "مدلولا" معينا، مما يجعله أقل ارتباطا بما يدل عليه فى المعاجم اللغوية، أو قُل بأنه يتمتع باستقلالية تمنحه حرية التَّجَوُّل فى عالم المجاز، إلاَّ أن "ذكرى أو ظلال" التعريف المركزى "المعجمى" تظل عالقة به، تلك "الذاكرة، الظلال"، هى التى تمُدَّنا بإمكانية التواصل مع بعضنا البعض؛ فعلى سبيل المثال، كلنا نعرف ما تدل عليه كلمة "شجرة"؛ بما هى نوع من النبات يتميز بسمات مرئية محدَّدة...
تلك الكلمة حين تنتقل إلى التعبير المجازى فى قولنا: "شجرة العائلة"، تدل على شئ آخر، هو "ما تفَرَّعت إليه العائلة ذات الأصل الواحد"، ما حدث هنا، كما نلاحظ ، هو أن "ظلال الشجرة الأصلية- المُعجمية" ظلت كامنة بداخل المجاز الذى انتقلت إليه الكلمة على الرغم من أن التعبير المجازى يتحدث عن "العائلة" وليس عن "نوع من النبات".
ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن علاقة العلامة اللغوية بالشئ الذى تدل عليه، بقدر ما تعود "إعتباطيتها" إلى نظام اللغة المنبنى على الإختلافات، إلاَّ أن قِدَمها الإستعمالى، منح وجودها فى الذهن قوة إعتقادية لا يجب إغفالها، هى" قوة التصاقها بالشئ الذى تدل عليه"...
يتبع...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى