قبل أواخر العشرينيات كانت هناك طرائف قصصية، مما نطلق عليها اسم الحكايات الشعبية مسيطرة تماماً في دنيا القصّ لدى الشعب الكويتي.. إلى أن نشرت في أواخر العشرينات من القرن الماضي أول قصة قصيرة بقلم الشاعر الكويتي خالد الفرج.. بعد ذلك لم تظهر أي محاولة لتجريب هذا الفن حتى الأربعينيات التي شهدنا فيها محاولات تجريبية جريئة على يد جيل كان جل هدفه أن يبعث خير ما في الثقافة الوطنية من تراث وأن يستوعب منجزات الحضارة الحديثة على وقته ورفعت راية التعريب والتكويت والقومية في مجال الأدب.. واتخذ افراده الموهوبون من مجلة البعثة وفيما تلاها من الانطلاقات الصحافية ألسنة لهم، متميزين باهتماماتهم الأدبية وبتأثير منهم بدأ يبرز الى الوجود أدب كويتي أصيل يعكس حياة المجتمع الكويتي في صدق وإخلاص ويواجه عن وعي حركات الجمود والتخلف والنظر الى الوراء. وبدأ اهتمام الكاتب أو الأديب ينتقل من الدوران حول نفسه، الى الاهتمام بالطبقات الأكثر معاناة في المجتمع والمرأة الكويتية على وجه خاص.
ويشهد الدكتور «محمد حسن عبدالله»٭ في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية في الكويت»، على باكورة الفن القصصي في الأربعينيات قائلا: «أول قصة نشرتها الصحافة الكويتية، وهي أول قصة كويتية ايضا، حملها العدد الرابع من مجلة البعثة (مارس 1947) تحت عنوان بين «الماء والسماء» وهي بقلم: «ولد عريب».. وهو الاسم الفني لـ «خالد خلف» مؤسس صحيفة الشعب فيما بعد، وكان حينها يدرس في القاهرة.. وقد ظلت هذه القصة بمثابة محاولة فريدة لمدة شهرين، إذ نشرت البعثة في عدد مايو 1947 مشهداً حوارياً بعنوان «من الجاني» لـ «حمد الرجيب»، وهو وان كان حوارا خالصا فان القصة القصيرة اولى به من المسرح - برغم تعلق الرجيب بالمسرح - فليس من الممكن اعتبار عمل مكتوب في صفحة واحدة صالحاً للأداء على المسرح. وفي الشهر التالي مباشرة نشرت قصة ثالثة، وهي الأولى التي توضع تحت عنوان «قصة العدد» ونعني بها قصة «ذئب الصحراء» التي كتبها ع.ح.. وهذه البداية قد تعثرت بدورها فظلت المجلة تصدر دون قصص حتى نشرت في ديسمبر 1947 اول قصة مترجمة، وهي قصة «بسرعة البرق» التي ترجمها يعقوب الحمد عن «كولن هورد» ومع استهلال عام 1948 ظهرت مجلة «كاظمة» وظلت تصدر تسعة أشهر متصلة لتتوقف، ثم لتظهر بعدها مجلة «الكويت» التي أصدرها «يعقوب عبدالعزيز الرشيد» في الفترة نفسها، وكانت تحتفي بالقصة أو بلون معين منها، وهو اللون الفكاهي الساخر في تصويره ونقده يكتبه «العبد لله» الذي قد يكون الحاتم نفسه او «فرحان راشد الفرحان» الذي شارك حيناً في تحرير هذه المجلة. وبعد «الفكاهة» ظهرت مجلة «الرائد» سنة 1952، وكانت مجلة «البعثة» تقوم بدور النغم المستمر مع هذه المحاولات الموقوتة، وقد أتاحت «كاظمة» و«الكويت» المجددة و«الرائد» بصفة خاصة الفرصة لظهور القصاص الكويتي المستمر، الذي لا يكتب المحاولة الوحيدة، او المحاولتين ليختفي، وإنما يظهر في كتاباته معنى الإصرار، كما تكتشف محاولاته عن نضج - على مستويات - ومعرفة بأصول الفن القصصي».
ويضيف الباحث في صفحة 416 قائلا: «في أوائل الخمسينيات ظهرت أسماء فرحان راشد الفرحان وعبدالعزيز محمود وعلي زكريا الأنصاري وفهد الدويري وجاسم القطامي ويعقوب عبدالعزيز الرشيد وخالد الغربللي. ولم تتخلف المرأة طويلاً في هذا المجال فظهرت قصص «هيفاء هاشم» وهي أول فتاة كويتية تكتب القصة، ونشرت لها «البعثة» و«الرائد»، كما كتبت «ضياء هاشم البدر»، بعض القصص في «البعثة»، وشارك الشاعر أحمد العدواني ببعض الصور القصصية الساخرة التي كتبها بلسان «أبو شلاخ» في البعثة في أوائل عام 1948».
بالتزامن مع الصحافة
من هذا يتضح ان فجر القصة القصيرة في الكويت جاء مزامنا لفجر الصحافة.. وفيما يلي عرض لدراسات ثلاث قام بها ثلاثة من الباحثين ليفتحوا المجال على مصراعيه للدخول لنقد وتأريخ الفن القصصي في الكويت:
أولاً: الدكتور «سليمان الشطي»:
اصدرت له مكتبة الأمل مجموعته القصصية «الصوت الخافت» في طبعتها الأولى عام 1970 التي استهلها بدراسة ادبية موجزة في الصفحات من 9 حتى 25 عن بدايات القصة القصيرة في الكويت.
قال عنها انها مستحدثة بالنسبة للادب العربي عامة ولم يؤثرها المثقفون بالاهتمام الا في الاربعينيات من هذا القرن فدخلت الى الكويت مواكبة لانتشار الصحافة على يد فتية كويتيين آمنوا بالثقافة والعلم والادب وشجعوا الاتصالات الثقافية بمن يجاورهم من البلدان العربية وبالأخص القطر المصري الذي ازدهرت فيه آنذاك مجلات الرسالة والثقافة والهلال وكان لها الفضل كل الفضل في تنمية الوعي الثقافي لدى ابناء الوطن.
اقبل المثقفون على صفحات هذه المجلات بنهم الصادي الطالب للري الثقافي بولع وشغف فقرأوا القصص وما نشر حولها من دراسات وتابعوا التهميش المنوه عن المصادر ونقلوا اسماءها وتواريخ صدورها ونقبوا عنها في المكتبات وما أن عثروا عليها حتى سهروا إليها واعطوها الكثير من وقتهم ففاضت عليهم بما تحتويه بين دفتيها مما ساعدهم على صقل مواهبهم، وجعلتهم يحرصون على الدقة في ملاحظاتهم - ثم ظهرت المجلات الكويتية آخذة نفس الخط الذي سارت عليه اخواتها المصريات من حيث الاهتمام بالتراث وتشجيع المواهب الشابة.. فوجد الشعر المناخ مناسباً على صفحات هذه المجلات فانطلق الشعراء يتغنون، والدارسون يحللون، وكتاب القصة يحاولون ايجاد زوايا مناسبة لهم.
وكتابنا بعد ان اثر فيهم الامتزاج الثقافي الا أن اقلامهم بعد ان وعت الدرب تميزت بأصالتها الخاصة. وابداعها الملحوظ ويضيف الدكتور سليمان الشطي: (وبجانب هذا التفاعل الذي تم بين هؤلاء - يقصد روادنا الأوائل - والكتاب العرب نجد ان هناك عاملاً ثانياً ساعد على نمو الفن القصصي بالذات، فلقد اطلع هؤلاء على القصص بشتى انواعها واتجاهاتها منها تلك التي خطتها الاقلام العربية مثل المنفلوطي وطه حسين والمازني ونجيب محفوظ وتيمور، وكان دخول اعلام الادب العربي في هذا المجال عاملاً مهما، لأن هذا الاهتمام من جانب هؤلاء وجه الانظار الى هذا الفن الاصيل.. لقد قرأ شباب الكويت هذا النتاج وتأثروا به وتفاعلوا معه.. ومن العوامل التي سلكتها بعض هؤلاء الى كتابة القصص اطلاعهم على الادب الغربي سواء أكان مترجماً ام بلغته، بل ان بعضهم عمل على ترجمة هذه القصص.
.. ومما لا ينكر ايضا ونحن في مجال تعداد العوامل التي ساعدت على نمو هذا الفن هو وجود الصحف، فلقد كان للصحف فضل على القصة كبير خاصة اذا علمنا ان القصة القصيرة بالذات بدأت بدايتها الطبيعية مع وجود هذه الوسيلة الاعلامية التي كانت تضمن اعدادها هذا الفن المحبب بحيث يجد القارئ في قراءتها واتمامها في جلسة واحدة متعة لا بأس بها..
هذا هو الخط العام الذي يقف وراء وجود القصة في الكويت.
القراءة الناقدة
ثانياً: وليد ابو بكر
نشرت مجلة أقلام العراقية في عددها الثاني عشر للسنة العشرين كانون الأول - 1985 في الصفحات 103 حتى 108 دراسة للاستاذ وليد ابو بكر عنوانها «القصة القصيرة في الكويت – قراءة المضامين».. تميزت بعجالة نقدية تلتها نبذة تاريخية ثم استعراض الاتجاه الموضوعي من البدء وحتى عصرنا الحاضر.. ففي العجالة النقدية ذكر ان التاريخ الادبي تشغله مسألة الاحاطة من البداية حتى اللحظة التي يحددها الباحث ومن ثم يختلف التأريخ للأدب عن القراءة النقدية له لاهتمامه ببعض التفاصيل التي تعتبر جزداً من مهمته، مثل تفاصيل الريادة، وتتبع البدايات ومتابعة المساهمات مهما كانت ضئيلة والتحقق من دقة الأزمنة الى آخره من تلك الأمور في حين ان القراءة النقدية في غنى عن كل هذا فهي لا تأخذ منها الا بقدر ما تضيف اليها كما في حال القراءة الانتقائية التي لا يهمها غير تفاصيل المادة التي تسلط عليها اشعتها فيما تستعرضه او تتابعه من النتاجات الادبية آخذة في اعتبارها انها قد تُسقط من ذلك ما جاء به التاريخ مدخلاً ولايحمل سمات النتاج الادبي او لا يشير الى المادة المسلطة عليها اضواء النقد مستندة الى علماء النقد الذين لا يعولون على هذا الاسقاط اذا كان ضرورياً ويشكل وجوده عقبة في طريق الباحث.
ثم يدخل الباحث في الموضوع لاستعراض مواصفات القراءة النقدية موضحاً انها تمتلك مساحة واسعة تختار منها بدءاً بالدراسة الفنية للمادة المقروءة وانتهاء بالمضامين المتنوعة، التي تطرحها هذه المادة، مروراً بالاشكال، والاهتمامات والرموز، وانعكاسات هذه الرموز على الواقع.. وعن النوعية الادبية التي تملك هذه المساحة الرحيبة قال ان القصة القصيرة في الكويت هي التي تملك هذا الوسع المساحي وللناقد ان يختار ما يشاء لانها حتى الآن وان كانت قد حظيت بجابهذة التأريخ في دراساتهم التاريخية الموسعة الا انها لم تحظ بالوعي المتخصص الذي يقرؤها نقدياً مستوعباً التفاصيل التي تطرقت اليها هذه القصص ومتلمساً التأثيرات الواقعية والاجتماعية فيها.
ثم اشار الاستاذ «وليد» ابو بكر الى عدة مناظير يمكن ان ننظر من خلالها الى المادة القصصية المقروءة مثل النظر اليها من منظور علاقتها بالبحر لغة وتأثيراً.. منظور المعتقدات الشعبية كنتاج للموروث الشعبي فيها.. منظور الزمن والقضايا الاجتماعية.. وهناك العديد من المناظير التي جاءت بها الدراسات الادبية الحديثة والتي لم يتطرق اليها اي ناقد حتى الآن.
وفي استعراضه لتاريخ القصة ذكر ان اول قصة نشرت كانت بقلم كويتي في اواخر العشرينيات وان الاربعينيات من هذا القرن هي التي عاشت عدداً من التجارب القصصية المتفاوتة شكلاً ومضمونا، وهي التي ابرزت بعض الاسماء التي ارتبطت بهذا الفن سواء احترفته ام انشغلت عنه باهتمامات فنية أخرى ثم قال ان الدراسات التي عُينت بها النتاج لم تعطه شيئاً من المميزات التي تتجاوز الريادة، وهي قضية لا تعني كثيراً في القراءات النقدية، خاصة وان هذا النتاج لم يكن بالقوة المؤثرة ولا بالحجم المؤثر، الا من خلال بعض الاستثناءات، التي استمر عدد قليل منها وتطور، بينما توقف الآخرون عن المشاركة، بعد تجارب بسيطة، لم تصل في مستواها الى مستوى نظيراتها في الوطن العربي، في ذات الزمن، لاسباب ليس من الصعب الوصول إليها، تتعلق بثقافة المجتمع المتواضعة في ذلك الوقت، وببعده عن التجارب الفنية الأخرى، التي كانت مستجدة- أيضا- في المجتمعات العربية.
ثم جاء بتعليل مهم يجيب به على السؤال الذي قد يجيء على لسان القارئ الذي تعرض للفن القصصي الكويتي وهو في طور الابتداء ألا وهو: [لماذا هذه القصص لم تسجل ما هو أوسع من الصورة الواقعية للمجتمع الكويتي].. قال فيه: [لأن المجتمع الذي صورته محاولات القصة القصيرة في بدايتها كان مجتمعا يميل إلى التجانس- خاصة من خلال النظرة العامة إليه وهي بذلك قد أفادت في التعرف على صورة هذا المجتع في الوقت الذي أخلّت فيه بإعطاء صورة فنية للقصة وهذا باستثناء بعض التجاريب القليلة في هذا الفن].
بدايات التجارب القصصية
ويمضي «وليد أبو بكر» يطلعنا على البدايات ذاكراً أن بعض التجارب القصصية القديمة قد استمرت وما زالت في الفترة التي تفجرت فيها مواهب حديثة في القصة كانت شرارتها الأولى على يد عدد من الشباب الذي اطلعوا على هذا الفن، من خلال ما تدفق على المجتمع- بعد اتصاله بما حوله- من تجارب حملتها الكتب والمجلات المتخصصة واهتمت بها الصحافة الحديثة التي بدأت نهضتها تتضح مع أوائل الستينات لتجتذب المحاولات الكثيرة، التي قدمت أسماء كثيرة لم تستطع النسبة العظمى منها أن تستمر لأسباب عديدة بعضها يعود إلى اكتشاف أصحابها- مع مزيد من المعرفة- إنهم غير موهوبين في هذا الفن، أو أن قدراتهم الفنية تستطيع أن تبرز في مجالات أخرى ولم يبق لفن القصة إلا الذين واصلوا، والذين ظهرت موهبتهم بعد ذلك فصارت القصة القصيرة وسيلتهم الأساسية في التعبير، خارج نطاق بعض الدراسات الأكاديمية التي شغلت بعضهم وكانت لها أهدافها الأخرى.
هؤلاء الكتاب، هم الذين يشكلون جيل القصة الفاعل الآن، لأنهم يستندون في ممارسة هذا الفن إلى فهم مجتمعهم.. ثم يوجه «وليد أبو بكر» اضواءه ليعرض لنا الاتجاهات الموضوعية للقصة القصيرة، موضحاً أن ما قدمته الكتابات القصصية الحديثة للمجتمع تصويراً ونقداً ومحاولات تنبؤ، هو الإطار الذي تدور حوله هذه القراءة في المضامين ونظراً لاتساع هذا الإطاركما يقول فإنه سينتقي بعض النصوص من مجموعات القصصيين ويقرؤه قراءة نقدية.
بدوي وحضري وهجين
ثالثاً: «إسماعيل فهد إسماعيل»:
أصدرت له «دار العودة» ببيروت دراسة نقدية عنوانها [القصة العربية في الكويت] طبعة أولى عام 1980 استهلها بمقدمة أعطاها عنوان [القصة ما قبل التدوين] وصنف القصص إلى ثلاثة أصناف هي: قصص ذات طابع بدوي وأخرى ذات طابع حضري، والثالثة أطلق عليها اسم القصص الهجين ثم ذكر الدور الذي لعبه كل من التعليم والظروف العقلية في التأثير على هذه الأصناف الثلاثة التي لم تتحرر من سمات القص الشعبي والتي ترتكز في جميع مضامينها على القيم والعرف والعادات والتقاليد التي استند إليها المجتمع الكويتي في نشأتها وتطوره وما هي إلا خليط من القيم البدوية والحضرية.. يقول الأستاذ إسماعيل: [الأجداد الأوائل الذين قدموا- مهاجرين- من نجد قبل ما يقارب القرون الثلاثة حملوا معهم كل الذي تعارفوا عليه من قيم بدوية.. عشائرية.. وما أن استقروا- بعد تطواف طويل- في أرض الكويت، واتخذوا من البحر مصدر عيش لهم حتى تولدت لديهم قيم جديدة نتيجة للعلاقات الاقتصادية التي جاءت مع الطموح إلى الاستقرار].
وذكر المقولة التي استند إليها في تصنيفه قائلاً: [ولأن الجديد يخرج من رحم القديم، ثم يتعايش معه جنباً ريثما يثبت القديم لا جدواه نستطيع أن نصنف القصص الشعبي الكويتي إلى أصناف ثلاثة] وهي الأصناف التي ذكرناها.
فمضمون القص البدوي يتضح في البطولات الفردية لشيوخ العشائر أو مغامرات بعض الأفراد المنتقين المقربين من أولئك الشيوخ، أما الشكل فقد كان الشكل السردي المزود بالجمل الحوارية وبالنسبة للمصدر هو ما نقل للآباء عن الأجداد من الموروث الشعبي ومضمون القص الحضري فقد كان معظمه حول البحر وحياة البحر.. يقول الأستاذ اسماعيل:.. الشعب الذي استقر، وامتهن تجارة نقل البضائع ما بين موانئ الخليج، بدءً من ميناء البصرة، وتطوافا في البحر العربي فالمحيط الهندي، والبحر الأحمر إلى جانب أعمال الغوص على اللؤلؤ، وصيد السمك، وجد نفسه وهو يواجه أمرين:
في الخارج: أهوال البحر، وقصصنا الشعبي غني بالحكايات والمآسي والبطولات، حيث كان يتحتم على سفينة شراعية يتولى أمرها حفنة من الرجال أن تواجه العواصف والأمواج وتقلب الأنواء يضاف إلى هذا مواجهتها للقرصنة، وما يترتب عن الأوضاع الدولية، سواء في الماء أو عند اليابسة في الموانيء التي ترسو فيها.
(… كانوا كثيرا ما يعودون دون كسب يعوض ما لاقوه من متاعب).
هكذا قالت الدكتورة «نجاة عبدالقادر الجاسم» في كتابها «التطور السياسي والاقتصادي للكويت» في صفحة 256 وهو أحد المراجع التي استعان بها ناقدنا الأستاذ اسماعيل في دراسته النقدية للقصة القصيرة في الكويت.
وفي هذه القصص نلمس إلى حد كبير مدى تأثر الإنسان الكويتي بالحياة البحرية المليئة بالمخاطرات والمغامرات.
في الداخل: نلاحظ بدْء نشوء علاقات رأسمالية بدائية نتيجة للاستقرار وممارسة أعمال التجارة والغوص.
تقول الدكتورة «نجاة»: [… وقد انقسم العاملون في الغوص إلى قسمين: الأول: وهم «الغواويص» أي القائمون بالبحث عن اللؤلؤ واستخراجه من أعماق البحار، ويشبهون في مجتمعاتنا الحالية الطبقة العاملة المستغلة، لأنهم لا يحصلون إلا على النزر اليسير من الأرباح. الثاني: وهم المعروفون بـ«الطواويش»].. تجار اللؤلؤ، إضافة إلى «النواخذة» (قادة السفن وملاكوها). وبطبيعة الحال فإن ما كان يسري على الغواصين كان يسري على العمال الآخرين.
والقصص التي تولدت عبر هذه المعاناة حملت الكثير من هموم الإنسان الكويتي، وإحساسه بوطأة ما يتعرض له.
أما القصص الهجين فهو النوع الذي جاء عن احتكاك الإنسان الكويتي بالشعوب والحضارات الأخرى، العربية منها، وكذا الأفريقية والهندية والفارسية، حيث جرى- بمرور الزمن «تكويت» بعض القصص والأساطير الشعبية الأجنبية إلى جانب امتزاج التجربة الكويتية بالتجارب الأخرى.
هكذا قال الاستاذ اسماعيل فهد اسماعيل مستهلا دراسته النقدية للقصة القصيرة في الكويت تم تكلم بعد ذلك في القصة في مرحلة الريادة كلاما يشابه ما قاله كل من الدكتور محمد حسن عبدالله في كتابه الحركة الادبية والفكرية في الكويت والاستاذ وليد ابو بكر في دراسته التي نشرتها مجلة الاقلام العراقية والاستاذ الدكتور سليمان الشطي في مقدمته لمجموعته القصصية الصوت الخافت.
المرأة العربية في حقل القصص الفني
ان المرأة العربية لعبت دورها جيدا في هذا الفن المستحدث نذكر منهن على سبيل المثال: ليلى العثمان كاتبة التزمت باحدث ما تطورت اليه القصة القصيرة من ناحية الشكل والمضمون واشتهرت بمجموعتها الثانية «في الليل تأتي العيون» وتصدرت بها في وقتنا الحاضر القائمة التي تحمل اسماء اخواتها على الطريق الممتد للابداع الفني امثال ليلى محمد صالح وعالية شعيب وغيرهما ولم تزل ليلى تعد بالكثير من الابداع في اصرار لتمسك عصا الريادة في هذا الوقت.
وصوفي عبدالله وجاذبية صدقي من اجيال سابقة في مصر ومازالتا على درب الابداع وتتميز مجموعاتهما بتصوير التحرر العاطفي للمرأة العربية بعد الكبت الطويل والحرمان اللذين أذلا روحيهما.. فاتسم القص عندهما بالصراخ المحتج العنيف في وجه ماعاناه الجنس الانثوي طوال عصور الانحطاط.. وتنضم اليهما اللبنانية «هند سلامة» وتجيء السورية «غادة السمان» لتعالج قضاياها على مساحة واسعة.. ونحن كثيراً ما نرى الكثيرات منهن في ايامنا هذه او من قبل باعوام قليلة مازلن يحاولن عن طريق النشر في المجلات او باصدار المجموعات القصصية عن دور النشر المختلفة الا انهن لم يخرجن حتى الان عن نطاق التجريب وبالتالي لم يكتسبن سمات متميزة مثل سابقاتهن اللائي صعدن على درج هذا الفن.
ونعود لـ «ليلى العثمان» لانها مثل المرأة الكويتية في هذا المجال ونذكر ما كتبه عنها الاديب الكبير «حنا مينه» يقول الاستاذ «حنا مينه» في تقديمه لمجموعتها «في الليل تأتي العيون»: [أوكد، بغير تحفظ، ان ليلى العثمان من الذين يقدون الضلع ليصنعوا قصة دون ان تدع لنا، نحن القراء، ان نرى آثار الدماء على صدرها او اطراف اناملها، فهي تخفي، بمهارة المبدع، كل الغضون التي تخلفها المعاناة على جبينها وتطل علينا بوجه الق، حتى لنحسب ان الاشياء قد انقادت لها بيسر، وانها تكتب بالبساطة التي تتكلم بها.
ولو كان لي ان ابخل على الفن بتضحية، او اؤثر السلامة على المفاداة، لحذرتها ان تتبع من سبقوها على هذه الطريق.
لكن الكاتبة التي تريد ان تكون شاهدة على عصرها، قد صممت على اجتياز المعبر البارد، هي تملك كلمتها ولديها ما تقول، وتعرف كيف تقوله، ويبقى الثمن، تجربة حياة ومحنة صياغة، ويبقى هذا الحب الانساني الذي يصدح في السطور، وهذا الشعور الوطني الكريم والفهم العميق للبيئة، مؤسسا على وعي ان المجتمع في ظل نظام شديد التفاوت، ينتج تفاوتا في الاعراف، والسلوك، والنظرة، ويتحجر على سلفية منطق، يعطي الرجل ان يكون نخاسا، ويجعل المرأة سلعة في عالم ذكوري يصادر في الانثى حتى المشاعر الذاتية فيسلبها الحق في ان يخفق قلبها ككائن بشري.
الفرق ما بين ليلى العثمان، واكثر الكاتبات اللوائي عرفهن الوطن العربي، منذ النصف الثاني من هذا القرن، انها لا تكتب لتتكسب شهرة، ولا تقص لتنفس عن كبت تعانيه، ولا تطرح اشيائها النسائية، معزولة عن دوافعها الاجتماعية، مجردة من الخاص الذي يندغم بالعام، فارغة من الدلالات التي تتهم وتدين وتياسر الى التغيير، مقصورة على دغدغات للحواس الجنسية التي سئمناها في نتاج بعض كاتباتنا وتقززنا لكثرة ما فيها من اثارة رخيصة للغرائز البهيمية.
ليلى لا تصافح الواقع، لا تراه قدراً، لا تعتبره صنما، لا تنوء تحت وطأته لا تهرب منه الى الامام بل تواجهه، ترفضه، تقاومه، تستأنف ضده، وتومئ الى واقع آخر، احلى وابهى ومن هنا تملك قصتها الاضافة المستقبلية، تملك بعدها الثالث وتتجنب مطلب التوفيقية والنقدية النائحة].
هكذا رأى الاستاذ حنا مينه القاصة الكويتية ليلى العثمان وهي على الدرب ولم يكتب عنها الا بعد ان رآها قد استوعبت عناصرها من مناح فنية قصصية ناضجة وارتفعت فوق السردية الاخبارية ايمانا منها بان قارئها واع مثقف لا يريد منها البيضة منزوعة القشور بعد سلقها بل يريدها ان تتركها هو ليراها تتمرس لتؤكد موهبتها ويستشفها من بين السطور دامجة تجربتين احداهما حياتية واخرى فكرية رامية الى احداث التفاعل بينهما.. التفاعل الساخن على نيران ما يخبئة صدرها من احساسات وتفاعلات وجدانية.
القصة بين النشوء والارتقاء
ان عالم القصة عالم واسع رحب عميق يتناول كل ابعاد الحياة واشكالها.. ويجب على اي دارس ان ينظر الى القصة من خلال منظورين في منتهى الاهمية اولهما منظور ان القصة خليط من العمل الواعي المدروس مشوب بحرارة الاحاسيس العاطفية ومضاء بالمواهب الفكرية وقادر على احداث الفعل لدى الملتقي بمقدرته على الابداع والتخيل والتصوير والعودة من الماضي بما هو منقول من روائعه بعد تطويعه ليناسب التذوق الادبي المعاصر. فيتأكد للدارس ان القصة حريّ بها ان تكون علما وموهبة وادباً منهجيا ودراسة وتجربة وهذا لا يخرج عن كونه عناصر يتزود بها القاصّ الموهوب ويضفي عليها من موهبته ويخزن فيها من الطاقة الوضعية لاحاسيسه ثم يطلقها في أفق الملتقي بحركية مطلقة وحرارية مؤثرة لتكمن في نفسه بصورة وضعية ولا تزول بمجرد زوال وقت قراءتها – بهذا تكون القصة عملا ادبيا وفنيا متكاملا..
ثانيهما منظور ان القصة – بالقياس الى غيرهما من الاجناس الادبية والفنون الاخرى لها السياحة المطلقة في دنيا الناس والتأثير عليهم على مدى العصور المختلفة بما لها من مرونة وشمولية وهي بهذا تحررت من القيود الوضعية والقوانين التي هي اشبه بقوانين الرياضيات فلم تسجن في دهاليز الاصول ولم يوصد عليها في توابيت القواعد ولم تغلف باغلفة الانماط ذلك انها تنشأ ثم تتطور وترتقي، وعبادها المستول عليهم سحرها ينتظرون ماذا ستكون صورتها وهي على اهبة تجاوز حدود الارتقاء.. بعض العلماء المتأدبين يقول: لو كان العالم النباتي الشهير «دارون» صاغ نظريته عن الخلق والتطور صياغة فنية باسلوب القص السائد على مدى اعوام القرن العشرين لما حكم على فروضها بالاغلاق عليها في توابيت النسيان.
فلا مندوحة اذن ان كانت مذاهب الادب القصصي ضرورة استلزمتها حتمية التطور بين البيئات والشعوب.. ولا غرابة ايضا ان كانت القصة دافعة بدورها الى ظهور هذه المذاهب على اختلاف اشكالها متأثرة بها في ذات الوقت ليتوازى الخطان في مساريهما الا وهما خط الاديب القاص المبدع وخط الناقد الواعي الدارس لعلم القصة مع الاحاطة بأنه لولا القاص لما كان الناقد ولولا الناقد لما كان القاص المطور، ولما ارتقت القصة عن نشوئها. كما يلاحظ ان المبدع وناقده لا يلتقيان ابدا لأن في التقائهما خطورة على العمل الادبي ذاته.
ويتفق في هذا الكثير من النقاد وبالاخص الاستاذ حسني نصار٭ بافتراضيه اللذين يقول فيهما: هناك – في هذا الصدد – افتراضان يكاد كل منهما ان يكون وجها مكملا للآخر رغم ما يبدو من تعذر الجمع بينهما في تحديد مفهوم العمل القصصي…
الاول: يفترض ان ادب القصة يدين بوجوده وتطوره للنقد الادبي.. ولو اخذنا بهذا الافتراض لأصبح لزاما على كل موهبة ادبية ان تستجيب الى توجيهاته وتصنيفاته، وتطور مذاهبه، وتساير ركبه وتلتزم بقواعده. وعندئذ تكون كلمات القصة واسلوبها والشكل الذي يصب فيه مضمونها وارتباط ذلك كله بالبيئة، وبالعصر والالتزام بتطورهما.. كلها عناصر يتكون منها الهيكل الفني للقصة، بغض النظر عن ملاءمة ذلك للمضمون الحقيقي للأحداث، واثرها في نفس الكاتب، وبالتالي فإن المبالغة في الربط بين القصة والنقد في هذا الاطار يتحول بها الى صنعة والتزام واداة ذات اهداف محددة، ويتضاءل الى حد ما عنصر الموهبة والجمال والمتعة، والتأثر الذاتي، ويصبح فن القصة، فنًّا وظيفيا موجها، أو وظيفة ادبية كأي وظيفة من وظائف المجتمع الاخرى.
الثاني: يفترض ان النقد الادبي، يدين بوجوده للقصة، ولو اخذنا بهذا الافتراض لانطلقت الموهبة الادبية بفنونها الابداعية متحررة من كل قيد أو توجيه غير متقيدة بأية مقاييس شكلية أو موضوعية، ولو اختلفت اتجاهاتها بين المذاهب الادبية المختلفة، لانها انما تصدر عن انفعال ذاتي بأحداث أو تطورات معينة، يستوي ان تكون خارج الذات أو داخلها حتى لو انفصلت عن الواقع الاجتماعي.. وحتى لو انعزلت عن التطور الجماعي للجماعة كلها، أو شذّت باتجاهها عن اقتناع ذاتي للكاتب يعبر عنه بالصدق الفني.. وانما يقاس الصدق الفني في هذه الحالة بمقاييس الكاتب الذاتية أو الفردية وعندئذ تكون الاحداث، هي مصدر التأثير الحقيقي لانفعال الكاتب، ويكون المضمون الفعلي للقصة هو ما يريد الكاتب، لا ما يريد الناقد.. ويقتصر دور النقد على متابعة التطور التلقائي والابداعي لفنون القصة، ويصنفها وينسّق بينها ويسندها الى هذا المذهب أو ذاك ويحدد مدى اثرها في التطور الحضاري والفكري، ثم يوضح قيمتها ويحدد مقاييسها وقواعدها على اساس ما يستقرئه من هذه الفنون واتجاهاتها المختلفة.
ولا شك ان المبالغة في الربط بين القصة والنقد في هذا الاطار يؤدي الى الشطط.. وطغيان الموهبة على الدراسة والعلم.. والايغال في الذاتية والفردية، والمغالاة في تطبيق مبدأ «الفن للفن».. وما قد ينطوي عليه هذا المبدأ من جنوح عن واقع التطور الحضاري في المجتمع أو البيئة.
الإبداع الفني ونقده منهجياً
هنا تتجلى حتمية الموازنة بين الابداع الفني للقص ونقده منهجيا وهذا لا يتأتى الا عندما نعي الكيفية في تعاملنا فكريا ووجدانيا مع الفن القصصي ولا نخوض مثلما خاض الذين تعاملوا مع الادب بمناهج طورتها العلوم أو الذين تمكنوا من ان يميزوا انواعا عديدة من التحولات في دراسة الادب في محاولتهم القائمة على منافسة المثاليات العلمية العامة من حيث الموضوعية وانعدام الشخصية واليقينة وهي محاولة تقوم في عموميتها على تأييد تجميع الحقائق المحايدة.. أو الذين استهوتهم محاكاة مناهج العلوم الطبيعية من خلال دراسة المسببات السالفة والمنابع الاصلية.. كل هؤلاء وجدوا انفسهم يزجون بالمناهج الكمية التي يصلح استخدامها في بعض العلوم مثل الاحصاء والجداول والرسوم البيانية واخيرا هناك محاولة قام بها من يريدون استخدام المفاهيم البيولوجية في تتبع نمو الادب والغريب ان كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تبد أي ضوء على العلاقة الوطيدة بين المبدع وناقده بل ساهمت في اتساع الفرق بين البحث والتذوق واصبح الناقد محتارا بين ان يبحث في النص الادبي أو يتذوق جماليات النص الادبي.. وهنا يجدر بي ان اقول ان زميل الصنعة هو القادر على كشف عيوب ومزايا صنعة زميله.. اعني ان الشاعر لا ينقده نقدا سليما الا شاعر مثله كذلك القاص لا يستطيع ان يكشف جماليات فنه غير قصاص مثله والدليل واضح للعيان وهو الاجابة عن هذا السؤال: ممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن القصائد؟، وممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن القصص؟ وممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن مقطوعة موسيقية؟.. الخ.. اما الدارس المعني بالبحوث الادبية.. ان كان دارسا للشعر فلا يهمه غير علم الشعر وان كان معنيا بالقصة فسوف يركز اهتماماته على علم القصة.. اذن هناك آداب وعلوم تختص بهذه الاداب والكل يهدف إلى ابراز الجماليات ليستمتع المتلقي واكبر مثال على ذلك هو فن «الاوبرا» وهو نوع من «ميلودراما» المسرح وفيه قبل العرض المسرحي يوزع على المتلقي كتيب به النص المقروء.. يقرؤه ثم يجلس منتظرا العرض ليستمتع بما فيه من ابداع موسيقي وأداء تعبيري بالصوت وبالمثل فن «الباليه» فهو يحكي قصة بالاداء الراقص على انغام الموسيقى المعبرة فلولا العلوم لما علمنا ان «الاوبرا» لون من الوان «الميلودراما» وهي المشجات وهي تمثيلية عاطفية مثيرة تعتمد على الحادثة والعقدة اكثر مما تعتمد على تصوير الشخصيات.
اذن فالعمل الادبي او اي فن من الفنون يحكمه اربعة كل منهم لا يقل اهمية عن الآخر: اولهم المبدع يحكم العمل قبل اخراجه والثاني والثالث والرابع وهم الناقد ان يستوعب ذهن الدارس وتذوق القارئ ولا يدخل الى العمل الادبي الا بهذين ولا يفعل مثلما فعل الدكتور «شوقي ضيف» في جندول «علي محمود طه» اذ اقتحم القصيدة بذهنية الدارس غير معول على ذوق القارئ وبالتالي لم يتعد نقده الصفحات التي كتب فيها…
الطاقة الانفعالية والشعور العاطفي
ان الموازنة بين الابداع القصصي والنقد المنهجي لازمة ضرورية لاثراء العمل وارتقائه بعد نشوئه.. موازنة بين الاحداث كمحتوى وبين الصياغة التي تحدد معالم الهيكل الفني..
..موازنة بين الاحداث وما بها من واقع متجسد وبين اسلوبه المبدع في نمطه الاسلوبي وطريقة صياغته وذكائه البارع الذي يلجأ اليه لجذب قارئه ليعيش احداثه.
.. موازنة بين الجمالية الفنية تحدوها الموهبة في تحركها وبين المنهج العلمي او القياسي الذي يقف وراءه الدارس الواعي بهدف التفتيش عن المغزى الذي ترمي اليه القصة واسلوب سير الاحداث فيها من ناحية طرح القضايا الاجتماعية والنفسية والخلقية والعلاقات التي تربط بين شخصيتها المحورية وشخصياتها الثانوية الى غير ذلك من نوعية اساليب التحرك الدرامي.
.. وهناك موازنة بين الطاقة الانفعالية مصدرها الأنا الفاعلة ومعاناة الشعور العاطفي التي يدفعها القاص كشحنة كهربائية في قصته وبين مدى استعداد التلقي لاستقبال هذه الشحنة ويعضد هذه الاقوال الاستاذ الناقد «حسني نصار» بقوله: [ان كتابة القصة ليست خلقا ابداعيا مطلقا.. وليست اسلوبا منهجيا مطلقا.. وانما هي مزج كامل بينهما.. يتطلب من الناقد في الوقت نفسه ان يتقمص شخصية كاتب القصة التي ينقدها..
والواقع ان شخصية الفنان او الاديب لا تحمل موهبة الخلق والابداع فقط. بل وتحمل أيضا موهبة التذوق الفني والادبي ففي كل كاتب تزدوج (او يجب ان يزدوج) الموهبتان. وتعملان معا في وقت واحد على صياغة العمل الادبي ووضعه في قالبه المناسب.. وكلما توازنت الموهبتان في شخص الكاتب، الى جانب الدراسة والتجربة كان اقدر على السير بفنه وادبه الى غايته من التطور.
وحينما نتحدث عن ادب القصة. نعني به دعامتي هذا الادب من الخلق والنقد اي القصة وتزوقها او بعبارة اخرى.. العمل الادبي ودراسته ونقده].
الكاتب والناقد مساري متوازي
وبهذا نستطيع ان نتجه الى ما يلي:
- مسار كاتب القصة ومسار ناقده يجب ان يتوازيا ولا يطغى احدهما على الآخر.
- يجب على كل منهما ان يتبصر لما يفتح له الدارس من مجالات في الوقت نفسه الالمام بذوق القارئ.. ذلك ان كاتب القصة، لا يمكن ان تكتمل له المقدرة على ممارسة أدبه ما لم يكن على غير قليل من الفهم والعلم بالدراسات الادبية للعمل القصصي ومذاهبه.. كذلك الناقد فان مقدرته على التذوق الفني او النقد الادبي، لا تكفي فيها دراساته مهما اتسع شمولها ما لم تقترن بموهبة قصصية، تتميز بغير قليل من الحساسية وصدق المعاناة.
- النقد الأدبي يعتمد بدوره على عنصرين مهمين هما.. التذوق والدراسة فالناقد الادبي هو «الذواقة» او الملم بذوق قراء العصر والدارس للفن او للادب الذي نقده فيجب عليه ان يكون حساسا في تذوقه الادبي لان التذوق بطبعه حاسة فطرية وغريزية تستمد وجودها من حواسنا وغرائزنا.. ويجب عليه ايضا ان يكتسب صفة التعمق في الدراسة.
- قد يخطئ من يظن ان النقد هو الحكم على الاشياء او الاعمال فقط لانه بجانب هذا هو ادراك مشوب بانفعال الحواس وتأثرها بالعمل الادبي او الفني.
- قد يختلف التذوق وبالتالي على العمل او نقده وهذا أمر طبيعي لاننا متفاوتون في القدرة على الادراك.. فالعمل الادبي هناك من يدركه ادراكا واعيا وهناك من يقبل عليه بادراك غير واع وكلا الاثنين يختلف درجة ومعيارا باختلاف البيئة والثقافة وغيرهما من العناصر التربوية والاجتماعية والنفسية.
- قد يبتهج اثنان بالسرد الفني والحوار الرائع في قصة من القصص لكن درجة ابتهاجهما ومعياره يختلفان بحسب ادراكهما لجماليات القصة.
لا يشترط في الناقد ان يكون قصاصا او قادرا على كتابة قصة في حين انه لو هو كذلك فسوف يبذ في نقده من هو غير ذلك.
- يجب على كاتب القصة ان يكون قادرا على تذوق عمله او اعمال الاخرين فضلا عن تفهم ما يجريه النقاد من دراسات ومعايير نقدية ومقارنات في الادب الذي يمارسه في حاضره وماضيه.
ليس بالمبالغ من قال ان كاتب القصة هو اول ناقد لها قبل اخراجها للنقد العام لانه بالفعل ينقد احداثها بصورة او بأخرى ولكنه يستمد حكمه على الاحداث من خلال تأثره وانفعاله ومعاناته.
وأخيرا نستطيع ان نقول ان الجمع بين الابداع ونقد الابداع ضروري جدا لكاتب القصة.
هوامش
٭ انظر «الحركة الأدبية والفكرية في الكويت د. محمد حسن عبدالله إصدار رابطة الأدباء في الكويت عام 1973 ص 413 وما بعدها.
٭ اقرأ مقاله عن «جذور القصة الحديثة في الأدب العربي القديم، على صفحات مجلة «الكاتب» المصرية العدد 188 نوفمبر 1976 ص24 حتى 27
ويشهد الدكتور «محمد حسن عبدالله»٭ في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية في الكويت»، على باكورة الفن القصصي في الأربعينيات قائلا: «أول قصة نشرتها الصحافة الكويتية، وهي أول قصة كويتية ايضا، حملها العدد الرابع من مجلة البعثة (مارس 1947) تحت عنوان بين «الماء والسماء» وهي بقلم: «ولد عريب».. وهو الاسم الفني لـ «خالد خلف» مؤسس صحيفة الشعب فيما بعد، وكان حينها يدرس في القاهرة.. وقد ظلت هذه القصة بمثابة محاولة فريدة لمدة شهرين، إذ نشرت البعثة في عدد مايو 1947 مشهداً حوارياً بعنوان «من الجاني» لـ «حمد الرجيب»، وهو وان كان حوارا خالصا فان القصة القصيرة اولى به من المسرح - برغم تعلق الرجيب بالمسرح - فليس من الممكن اعتبار عمل مكتوب في صفحة واحدة صالحاً للأداء على المسرح. وفي الشهر التالي مباشرة نشرت قصة ثالثة، وهي الأولى التي توضع تحت عنوان «قصة العدد» ونعني بها قصة «ذئب الصحراء» التي كتبها ع.ح.. وهذه البداية قد تعثرت بدورها فظلت المجلة تصدر دون قصص حتى نشرت في ديسمبر 1947 اول قصة مترجمة، وهي قصة «بسرعة البرق» التي ترجمها يعقوب الحمد عن «كولن هورد» ومع استهلال عام 1948 ظهرت مجلة «كاظمة» وظلت تصدر تسعة أشهر متصلة لتتوقف، ثم لتظهر بعدها مجلة «الكويت» التي أصدرها «يعقوب عبدالعزيز الرشيد» في الفترة نفسها، وكانت تحتفي بالقصة أو بلون معين منها، وهو اللون الفكاهي الساخر في تصويره ونقده يكتبه «العبد لله» الذي قد يكون الحاتم نفسه او «فرحان راشد الفرحان» الذي شارك حيناً في تحرير هذه المجلة. وبعد «الفكاهة» ظهرت مجلة «الرائد» سنة 1952، وكانت مجلة «البعثة» تقوم بدور النغم المستمر مع هذه المحاولات الموقوتة، وقد أتاحت «كاظمة» و«الكويت» المجددة و«الرائد» بصفة خاصة الفرصة لظهور القصاص الكويتي المستمر، الذي لا يكتب المحاولة الوحيدة، او المحاولتين ليختفي، وإنما يظهر في كتاباته معنى الإصرار، كما تكتشف محاولاته عن نضج - على مستويات - ومعرفة بأصول الفن القصصي».
ويضيف الباحث في صفحة 416 قائلا: «في أوائل الخمسينيات ظهرت أسماء فرحان راشد الفرحان وعبدالعزيز محمود وعلي زكريا الأنصاري وفهد الدويري وجاسم القطامي ويعقوب عبدالعزيز الرشيد وخالد الغربللي. ولم تتخلف المرأة طويلاً في هذا المجال فظهرت قصص «هيفاء هاشم» وهي أول فتاة كويتية تكتب القصة، ونشرت لها «البعثة» و«الرائد»، كما كتبت «ضياء هاشم البدر»، بعض القصص في «البعثة»، وشارك الشاعر أحمد العدواني ببعض الصور القصصية الساخرة التي كتبها بلسان «أبو شلاخ» في البعثة في أوائل عام 1948».
بالتزامن مع الصحافة
من هذا يتضح ان فجر القصة القصيرة في الكويت جاء مزامنا لفجر الصحافة.. وفيما يلي عرض لدراسات ثلاث قام بها ثلاثة من الباحثين ليفتحوا المجال على مصراعيه للدخول لنقد وتأريخ الفن القصصي في الكويت:
أولاً: الدكتور «سليمان الشطي»:
اصدرت له مكتبة الأمل مجموعته القصصية «الصوت الخافت» في طبعتها الأولى عام 1970 التي استهلها بدراسة ادبية موجزة في الصفحات من 9 حتى 25 عن بدايات القصة القصيرة في الكويت.
قال عنها انها مستحدثة بالنسبة للادب العربي عامة ولم يؤثرها المثقفون بالاهتمام الا في الاربعينيات من هذا القرن فدخلت الى الكويت مواكبة لانتشار الصحافة على يد فتية كويتيين آمنوا بالثقافة والعلم والادب وشجعوا الاتصالات الثقافية بمن يجاورهم من البلدان العربية وبالأخص القطر المصري الذي ازدهرت فيه آنذاك مجلات الرسالة والثقافة والهلال وكان لها الفضل كل الفضل في تنمية الوعي الثقافي لدى ابناء الوطن.
اقبل المثقفون على صفحات هذه المجلات بنهم الصادي الطالب للري الثقافي بولع وشغف فقرأوا القصص وما نشر حولها من دراسات وتابعوا التهميش المنوه عن المصادر ونقلوا اسماءها وتواريخ صدورها ونقبوا عنها في المكتبات وما أن عثروا عليها حتى سهروا إليها واعطوها الكثير من وقتهم ففاضت عليهم بما تحتويه بين دفتيها مما ساعدهم على صقل مواهبهم، وجعلتهم يحرصون على الدقة في ملاحظاتهم - ثم ظهرت المجلات الكويتية آخذة نفس الخط الذي سارت عليه اخواتها المصريات من حيث الاهتمام بالتراث وتشجيع المواهب الشابة.. فوجد الشعر المناخ مناسباً على صفحات هذه المجلات فانطلق الشعراء يتغنون، والدارسون يحللون، وكتاب القصة يحاولون ايجاد زوايا مناسبة لهم.
وكتابنا بعد ان اثر فيهم الامتزاج الثقافي الا أن اقلامهم بعد ان وعت الدرب تميزت بأصالتها الخاصة. وابداعها الملحوظ ويضيف الدكتور سليمان الشطي: (وبجانب هذا التفاعل الذي تم بين هؤلاء - يقصد روادنا الأوائل - والكتاب العرب نجد ان هناك عاملاً ثانياً ساعد على نمو الفن القصصي بالذات، فلقد اطلع هؤلاء على القصص بشتى انواعها واتجاهاتها منها تلك التي خطتها الاقلام العربية مثل المنفلوطي وطه حسين والمازني ونجيب محفوظ وتيمور، وكان دخول اعلام الادب العربي في هذا المجال عاملاً مهما، لأن هذا الاهتمام من جانب هؤلاء وجه الانظار الى هذا الفن الاصيل.. لقد قرأ شباب الكويت هذا النتاج وتأثروا به وتفاعلوا معه.. ومن العوامل التي سلكتها بعض هؤلاء الى كتابة القصص اطلاعهم على الادب الغربي سواء أكان مترجماً ام بلغته، بل ان بعضهم عمل على ترجمة هذه القصص.
.. ومما لا ينكر ايضا ونحن في مجال تعداد العوامل التي ساعدت على نمو هذا الفن هو وجود الصحف، فلقد كان للصحف فضل على القصة كبير خاصة اذا علمنا ان القصة القصيرة بالذات بدأت بدايتها الطبيعية مع وجود هذه الوسيلة الاعلامية التي كانت تضمن اعدادها هذا الفن المحبب بحيث يجد القارئ في قراءتها واتمامها في جلسة واحدة متعة لا بأس بها..
هذا هو الخط العام الذي يقف وراء وجود القصة في الكويت.
القراءة الناقدة
ثانياً: وليد ابو بكر
نشرت مجلة أقلام العراقية في عددها الثاني عشر للسنة العشرين كانون الأول - 1985 في الصفحات 103 حتى 108 دراسة للاستاذ وليد ابو بكر عنوانها «القصة القصيرة في الكويت – قراءة المضامين».. تميزت بعجالة نقدية تلتها نبذة تاريخية ثم استعراض الاتجاه الموضوعي من البدء وحتى عصرنا الحاضر.. ففي العجالة النقدية ذكر ان التاريخ الادبي تشغله مسألة الاحاطة من البداية حتى اللحظة التي يحددها الباحث ومن ثم يختلف التأريخ للأدب عن القراءة النقدية له لاهتمامه ببعض التفاصيل التي تعتبر جزداً من مهمته، مثل تفاصيل الريادة، وتتبع البدايات ومتابعة المساهمات مهما كانت ضئيلة والتحقق من دقة الأزمنة الى آخره من تلك الأمور في حين ان القراءة النقدية في غنى عن كل هذا فهي لا تأخذ منها الا بقدر ما تضيف اليها كما في حال القراءة الانتقائية التي لا يهمها غير تفاصيل المادة التي تسلط عليها اشعتها فيما تستعرضه او تتابعه من النتاجات الادبية آخذة في اعتبارها انها قد تُسقط من ذلك ما جاء به التاريخ مدخلاً ولايحمل سمات النتاج الادبي او لا يشير الى المادة المسلطة عليها اضواء النقد مستندة الى علماء النقد الذين لا يعولون على هذا الاسقاط اذا كان ضرورياً ويشكل وجوده عقبة في طريق الباحث.
ثم يدخل الباحث في الموضوع لاستعراض مواصفات القراءة النقدية موضحاً انها تمتلك مساحة واسعة تختار منها بدءاً بالدراسة الفنية للمادة المقروءة وانتهاء بالمضامين المتنوعة، التي تطرحها هذه المادة، مروراً بالاشكال، والاهتمامات والرموز، وانعكاسات هذه الرموز على الواقع.. وعن النوعية الادبية التي تملك هذه المساحة الرحيبة قال ان القصة القصيرة في الكويت هي التي تملك هذا الوسع المساحي وللناقد ان يختار ما يشاء لانها حتى الآن وان كانت قد حظيت بجابهذة التأريخ في دراساتهم التاريخية الموسعة الا انها لم تحظ بالوعي المتخصص الذي يقرؤها نقدياً مستوعباً التفاصيل التي تطرقت اليها هذه القصص ومتلمساً التأثيرات الواقعية والاجتماعية فيها.
ثم اشار الاستاذ «وليد» ابو بكر الى عدة مناظير يمكن ان ننظر من خلالها الى المادة القصصية المقروءة مثل النظر اليها من منظور علاقتها بالبحر لغة وتأثيراً.. منظور المعتقدات الشعبية كنتاج للموروث الشعبي فيها.. منظور الزمن والقضايا الاجتماعية.. وهناك العديد من المناظير التي جاءت بها الدراسات الادبية الحديثة والتي لم يتطرق اليها اي ناقد حتى الآن.
وفي استعراضه لتاريخ القصة ذكر ان اول قصة نشرت كانت بقلم كويتي في اواخر العشرينيات وان الاربعينيات من هذا القرن هي التي عاشت عدداً من التجارب القصصية المتفاوتة شكلاً ومضمونا، وهي التي ابرزت بعض الاسماء التي ارتبطت بهذا الفن سواء احترفته ام انشغلت عنه باهتمامات فنية أخرى ثم قال ان الدراسات التي عُينت بها النتاج لم تعطه شيئاً من المميزات التي تتجاوز الريادة، وهي قضية لا تعني كثيراً في القراءات النقدية، خاصة وان هذا النتاج لم يكن بالقوة المؤثرة ولا بالحجم المؤثر، الا من خلال بعض الاستثناءات، التي استمر عدد قليل منها وتطور، بينما توقف الآخرون عن المشاركة، بعد تجارب بسيطة، لم تصل في مستواها الى مستوى نظيراتها في الوطن العربي، في ذات الزمن، لاسباب ليس من الصعب الوصول إليها، تتعلق بثقافة المجتمع المتواضعة في ذلك الوقت، وببعده عن التجارب الفنية الأخرى، التي كانت مستجدة- أيضا- في المجتمعات العربية.
ثم جاء بتعليل مهم يجيب به على السؤال الذي قد يجيء على لسان القارئ الذي تعرض للفن القصصي الكويتي وهو في طور الابتداء ألا وهو: [لماذا هذه القصص لم تسجل ما هو أوسع من الصورة الواقعية للمجتمع الكويتي].. قال فيه: [لأن المجتمع الذي صورته محاولات القصة القصيرة في بدايتها كان مجتمعا يميل إلى التجانس- خاصة من خلال النظرة العامة إليه وهي بذلك قد أفادت في التعرف على صورة هذا المجتع في الوقت الذي أخلّت فيه بإعطاء صورة فنية للقصة وهذا باستثناء بعض التجاريب القليلة في هذا الفن].
بدايات التجارب القصصية
ويمضي «وليد أبو بكر» يطلعنا على البدايات ذاكراً أن بعض التجارب القصصية القديمة قد استمرت وما زالت في الفترة التي تفجرت فيها مواهب حديثة في القصة كانت شرارتها الأولى على يد عدد من الشباب الذي اطلعوا على هذا الفن، من خلال ما تدفق على المجتمع- بعد اتصاله بما حوله- من تجارب حملتها الكتب والمجلات المتخصصة واهتمت بها الصحافة الحديثة التي بدأت نهضتها تتضح مع أوائل الستينات لتجتذب المحاولات الكثيرة، التي قدمت أسماء كثيرة لم تستطع النسبة العظمى منها أن تستمر لأسباب عديدة بعضها يعود إلى اكتشاف أصحابها- مع مزيد من المعرفة- إنهم غير موهوبين في هذا الفن، أو أن قدراتهم الفنية تستطيع أن تبرز في مجالات أخرى ولم يبق لفن القصة إلا الذين واصلوا، والذين ظهرت موهبتهم بعد ذلك فصارت القصة القصيرة وسيلتهم الأساسية في التعبير، خارج نطاق بعض الدراسات الأكاديمية التي شغلت بعضهم وكانت لها أهدافها الأخرى.
هؤلاء الكتاب، هم الذين يشكلون جيل القصة الفاعل الآن، لأنهم يستندون في ممارسة هذا الفن إلى فهم مجتمعهم.. ثم يوجه «وليد أبو بكر» اضواءه ليعرض لنا الاتجاهات الموضوعية للقصة القصيرة، موضحاً أن ما قدمته الكتابات القصصية الحديثة للمجتمع تصويراً ونقداً ومحاولات تنبؤ، هو الإطار الذي تدور حوله هذه القراءة في المضامين ونظراً لاتساع هذا الإطاركما يقول فإنه سينتقي بعض النصوص من مجموعات القصصيين ويقرؤه قراءة نقدية.
بدوي وحضري وهجين
ثالثاً: «إسماعيل فهد إسماعيل»:
أصدرت له «دار العودة» ببيروت دراسة نقدية عنوانها [القصة العربية في الكويت] طبعة أولى عام 1980 استهلها بمقدمة أعطاها عنوان [القصة ما قبل التدوين] وصنف القصص إلى ثلاثة أصناف هي: قصص ذات طابع بدوي وأخرى ذات طابع حضري، والثالثة أطلق عليها اسم القصص الهجين ثم ذكر الدور الذي لعبه كل من التعليم والظروف العقلية في التأثير على هذه الأصناف الثلاثة التي لم تتحرر من سمات القص الشعبي والتي ترتكز في جميع مضامينها على القيم والعرف والعادات والتقاليد التي استند إليها المجتمع الكويتي في نشأتها وتطوره وما هي إلا خليط من القيم البدوية والحضرية.. يقول الأستاذ إسماعيل: [الأجداد الأوائل الذين قدموا- مهاجرين- من نجد قبل ما يقارب القرون الثلاثة حملوا معهم كل الذي تعارفوا عليه من قيم بدوية.. عشائرية.. وما أن استقروا- بعد تطواف طويل- في أرض الكويت، واتخذوا من البحر مصدر عيش لهم حتى تولدت لديهم قيم جديدة نتيجة للعلاقات الاقتصادية التي جاءت مع الطموح إلى الاستقرار].
وذكر المقولة التي استند إليها في تصنيفه قائلاً: [ولأن الجديد يخرج من رحم القديم، ثم يتعايش معه جنباً ريثما يثبت القديم لا جدواه نستطيع أن نصنف القصص الشعبي الكويتي إلى أصناف ثلاثة] وهي الأصناف التي ذكرناها.
فمضمون القص البدوي يتضح في البطولات الفردية لشيوخ العشائر أو مغامرات بعض الأفراد المنتقين المقربين من أولئك الشيوخ، أما الشكل فقد كان الشكل السردي المزود بالجمل الحوارية وبالنسبة للمصدر هو ما نقل للآباء عن الأجداد من الموروث الشعبي ومضمون القص الحضري فقد كان معظمه حول البحر وحياة البحر.. يقول الأستاذ اسماعيل:.. الشعب الذي استقر، وامتهن تجارة نقل البضائع ما بين موانئ الخليج، بدءً من ميناء البصرة، وتطوافا في البحر العربي فالمحيط الهندي، والبحر الأحمر إلى جانب أعمال الغوص على اللؤلؤ، وصيد السمك، وجد نفسه وهو يواجه أمرين:
في الخارج: أهوال البحر، وقصصنا الشعبي غني بالحكايات والمآسي والبطولات، حيث كان يتحتم على سفينة شراعية يتولى أمرها حفنة من الرجال أن تواجه العواصف والأمواج وتقلب الأنواء يضاف إلى هذا مواجهتها للقرصنة، وما يترتب عن الأوضاع الدولية، سواء في الماء أو عند اليابسة في الموانيء التي ترسو فيها.
(… كانوا كثيرا ما يعودون دون كسب يعوض ما لاقوه من متاعب).
هكذا قالت الدكتورة «نجاة عبدالقادر الجاسم» في كتابها «التطور السياسي والاقتصادي للكويت» في صفحة 256 وهو أحد المراجع التي استعان بها ناقدنا الأستاذ اسماعيل في دراسته النقدية للقصة القصيرة في الكويت.
وفي هذه القصص نلمس إلى حد كبير مدى تأثر الإنسان الكويتي بالحياة البحرية المليئة بالمخاطرات والمغامرات.
في الداخل: نلاحظ بدْء نشوء علاقات رأسمالية بدائية نتيجة للاستقرار وممارسة أعمال التجارة والغوص.
تقول الدكتورة «نجاة»: [… وقد انقسم العاملون في الغوص إلى قسمين: الأول: وهم «الغواويص» أي القائمون بالبحث عن اللؤلؤ واستخراجه من أعماق البحار، ويشبهون في مجتمعاتنا الحالية الطبقة العاملة المستغلة، لأنهم لا يحصلون إلا على النزر اليسير من الأرباح. الثاني: وهم المعروفون بـ«الطواويش»].. تجار اللؤلؤ، إضافة إلى «النواخذة» (قادة السفن وملاكوها). وبطبيعة الحال فإن ما كان يسري على الغواصين كان يسري على العمال الآخرين.
والقصص التي تولدت عبر هذه المعاناة حملت الكثير من هموم الإنسان الكويتي، وإحساسه بوطأة ما يتعرض له.
أما القصص الهجين فهو النوع الذي جاء عن احتكاك الإنسان الكويتي بالشعوب والحضارات الأخرى، العربية منها، وكذا الأفريقية والهندية والفارسية، حيث جرى- بمرور الزمن «تكويت» بعض القصص والأساطير الشعبية الأجنبية إلى جانب امتزاج التجربة الكويتية بالتجارب الأخرى.
هكذا قال الاستاذ اسماعيل فهد اسماعيل مستهلا دراسته النقدية للقصة القصيرة في الكويت تم تكلم بعد ذلك في القصة في مرحلة الريادة كلاما يشابه ما قاله كل من الدكتور محمد حسن عبدالله في كتابه الحركة الادبية والفكرية في الكويت والاستاذ وليد ابو بكر في دراسته التي نشرتها مجلة الاقلام العراقية والاستاذ الدكتور سليمان الشطي في مقدمته لمجموعته القصصية الصوت الخافت.
المرأة العربية في حقل القصص الفني
ان المرأة العربية لعبت دورها جيدا في هذا الفن المستحدث نذكر منهن على سبيل المثال: ليلى العثمان كاتبة التزمت باحدث ما تطورت اليه القصة القصيرة من ناحية الشكل والمضمون واشتهرت بمجموعتها الثانية «في الليل تأتي العيون» وتصدرت بها في وقتنا الحاضر القائمة التي تحمل اسماء اخواتها على الطريق الممتد للابداع الفني امثال ليلى محمد صالح وعالية شعيب وغيرهما ولم تزل ليلى تعد بالكثير من الابداع في اصرار لتمسك عصا الريادة في هذا الوقت.
وصوفي عبدالله وجاذبية صدقي من اجيال سابقة في مصر ومازالتا على درب الابداع وتتميز مجموعاتهما بتصوير التحرر العاطفي للمرأة العربية بعد الكبت الطويل والحرمان اللذين أذلا روحيهما.. فاتسم القص عندهما بالصراخ المحتج العنيف في وجه ماعاناه الجنس الانثوي طوال عصور الانحطاط.. وتنضم اليهما اللبنانية «هند سلامة» وتجيء السورية «غادة السمان» لتعالج قضاياها على مساحة واسعة.. ونحن كثيراً ما نرى الكثيرات منهن في ايامنا هذه او من قبل باعوام قليلة مازلن يحاولن عن طريق النشر في المجلات او باصدار المجموعات القصصية عن دور النشر المختلفة الا انهن لم يخرجن حتى الان عن نطاق التجريب وبالتالي لم يكتسبن سمات متميزة مثل سابقاتهن اللائي صعدن على درج هذا الفن.
ونعود لـ «ليلى العثمان» لانها مثل المرأة الكويتية في هذا المجال ونذكر ما كتبه عنها الاديب الكبير «حنا مينه» يقول الاستاذ «حنا مينه» في تقديمه لمجموعتها «في الليل تأتي العيون»: [أوكد، بغير تحفظ، ان ليلى العثمان من الذين يقدون الضلع ليصنعوا قصة دون ان تدع لنا، نحن القراء، ان نرى آثار الدماء على صدرها او اطراف اناملها، فهي تخفي، بمهارة المبدع، كل الغضون التي تخلفها المعاناة على جبينها وتطل علينا بوجه الق، حتى لنحسب ان الاشياء قد انقادت لها بيسر، وانها تكتب بالبساطة التي تتكلم بها.
ولو كان لي ان ابخل على الفن بتضحية، او اؤثر السلامة على المفاداة، لحذرتها ان تتبع من سبقوها على هذه الطريق.
لكن الكاتبة التي تريد ان تكون شاهدة على عصرها، قد صممت على اجتياز المعبر البارد، هي تملك كلمتها ولديها ما تقول، وتعرف كيف تقوله، ويبقى الثمن، تجربة حياة ومحنة صياغة، ويبقى هذا الحب الانساني الذي يصدح في السطور، وهذا الشعور الوطني الكريم والفهم العميق للبيئة، مؤسسا على وعي ان المجتمع في ظل نظام شديد التفاوت، ينتج تفاوتا في الاعراف، والسلوك، والنظرة، ويتحجر على سلفية منطق، يعطي الرجل ان يكون نخاسا، ويجعل المرأة سلعة في عالم ذكوري يصادر في الانثى حتى المشاعر الذاتية فيسلبها الحق في ان يخفق قلبها ككائن بشري.
الفرق ما بين ليلى العثمان، واكثر الكاتبات اللوائي عرفهن الوطن العربي، منذ النصف الثاني من هذا القرن، انها لا تكتب لتتكسب شهرة، ولا تقص لتنفس عن كبت تعانيه، ولا تطرح اشيائها النسائية، معزولة عن دوافعها الاجتماعية، مجردة من الخاص الذي يندغم بالعام، فارغة من الدلالات التي تتهم وتدين وتياسر الى التغيير، مقصورة على دغدغات للحواس الجنسية التي سئمناها في نتاج بعض كاتباتنا وتقززنا لكثرة ما فيها من اثارة رخيصة للغرائز البهيمية.
ليلى لا تصافح الواقع، لا تراه قدراً، لا تعتبره صنما، لا تنوء تحت وطأته لا تهرب منه الى الامام بل تواجهه، ترفضه، تقاومه، تستأنف ضده، وتومئ الى واقع آخر، احلى وابهى ومن هنا تملك قصتها الاضافة المستقبلية، تملك بعدها الثالث وتتجنب مطلب التوفيقية والنقدية النائحة].
هكذا رأى الاستاذ حنا مينه القاصة الكويتية ليلى العثمان وهي على الدرب ولم يكتب عنها الا بعد ان رآها قد استوعبت عناصرها من مناح فنية قصصية ناضجة وارتفعت فوق السردية الاخبارية ايمانا منها بان قارئها واع مثقف لا يريد منها البيضة منزوعة القشور بعد سلقها بل يريدها ان تتركها هو ليراها تتمرس لتؤكد موهبتها ويستشفها من بين السطور دامجة تجربتين احداهما حياتية واخرى فكرية رامية الى احداث التفاعل بينهما.. التفاعل الساخن على نيران ما يخبئة صدرها من احساسات وتفاعلات وجدانية.
القصة بين النشوء والارتقاء
ان عالم القصة عالم واسع رحب عميق يتناول كل ابعاد الحياة واشكالها.. ويجب على اي دارس ان ينظر الى القصة من خلال منظورين في منتهى الاهمية اولهما منظور ان القصة خليط من العمل الواعي المدروس مشوب بحرارة الاحاسيس العاطفية ومضاء بالمواهب الفكرية وقادر على احداث الفعل لدى الملتقي بمقدرته على الابداع والتخيل والتصوير والعودة من الماضي بما هو منقول من روائعه بعد تطويعه ليناسب التذوق الادبي المعاصر. فيتأكد للدارس ان القصة حريّ بها ان تكون علما وموهبة وادباً منهجيا ودراسة وتجربة وهذا لا يخرج عن كونه عناصر يتزود بها القاصّ الموهوب ويضفي عليها من موهبته ويخزن فيها من الطاقة الوضعية لاحاسيسه ثم يطلقها في أفق الملتقي بحركية مطلقة وحرارية مؤثرة لتكمن في نفسه بصورة وضعية ولا تزول بمجرد زوال وقت قراءتها – بهذا تكون القصة عملا ادبيا وفنيا متكاملا..
ثانيهما منظور ان القصة – بالقياس الى غيرهما من الاجناس الادبية والفنون الاخرى لها السياحة المطلقة في دنيا الناس والتأثير عليهم على مدى العصور المختلفة بما لها من مرونة وشمولية وهي بهذا تحررت من القيود الوضعية والقوانين التي هي اشبه بقوانين الرياضيات فلم تسجن في دهاليز الاصول ولم يوصد عليها في توابيت القواعد ولم تغلف باغلفة الانماط ذلك انها تنشأ ثم تتطور وترتقي، وعبادها المستول عليهم سحرها ينتظرون ماذا ستكون صورتها وهي على اهبة تجاوز حدود الارتقاء.. بعض العلماء المتأدبين يقول: لو كان العالم النباتي الشهير «دارون» صاغ نظريته عن الخلق والتطور صياغة فنية باسلوب القص السائد على مدى اعوام القرن العشرين لما حكم على فروضها بالاغلاق عليها في توابيت النسيان.
فلا مندوحة اذن ان كانت مذاهب الادب القصصي ضرورة استلزمتها حتمية التطور بين البيئات والشعوب.. ولا غرابة ايضا ان كانت القصة دافعة بدورها الى ظهور هذه المذاهب على اختلاف اشكالها متأثرة بها في ذات الوقت ليتوازى الخطان في مساريهما الا وهما خط الاديب القاص المبدع وخط الناقد الواعي الدارس لعلم القصة مع الاحاطة بأنه لولا القاص لما كان الناقد ولولا الناقد لما كان القاص المطور، ولما ارتقت القصة عن نشوئها. كما يلاحظ ان المبدع وناقده لا يلتقيان ابدا لأن في التقائهما خطورة على العمل الادبي ذاته.
ويتفق في هذا الكثير من النقاد وبالاخص الاستاذ حسني نصار٭ بافتراضيه اللذين يقول فيهما: هناك – في هذا الصدد – افتراضان يكاد كل منهما ان يكون وجها مكملا للآخر رغم ما يبدو من تعذر الجمع بينهما في تحديد مفهوم العمل القصصي…
الاول: يفترض ان ادب القصة يدين بوجوده وتطوره للنقد الادبي.. ولو اخذنا بهذا الافتراض لأصبح لزاما على كل موهبة ادبية ان تستجيب الى توجيهاته وتصنيفاته، وتطور مذاهبه، وتساير ركبه وتلتزم بقواعده. وعندئذ تكون كلمات القصة واسلوبها والشكل الذي يصب فيه مضمونها وارتباط ذلك كله بالبيئة، وبالعصر والالتزام بتطورهما.. كلها عناصر يتكون منها الهيكل الفني للقصة، بغض النظر عن ملاءمة ذلك للمضمون الحقيقي للأحداث، واثرها في نفس الكاتب، وبالتالي فإن المبالغة في الربط بين القصة والنقد في هذا الاطار يتحول بها الى صنعة والتزام واداة ذات اهداف محددة، ويتضاءل الى حد ما عنصر الموهبة والجمال والمتعة، والتأثر الذاتي، ويصبح فن القصة، فنًّا وظيفيا موجها، أو وظيفة ادبية كأي وظيفة من وظائف المجتمع الاخرى.
الثاني: يفترض ان النقد الادبي، يدين بوجوده للقصة، ولو اخذنا بهذا الافتراض لانطلقت الموهبة الادبية بفنونها الابداعية متحررة من كل قيد أو توجيه غير متقيدة بأية مقاييس شكلية أو موضوعية، ولو اختلفت اتجاهاتها بين المذاهب الادبية المختلفة، لانها انما تصدر عن انفعال ذاتي بأحداث أو تطورات معينة، يستوي ان تكون خارج الذات أو داخلها حتى لو انفصلت عن الواقع الاجتماعي.. وحتى لو انعزلت عن التطور الجماعي للجماعة كلها، أو شذّت باتجاهها عن اقتناع ذاتي للكاتب يعبر عنه بالصدق الفني.. وانما يقاس الصدق الفني في هذه الحالة بمقاييس الكاتب الذاتية أو الفردية وعندئذ تكون الاحداث، هي مصدر التأثير الحقيقي لانفعال الكاتب، ويكون المضمون الفعلي للقصة هو ما يريد الكاتب، لا ما يريد الناقد.. ويقتصر دور النقد على متابعة التطور التلقائي والابداعي لفنون القصة، ويصنفها وينسّق بينها ويسندها الى هذا المذهب أو ذاك ويحدد مدى اثرها في التطور الحضاري والفكري، ثم يوضح قيمتها ويحدد مقاييسها وقواعدها على اساس ما يستقرئه من هذه الفنون واتجاهاتها المختلفة.
ولا شك ان المبالغة في الربط بين القصة والنقد في هذا الاطار يؤدي الى الشطط.. وطغيان الموهبة على الدراسة والعلم.. والايغال في الذاتية والفردية، والمغالاة في تطبيق مبدأ «الفن للفن».. وما قد ينطوي عليه هذا المبدأ من جنوح عن واقع التطور الحضاري في المجتمع أو البيئة.
الإبداع الفني ونقده منهجياً
هنا تتجلى حتمية الموازنة بين الابداع الفني للقص ونقده منهجيا وهذا لا يتأتى الا عندما نعي الكيفية في تعاملنا فكريا ووجدانيا مع الفن القصصي ولا نخوض مثلما خاض الذين تعاملوا مع الادب بمناهج طورتها العلوم أو الذين تمكنوا من ان يميزوا انواعا عديدة من التحولات في دراسة الادب في محاولتهم القائمة على منافسة المثاليات العلمية العامة من حيث الموضوعية وانعدام الشخصية واليقينة وهي محاولة تقوم في عموميتها على تأييد تجميع الحقائق المحايدة.. أو الذين استهوتهم محاكاة مناهج العلوم الطبيعية من خلال دراسة المسببات السالفة والمنابع الاصلية.. كل هؤلاء وجدوا انفسهم يزجون بالمناهج الكمية التي يصلح استخدامها في بعض العلوم مثل الاحصاء والجداول والرسوم البيانية واخيرا هناك محاولة قام بها من يريدون استخدام المفاهيم البيولوجية في تتبع نمو الادب والغريب ان كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تبد أي ضوء على العلاقة الوطيدة بين المبدع وناقده بل ساهمت في اتساع الفرق بين البحث والتذوق واصبح الناقد محتارا بين ان يبحث في النص الادبي أو يتذوق جماليات النص الادبي.. وهنا يجدر بي ان اقول ان زميل الصنعة هو القادر على كشف عيوب ومزايا صنعة زميله.. اعني ان الشاعر لا ينقده نقدا سليما الا شاعر مثله كذلك القاص لا يستطيع ان يكشف جماليات فنه غير قصاص مثله والدليل واضح للعيان وهو الاجابة عن هذا السؤال: ممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن القصائد؟، وممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن القصص؟ وممن تتكون لجنة التحكيم لاختيار احسن مقطوعة موسيقية؟.. الخ.. اما الدارس المعني بالبحوث الادبية.. ان كان دارسا للشعر فلا يهمه غير علم الشعر وان كان معنيا بالقصة فسوف يركز اهتماماته على علم القصة.. اذن هناك آداب وعلوم تختص بهذه الاداب والكل يهدف إلى ابراز الجماليات ليستمتع المتلقي واكبر مثال على ذلك هو فن «الاوبرا» وهو نوع من «ميلودراما» المسرح وفيه قبل العرض المسرحي يوزع على المتلقي كتيب به النص المقروء.. يقرؤه ثم يجلس منتظرا العرض ليستمتع بما فيه من ابداع موسيقي وأداء تعبيري بالصوت وبالمثل فن «الباليه» فهو يحكي قصة بالاداء الراقص على انغام الموسيقى المعبرة فلولا العلوم لما علمنا ان «الاوبرا» لون من الوان «الميلودراما» وهي المشجات وهي تمثيلية عاطفية مثيرة تعتمد على الحادثة والعقدة اكثر مما تعتمد على تصوير الشخصيات.
اذن فالعمل الادبي او اي فن من الفنون يحكمه اربعة كل منهم لا يقل اهمية عن الآخر: اولهم المبدع يحكم العمل قبل اخراجه والثاني والثالث والرابع وهم الناقد ان يستوعب ذهن الدارس وتذوق القارئ ولا يدخل الى العمل الادبي الا بهذين ولا يفعل مثلما فعل الدكتور «شوقي ضيف» في جندول «علي محمود طه» اذ اقتحم القصيدة بذهنية الدارس غير معول على ذوق القارئ وبالتالي لم يتعد نقده الصفحات التي كتب فيها…
الطاقة الانفعالية والشعور العاطفي
ان الموازنة بين الابداع القصصي والنقد المنهجي لازمة ضرورية لاثراء العمل وارتقائه بعد نشوئه.. موازنة بين الاحداث كمحتوى وبين الصياغة التي تحدد معالم الهيكل الفني..
..موازنة بين الاحداث وما بها من واقع متجسد وبين اسلوبه المبدع في نمطه الاسلوبي وطريقة صياغته وذكائه البارع الذي يلجأ اليه لجذب قارئه ليعيش احداثه.
.. موازنة بين الجمالية الفنية تحدوها الموهبة في تحركها وبين المنهج العلمي او القياسي الذي يقف وراءه الدارس الواعي بهدف التفتيش عن المغزى الذي ترمي اليه القصة واسلوب سير الاحداث فيها من ناحية طرح القضايا الاجتماعية والنفسية والخلقية والعلاقات التي تربط بين شخصيتها المحورية وشخصياتها الثانوية الى غير ذلك من نوعية اساليب التحرك الدرامي.
.. وهناك موازنة بين الطاقة الانفعالية مصدرها الأنا الفاعلة ومعاناة الشعور العاطفي التي يدفعها القاص كشحنة كهربائية في قصته وبين مدى استعداد التلقي لاستقبال هذه الشحنة ويعضد هذه الاقوال الاستاذ الناقد «حسني نصار» بقوله: [ان كتابة القصة ليست خلقا ابداعيا مطلقا.. وليست اسلوبا منهجيا مطلقا.. وانما هي مزج كامل بينهما.. يتطلب من الناقد في الوقت نفسه ان يتقمص شخصية كاتب القصة التي ينقدها..
والواقع ان شخصية الفنان او الاديب لا تحمل موهبة الخلق والابداع فقط. بل وتحمل أيضا موهبة التذوق الفني والادبي ففي كل كاتب تزدوج (او يجب ان يزدوج) الموهبتان. وتعملان معا في وقت واحد على صياغة العمل الادبي ووضعه في قالبه المناسب.. وكلما توازنت الموهبتان في شخص الكاتب، الى جانب الدراسة والتجربة كان اقدر على السير بفنه وادبه الى غايته من التطور.
وحينما نتحدث عن ادب القصة. نعني به دعامتي هذا الادب من الخلق والنقد اي القصة وتزوقها او بعبارة اخرى.. العمل الادبي ودراسته ونقده].
الكاتب والناقد مساري متوازي
وبهذا نستطيع ان نتجه الى ما يلي:
- مسار كاتب القصة ومسار ناقده يجب ان يتوازيا ولا يطغى احدهما على الآخر.
- يجب على كل منهما ان يتبصر لما يفتح له الدارس من مجالات في الوقت نفسه الالمام بذوق القارئ.. ذلك ان كاتب القصة، لا يمكن ان تكتمل له المقدرة على ممارسة أدبه ما لم يكن على غير قليل من الفهم والعلم بالدراسات الادبية للعمل القصصي ومذاهبه.. كذلك الناقد فان مقدرته على التذوق الفني او النقد الادبي، لا تكفي فيها دراساته مهما اتسع شمولها ما لم تقترن بموهبة قصصية، تتميز بغير قليل من الحساسية وصدق المعاناة.
- النقد الأدبي يعتمد بدوره على عنصرين مهمين هما.. التذوق والدراسة فالناقد الادبي هو «الذواقة» او الملم بذوق قراء العصر والدارس للفن او للادب الذي نقده فيجب عليه ان يكون حساسا في تذوقه الادبي لان التذوق بطبعه حاسة فطرية وغريزية تستمد وجودها من حواسنا وغرائزنا.. ويجب عليه ايضا ان يكتسب صفة التعمق في الدراسة.
- قد يخطئ من يظن ان النقد هو الحكم على الاشياء او الاعمال فقط لانه بجانب هذا هو ادراك مشوب بانفعال الحواس وتأثرها بالعمل الادبي او الفني.
- قد يختلف التذوق وبالتالي على العمل او نقده وهذا أمر طبيعي لاننا متفاوتون في القدرة على الادراك.. فالعمل الادبي هناك من يدركه ادراكا واعيا وهناك من يقبل عليه بادراك غير واع وكلا الاثنين يختلف درجة ومعيارا باختلاف البيئة والثقافة وغيرهما من العناصر التربوية والاجتماعية والنفسية.
- قد يبتهج اثنان بالسرد الفني والحوار الرائع في قصة من القصص لكن درجة ابتهاجهما ومعياره يختلفان بحسب ادراكهما لجماليات القصة.
لا يشترط في الناقد ان يكون قصاصا او قادرا على كتابة قصة في حين انه لو هو كذلك فسوف يبذ في نقده من هو غير ذلك.
- يجب على كاتب القصة ان يكون قادرا على تذوق عمله او اعمال الاخرين فضلا عن تفهم ما يجريه النقاد من دراسات ومعايير نقدية ومقارنات في الادب الذي يمارسه في حاضره وماضيه.
ليس بالمبالغ من قال ان كاتب القصة هو اول ناقد لها قبل اخراجها للنقد العام لانه بالفعل ينقد احداثها بصورة او بأخرى ولكنه يستمد حكمه على الاحداث من خلال تأثره وانفعاله ومعاناته.
وأخيرا نستطيع ان نقول ان الجمع بين الابداع ونقد الابداع ضروري جدا لكاتب القصة.
هوامش
٭ انظر «الحركة الأدبية والفكرية في الكويت د. محمد حسن عبدالله إصدار رابطة الأدباء في الكويت عام 1973 ص 413 وما بعدها.
٭ اقرأ مقاله عن «جذور القصة الحديثة في الأدب العربي القديم، على صفحات مجلة «الكاتب» المصرية العدد 188 نوفمبر 1976 ص24 حتى 27